مجتمعمنوعاتمنوعات

للعقول الراقية

تنقية العقل من الوعي العام الفاسد

محمد رياض اسماعيل
باحث

للعقول الراقية اهدي هذا المقال..
نستقي الوعي من مجتمعاتنا منذ نعومة الاضفار والنشأة الأولى، ومع الزمن تزداد مساحة ذاكرة العقل في خزن وترسيخ المفاهيم والتعابير والأفكار التي نتكيف لها، خصوصا تلك التي توفر لنا الأمن والأمان والطمأنينة والتي تستهدف بقاءنا أحياء في الحياة. تترسخ تلك المفاهيم المستسقاة من ذلك المعين الاجتماعي كصور فكرية في الذاكرة، لتصقل الخصائص الشخصية لنا او للفرد في المجتمع، وتُثبَت كمعتقدات يتكيف لها العقل ويأتمر بها كالدين والعَلَم والقومية وغيرها، ثم يصبح الفكر المضاد لهذه المعتقدات دخيلا على العقل وهجوما خطرا ومساسا بشخصيته (مثل الجراثيم والمكروبات)، لا يلبث ان يستشعر به العقل، حتى يتهيأ لصد الهجوم الدخيل بدفاع مستميت لا يقبل الجدال الا الرفض. على غرار ميكانيكية عمل خلايا الأعضاء في جسم الانسان، حيث ترفض الاجسام الدخيلة كالميكروبات وتحاربها بوسائل شتى، لأن الخلايا تحتوي على صفات تقاوم التغيير، ويحدث الشيء نفسه حين يتكيف الانسان لمفهوم يترسخ في الذاكرة كصورة فكرية، لا يقبل باي فكر مغاير او معاكس لتلك الصورة المترسخة.. ولعل من الضروري الانتباه الى ان الصور الفكرية تترسخ في الذاكرة (معين القرارات) تحت بعض التأثيرات، كالخوف او الرغبة او البقاء، او لمساسها بالمصالح الانانية الأخرى، مما يجعل الانسان متمسكا بالمعتقدات التي تؤمن وجوده في الحياة، وتحقق رغبته في استكمال حياة (الاخرة) !، فاذا كانت بعض المفاهيم قابلة للتحوير وتتعقد عبر الزمن، فالمعتقد جدار منيع صعب الاختراق، أكثر البشر يستسلمون لهذه الآلية المتوارثة من بودقة الوعي العام الاجتماعي، التي تجلب لهم الراحة النفسية والاطمئنان والتقدير الاجتماعي، فتصبح تغيير العقائد للنشء القادم صعبة للغاية، إلا اذا تم حقن الوعي العام المجتمعي بقيم علمية مدحضة للخرافات ناتجة عن تجارب علمية رصينة، تلك التي ترسخ في ذاكرة الانسان صور فكرية جديدة أكثر قبولاً ونفعا وامانا لوجوده واشباعا لانانيته. والقلة القليلة من المجتمع (من المتنورين)، يبحث في تغيير صوره الفكرية ووجوده خلال الملاحظة والتأمل.
ان الملاحظة او المراقبة الثاقبة مهمة في الحياة. الملاحظة او المراقبة فن لا يمكن تعريفها او وصف كيفية اجراءها، ويفترض تعلم هذا الفن دون تشويه او تحريف، دون أي دافع او غرض، فقط بالمراقبة المحضة للشيء فحسب، لترى الجمال الخارق للأشياء كما هي بوضوح واصالتها دون اية تشويه. ولكن إذا لاحظت الشيء من خلال المخزون الفكري المحفوظ في الذاكرة، أي تنظر للشيء خلال مرشح (مصفي) لِما تكتنزه الذاكرة من فكر مسبق عن الشيء الملاحظ، فان الصورة تتشوه، لأنها جاءت من تجارب الاخرين وافكارهم، وسكنت في ذاكرتك دون اي تشكيك او جهد فكري للملاحظة. فإذا كانت الملاحظة خلال وساطة مخزون الذاكرة، فهي ليست ملاحظة حرة بل مشوهة ومستعبدة. اما النظر الى الشيء الملاحظ بدون وساطة مخزون الذاكرة عن مفهوم ذلك الشيء، وبلا تشويه الوعي او تشويشه، يثبت الوجود ويحرر الذاكرة من تكييف وهيمنة الوعي العام الاجتماعي الفاسد. فإذن، إذا لاحظت الشيء خلال ما تعيه من محتوى الذاكرة والانا، ثقافتك وايديولوجيتك وجروحك وجشعك وحسدك وسعادتك وايمانك ومعتقداتك وتقاليدك وخبراتك العملية والعلمية، كل ذلك الذي يشكل وعيك، فان فكرت خلال الوعي (أي خلال ما تعيه) فان الصورة تتشوه، وفي النهاية لاتزال مُستَعبَدا من الاخرين، متكيفا للمتحكم على عقلك، فلن تتحرر ولن تثبت ذاتك ووجودك. الوعي يحاول ان يسود على كل ملاحظاتك، أي ان تترسخ الملاحظة من خلاله في ذهنك، يأخذ بالشيء الذي يستقيم معه ويرفض المخالف. اما التفكير بمعزل عن الوعي، أي بدون حركة الفكر لاستمداد العون من محتوى الوعي في الذاكرة، هو التحرر واثبات الذات والوجود. فحين لا تتمكن من هذا العزل، فان مسار الفكر يكون خلال محتوى الوعي، يستعبدك وتتكيف له بحسب مكنون الوعي المُخَزن لديك.
للخروج خارج محتوى الوعي، على المرء أن يفهم بوضوح مكان الفكر. للفكر مكانه الخاص في مجال المعرفة والتكنولوجيا وغيرها. ولكن ليس للفكر مكان في البنية النفسية للإنسان، بل هو فن وضع الأمور في نصابها، وإذا تواجد للفكر مكان في البنية النفسية سيؤسس للارتباك، ويظهر الصراع والتناقض بين الصور الفكرية التي تكتنزها عن نفسك وعن الاخرين. اُشَبه ذلك بالارتباك والفوضى في غرفة مظلمة ترمي بها الأشياء كيفما اتفق، ولكن إذا انرت الغرفة المظلمة، ستضع كل شيء في مكانه المناسب، وهذا هو المقصود بفن وضع الأمور في نصابها، اي أن نضع كل شيء في مكانه الصحيح.
من الممكن تجاوز محتوى الوعي، عند ملاحظتك مجمل حركته، وليس بكشف محتواه شيئا فشيئا. بالملاحظة العميقة وليس بالتحليل، لان التحليل سيفقد الشيء صورته ومعناه ويشوهه، بعكس الملاحظة التي تكتفي بدالة الشيء، فان حللت برتقالة بتقطيعها الى قطع صغيرة لمعرفة مكوناتها، ستضيع شكلها ولا تتمكن من الوصول الى معرفة دالتها وخوارزمية عملها الوجودي وأسلوب استمرار بقاءها. اما خلال الملاحظة العميقة، سترى ترابط دوال القشرة السميكة التي تحمي البذور داخلها (نسلها القادم) من اختراق الحشرات والتأثيرات البيئية، ومحيط الماء والغذاء اللازم لديمومة حياة النسل من البذور، ودالة الموت والحياة والتوارث فيها، وعلاقة تكاثرها مع تغير اعداد الموجودات الحية في البيئة من حولها، وهكذا تتعمق في الوجود بالملاحظة. اما التحليل فهو يؤدي للانقسام ثم الى الصراع، لان التحليل يعني ضمنا مُحلِل والشيء المحَلل، أي تقارن كل ما تصل اليه بالفكر مع مخزون ذاكرة وعيك (المستعصي) ثم يبدأ الصراع، هذا صح وذاك خاطئ! ويبدأ الانقسام ومع الزمن تتعقد مشكلة الانقسام. وعندما تحلل، يجب ان يكون تحليلاتك كاملة وغير ناقصة، لان اية نقص في التحليل سينتقل فيه العيب الى التحليلات اللاحقة، أي البناء على الباطل. لذلك ينمو النقص أكثر فأكثر. مثل التعليم المبني على الحشو في الصغر، ينتقل عبر الأجيال وتزداد خطورة مع الزمن، او كأن تضع طابوق البناء بشكل غير متراص، ليأتي تأثيرها على باقي الطبقات تباعا ثم يفضي الى جدار مائل آيل للسقوط! كذلك هو تحقيقاتنا التحليلية.
وملاحظة بعض المعتقدات الاجتماعية كالعفة وغسل العار ومقاييس الشرف (التي تذبح النساء في مجتمعاتنا) واعتبارات البطولات الذكورية، من معين الوعي العام المجتمعي الفاسد الراسخ في الذاكرة تخلق الانقسام، ويدخلك الى دهليز هذا صحيح وذاك خاطئ، لينتصر في النهاية الأمر الذي يستعبدك وتتكيف له بحسب مكنون الوعي المخزون لديك، ذلك الموروث الثقيل والمتعقد عبر الزمن..
فهل يمكنك الملاحظة او بالأحرى اجراء التحقيق بالملاحظة، دون الرجوع للصور الفكرية المخزونة في الذاكرة، ودون ان ترمش عيناك؟ لان النظر قد يخطفك الى مكان اخر.. فله تأثير على الدماغ، يمكنك ان تلاحظ او تراقب بنفسك باستقرار دون حركة العينين، لتستنتج بهدوء وبصيرة ثاقبة.. عندها تتطابق الشيء المراقب (المفهوم) مع ذاتك، وهو اثبات لوجودك وتحررك من الاستعباد الفكري لخزين الوعي العام الفاسد الذي أتت من تجارب ومعتقدات وافكار الاخرين (المقدسة!)، تلك الأفكار التي تتعقد مع الزمن وتمط لتلائم العصر! وفي النهاية لتكيف وتستعبد عقول البشر عبر العصور.
وهنا اود ان اذكر الطريفة التالية: عندما دخل الجيش البريطاني الى الكوت بقيادة الجنرال كوك، كان شيخ أحد جوامع بغداد في حي الحيدرخانة يخطب بالقوم عن حقيقة نصرة الله للمسلمين بجنود لن تروها، وضرورة دعوة الله بقلوب مؤمنة صادقة لإتمام نعمة النصر عليهم! ويدعوهم للصعود الى سطوح المنازل والدعاء لنصرة المسلمين، ففعل القوم ما امر به الشيخ، وفي اليوم التالي أخبروا الشيخ بان الجيش البريطاني وصل المدائن في حدود بغداد، فخطب الشيخ فيهم، وذكرهم بالآية الكريمة “ان ينصركم الله فلا غالب لكم”، هذه حقيقة، وهذا كلام الله ومذكور في كتابه فلا يمكن التشكك في كلام الله، ودعاهم للتوضؤ ورفع المصاحف والصعود الى سطوح الدور، والدعوة بإيمان وحرقة قلب وصدق للتذرع الى الله لنصرة الجيش الإسلامي ضد الكفار! وهكذا فعل القوم، وفي اليوم التالي قالوا للشيخ ان السيد كوك يصلي خلفك في الجامع! قال” وهذا مذكور في القران، في الآية التي تقول ” إذ تر كوكَ قائما في الصلاة!!” والاصل (إذ تركوك قائما في الصلاة). وجاء النصر بقدرة العقل، بالمدافع والدبابات والطائرات.. وقد تغيرت الصور الفكرية عند الكثير، حتى وصلت الى نقد الآية التي تقول (الم تر الى الإبل كيف خلقت)، فعندما رأى الناس الطائرات وهي قطعة حديدية تطير في السماء! جاؤا بالأهزوجة التي تقول ( ها ها متعجب خالقله بعيرة!)، وفي نفس الوقت كان الشيوخ يروجون على ان ذلك من فعل الجن والشياطين!
فهل يمكنك الملاحظة دون أي حركة فكرية تعارض وتتداخل مع ملاحظتك؟ إنه ممكن فقط عندما يدرك المراقب (الراصد) أن ما يراقبه (يرصده) واحد. اي الراصد هو المرصود دون انقسام. المرأة التي تُغدَرْ بها بسبب غسل العار او المطلقة، تذهب ضحية الوعي العام الفاسد لمفهوم غسل العار والافتراق! وملاحظة مفهوم وتسبيب غسل العار والافتراق او الطلاق بتجرد بلا انقسام، لن تتعدى كونها فعلا يستقيم مع البرمجة البشرية وخوارزمية الوجود. وقد تم معالجتها بشكل خاطئ في القديم وتعقدت مع الزمن واورثت الأجيال وعيا عاما فاسدا.. فالغضب لا يختلف عني. أنا عصبي، أنا غيور، فلا فرق بين المُراقِب والمُراقَب او الراصد والمرصود. هذه هي الحقيقة الأساسية التي يجب على المرء ادراكها. وللرصد بدون ذاكرة الراصد، فقط للرصد المحض، عندها سترى كل الوعي الفاسد يبدأ في الكشف عن نفسه دون بذل أي جهد، مما يعني في الملاحظة الكاملة او الرصد الكامل، أن هناك تفريغ يومي أو تجاوز كل الأشياء التي جمعها الفكر معًا والذي هو وعينا.
الواقعية التي صنعه الفكر ليست حقيقة. إنها واقعيةُ وحقيقةُ الفكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى