مجتمع

مارلبورو ..القاتل

شريف حتاتة


اتحدت شركتان دوليتان عملاقتان وأدمجتا عملهما. 13 مليار دولار من إنتاجهما أغلبه لدول العالم الثالث، لن يهنأ فرد واحد بسنت منها، فالإنتاج مخصص لصناعة المرضى، والإيقاع بالأصحاء، وحصد الأرواح . هذا بينما تتراجع مبيعات التبغ في دول العالم الأول .
يوم 13 يناير سنة 1999 أعلنت ” الشركة الأمريكية البريطانية للتبغ ” وشركة “روثمانز العالمية ” عن اندماجهما في شركة واحدة ضخمة وصل رأس مالها إلى 13 مليار دولار ، وهو اندماج سيدفع إنتاج وتوزيع السجائر بشكل كبير بسبب الإمكانات التي ستتوافر لهذه الشركة العملاقة الجديدة . ومن المتوقع أن يصل إنتاجها إلى 900 مليون سيجارة يوميا . هذا في الوقت الذي بدأت فيه مبيعات التبغ تتراجع بشكل ملحوظ في الغرب. فإلى أين سيذهب هذا الإنتاج المتزايد ؟ .
سوف يذهب إلى بلاد العالم الثالث بالطبع . فقد صرح أحد المتحدثين باسم الشركة بأن السوق المستهدفة لتصريف هذا الإنتاج هي: الصين، الهند والشرق الأقصى، والأوسط، وأفريقيا. وعندما احتجت بعض الجمعيات المعارضة للتدخين في بريطانيا على هذا الاندماج ، لأنه سيؤدي إلى رفع نسبة الوفيات ، عقبت الحكومة على ذلك بأنه لا توجد مخاطر من هذا النوع ، لأن الشركة ستسعى إلى استمالة المزيد من المدخنين في العالم الثالث !! وذلك بسبب القيود، والضغوط، وحملات الإعلام المضادة للتدخين التى تنتشر فى بلاد الغرب .
المطلوب إذن ان تترك الحرية لشركات التبغ المتعددة الجنسيات لتشيع الخراب، والموت بين الشعوب الفقيرة في آسيا وأفريقيا، والمنطقة العربية، وآسيا الوسطى. أليست هذه البلاد سبب النمو السكاني المتزايد الذي يعاني منه عالمنا المعاصر ؟ . أليس من الطبيعي ان نضحي بالاجناس المتخلفة التي تهدد التقدم الحضاري للغرب ، حتى تربح الشركات التي تتاجر في السموم ، والأسلحة ، باسم حرية التجارة ورفع القيود عن حركتها ؟ .
تتنبأ الإحصائيات أن عدد الوفيات سيرتفع نتيجة زيادة استهلاك التبغ ، إلى حوالي 4ملاين بحلول عام ٢٠٠٠ ، لتصل إلى 10 ملايين في سنة ٢٠٣٠ ، وتتركز معظمها في دول العالم النامي . فبالرغم من تراجع عدد المدخنين في الغرب بشكل ملحوظ ، فإن مبيعات السجائر في ارتفاع مستمر، وذلك بسبب نمو عدد المدخنين في البلاد النامية بنسبة مرتفعة سنوياً.
وفى مصرلا توجد إحصائية عن عدد المدخنين . ولكن ليس خافيا أن تدخين السجائر ظاهرة منتشرة للغاية بين كل الأجيال، والطبقات، وأنها في تزايد مستمر على الأخص بين صفوف الشباب، وقلة من الشابات. كما أنها تسربت إلى المراهقين ذوى الأعمار المنخفضة نسبيا. ومع ذلك لا يوجد أي نوع من أنوع التوعية المنظمة ، ضد الأخطار الجسيمة للتدخين على صحة الملايين وحياتهم. ولا يوجد تحرك لهيئات مثل كليات الطب، أو نقابة الأطباء، أو وزارة الصحة، أو وزارة التعليم العالي، أو وزارة البيئة، أو وزارة الأعلام ، لمقاومة هذا الخطر الداهم، ولا تلعب أي دور في إقناع الناس بضرورة الإقلاع عن هذه العادة. التلفزيون، هذا الجهاز الخطير صامت، أو مشارك. والإعلانات الداعية إلى التدخين تتربع فوق مباني المدينة، وفي مواقع استراتيجية من الشوارع ، عارضة رعاة البقر يعبرون عن رجولتهم، وذكورتهم الفظة بامتطاء الجياد، وتدخين السجائر ماركة مارلبورو التى تنتجها شركة فيليب موريس ، أكبر شركات إنتاج السجائر في العالم، والتي أجبرت على دفع ۲۰ ملیار دولار تعويضاً للمدخنين في أمريكا عن الأضرار التي لحقت بصحتهم وحياتهم ، بعد صدور حكم المحكمة بذلك . إنها صورة تنشر في الوقت نفسه ، الإحساس بسيطرة الكوبوي الأمريكي على حياتنا.

سيجارتان بلمونت

في أوائل أكـتـوبر سنة 1939 ، التحقت بالسنة الإعدادية لكلية الطب. في تلك الأيام كنت لا أزال من سكان الزمالك. وكان لي زمـيـل اسـمـه هنری ، أصبح الآن طبيب أمراض نساء، وتوليد في نيويورك. يسكن على مسافة قريبة مِني. في الصباح يقلنا الأتوبيس معا وفي جيب كل منا سيجارتان بلومنت أو هوليوود فرط ، كان سعرهما على ما اذكر قرش صاغ. وكانت معنا في السنة الإعدادية نفسها، فتاة اسمها عنايات على قدر من الجمال . تصعد إلى الأتوبيس في العباسية لتسير معنا حتى قصر الزعفران ، حيث كلية العلوم التي كنا ندرس فيها لمدة سنة تمهيدا للانتقال إلى كلية الطب. فما أن نلمحها تحتل مكانها حتى يخرج كل منا سيجارته ويشعلها بعود ثقاب. لا نتحدث إليها ولكن نكتفى بإلقاء نظرات جانبية ناحيتها ، للتأكد من أنها رأت سحب الدخان، وهي تنبعث من أنوفنا علامة الرجولة والارتقاءإلى مستوى من النضج يلهب مشاعرها .
منذ تلك السنة البعيدة لم أتوقف عن التدخين إلا في سنة 1975 ، أي بعد ست وثلاثين سنة. في ذلك الوقت كنت أعمل خبيرا في منظمة العمل الدولية بنيودلهي عاصمة الهند ، فحضرت ابنتى ” منى ” ، وأخوها ” عاطف ” على حساب المنظمة ، لزيارتي هناك وفقا للنظام المعمول به في منظمات هيئة الأمم المتحدة. وتصادف في أحد الأيام أن كنا نتنزه في حدائق لودي، وألح ابني الذي كان سنه تسع سنوات على شراء بعض الحلويات ، رغم أنه كان قد فرغ على التو من التهام قطعة كبيرة من الشيكولاته. قلت كثرة الحلويات مضرة بالصحة .. يجب أن تكف عن هذه العادة السيئة التي جعلت وزنك يتزايد . فصمت لحظة ثم قال: ” ولماذا لا تكف أنت أيضا عن عاداتك السيئة ؟.” سألته : ” وما هي عاداتي السيئة ؟ “. قال : ” تدخين السجائر “.
فى تلك الليلة تملكني إحساس من القلق. فأنا أنصحه بأشياء دون أن أكون أنا نفسي نموذجا لها. أفعالى لا تتفق مع اقوالي ، ولذلك لن يكون لها أثر . فقررت منذ تلك الساعة أن اقلع عن التدخين، وفي الصباح أبلغته بقراري. ولم أدخن أبدأ بعد ذلك، رغم الأسابيع المتوترة التي مررت بها، واللحظات الحـرجـة التى ظلت تطاردني في بعض المناسبات الصـعـبـة. أحسست كأنني أولد من جديد ، أن قدرتي على النشاط الذهني والجسماني تضاعفت. زال عنى الإحساس بالتوتر، والإرهاق في آخر النهار. انتظمت أنفاسي، ودقات قلبي. أصبحت أقفز من السرير في الصباح ، بعد أن تخلصت من الوخم الذي كان يلفني من قبل في ساعات الاستيقاظ. تبخر السعال، والبلغم، والآلام الغامضة التي كنت أشعر بها في أجزاء مختلفة من جسمى. توقفت نوبات عسر الهضم، والإسهال التي كنت أعاني منها. أحسست بمعنویاتی ترتفع وبإرادتي تتجدد.
ظل ابنى ” عـاطـف ” عـازفا عن التدخين ، حـتى وصل عـمـره إلى اثنتين وعشرين سنة. في حجرته كان يضع لافتة صغيرة ، كتب عليها : ” أنا لا أدخن الرجاء عدم التدخين “. لكن بعد ذلك تحول إلى مدخن شره . كلما رأيته يشعل سيجارة، ويبتلع دخانها ، أشعر كأن صدري أنا يحترق. أتخيل السموم وهي تتسرب إلى رئتيه وتنتقل في الدورة الدموية إلى كل أجزاء جسمه. أتخوف من الأمراض التى يمكن أن تصيبه، من النزلة الشعبية الربوية أو المزمنة، من أمراض القلب ، والشرايين، ومن ضغط الدم، أو اخـتـلالات التـغـذية الدموية للمخ وانسدادها . من عسر الهضم، وقرح المعدة، وقبل كل ذلك مما هو اخطر، من السرطان، وعلى الأخص في الرئة. فقد رأيت أصدقاء كثيرين تعذبوا وماتوا منه .

قدمی تسقط مِنی

كان الكاتب الصحفی” صلاح حافظ ” صديقي ، لكنه غاب عنا منذ سنين. كنت أحب فيه ذكاءه الحاد، وموهبته كصحفی ، خصوصا عندما كان يشهر قلمه لمقاومة الظلم. كنت أحب البراءة التي تطل من عينيه، وضحكة الولد الشقي. لكننا لم نكن نتزاور كثيرا. في السنين الأخيرة من عمره ، أخذت حياته مسارا أبعد بيننا. مع ذلك بين الحين والحين كنا نتزاور. نقتنص الفرصة لجلسة حميمة ، تنهار فيها السدود لنواجه الحقيقة دون مـوارية . يصارحني قائلا:
” أصلى أنا ساعات أهرب منك. أنت بالنسبة لى زى الضمير” . أضحك وأقول له: ” یعنی دمی ثقيل “. يـقـول لا والله ، ولكن أنا عايز ارتكب الذنوب اللى أنا بارتكبها، وتأنيب الضمير مش حيخليني أستمتع “.
عندما مرض زرته في بيته بشارع الهرم. كـان قـد أنهى علاجه في السويد بعد أن نصحوه بالعودة إلى مصر. أدركت أن النهاية أصبحت قريبة منه. وجهه لم يتغير، وجه الطفل . لكن تسرب إليه شئ كالفساد الخفي يصف تحديده. العينان كما هما. صفاء بني اللون ، يطل التأمل منهما. يقول لي : ” مشيتي تتعثر أحيانا فجأة ، انظر كيف أن قدميّ تسقط إلى أسفل “. أرى السؤال القلق في عينيه. ماذا يمكن أن أقوله ؟ . إن سرطان الرئة وصل إلى مداه ، وألقى بقذائفه في أجزاء جسمه. إن التدخين طوال السنين، مع الإهمال المفرط في صحته ، قضى عليه لتدفن موهبته، وتنطفئ شرارتها قبل الأوان.
الآن ، أصبح بيني وبين التدخين عداء مستحکم . فابنى يدخن ، وكلما رأيته ينفث سحب الدخان في الهواء ، عادت إلىّ صورة صلاح وهو يمد ساقه أمامي ويسألني بقلق . وكلما رأيت شابا يدخن وأنا اتريض على كورنيش النيل في جو الصباح المشرق ، تملكتني رغبة في الصراخ لأنبهه، ولكني أدرك أن الصراخ لن يغير شيئا.
أتساءل هل السياسة، والثقافة مؤتمرات، ومهرجانات وانتخابات، وأحزاب، وصراع حول السلطة، ومناقشات في مجلس الشعب وكفى ، أم شئ آخر؟؟. ألا يمثل فى أساسها ، تجنيد كل طاقاتنا لمقاومة الأشياء التي تضر بحياتنا، ومنها محاصرة القائل مالبورو الذي يحصد أعمار شبابنا ؟؟؟.
من كتاب ” فى الأصل كانت الذاكرة ” 2002

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى