تعاليقرأي

كنا أربعة فى قارب

شريف حتاتة

منذ أيام دق التليفون وأنا جـالس أكتـب علـى المنضدة الرخام في المطبخ، فهذه هي جلستي المفضلة في كل مواسم السنة ما عدا الصيف. فـالمطبخ فـي شقتی واسع الأرجاء، تجهيزاتـه، وخزائنـه ألوانهـا زاهية، تدخله أشعة الشمس المشرقة، وتطـل نافذتـه على النيل، وعلى مدينة القاهرة. كان المتحدث صديقا جمع بيننا الاعتقال في سجن ” المحاريق “في أقصى جنوب الصحراء الغربية، يعمـل الآن محاميا في مكتب كبير للمحاماة. تبادلنا التحيات، ثم قال :
” قررت أن أتصل بك لأبلغك أن “محمـد عـزت ” توفى بالأمس وأنا أعلم أنه كان أحد أصدقائك، وأنـك ربما لم تسمع بالخبر “.
قلت :
” بالفعل لم أسمع. فانا أكاد لا أقرا الوفيات”.
قال: “سيقام السرادق الليلة في جامع “عمر مكرم”. ربما أردت أن تحضر إليه لتشـارك فـي العـزاء. “علـى الشلقاني” وزملاؤه الآخرون في مكتبنا سيحضرون إلى السرادق قرب الساعة السابعة مساء”.
شكرته على المكالمة، وسألته عن أخباره. بعـد أن انتهـت المكالمة عدت إلى جلستي واستأنفت ما كنت أكتبه. كانت الشمس قد اقتربت من المغيـب عنـدما أحسست
بالتعب فتوقفت. تذكرت مكالمة الصباح. لم أتعـود الـذهاب للتعزية إلا نادرا، إذا رحل صديق أو صديقة تربطني به أو بها عواطف قوية، أو إذا غاب أحد الأشخاص الذين أقدر صفاتهم. أما “محمد عزت” فقد فرقت بيننا السبل منذ أيـام الشـباب، أو بعدها بسنوات. لم ألتق به إلا عرضا طوال السنين التي انقضت منذ سنه ١٩٤٥. لكني بعد تردد قررت أن أذهب للتعزية بسبب المكالمة التي تلقيتها من صديقي في الصباح.

كان علىّ أن أقوم ببعض الالتزامـات السـريعة قبـل أن أتوجه إلى السرادق فوصلت إلى جامع “عمر مكرم” قبل الساعة التاسعة إلا الربع بدقائق، هبطت من سيارتي لأجد أفواجا مـن الناس يغادرون السرادق، ومن بينهم بعض الذين كانوا معـي في المعتقل. ذلك أن “محمد عزت” كان قد انضم إلى “الحركـة الديمقراطية للتحرر الوطني”، وهي إحدى منظمات اليسار، في ذات الفترة التي ارتبطت فيها أنا أيضا باليسار.
كانوا يتبادلون الأحاديث الضاحكة، ولم يبد على وجوههم الحزن. تصافحنا، وتبادلنا بعض الكلمات التي يتبادلها المعارف دائما عندما يلتقون مصادفة. “لابد أن نلتقـى. سأتصـل بـك لنتفق”، ثم تفرقنا، وصعدت أنا الدرجات القليلـة لأدخـل إلـى السرادق.
على الباب كان يقف رجلان لا أعرفهما، فشـددت علـى أيديهما معزيا، ثم تقدمت في الممر بين صـفـين مـن المقاعـد باحثا عن المكان الذي سأجلس فيه. لم يطل بحثى فالسرادق كاد يخلو من المعزين، بعد أن أنصرف أغلبهم. لم يبق سـوى عدد قليل جدا ،
ربما عشرون أو خمسة وعشرون جلسوا متفـرقين أو في تجمعات صغيرة يتحدثون. كان المقرئ، غائباً فظننت أول الأمر أنى وصلت بعد فوات الأوان، لكنـي لاحظت أن الجالسين لم يقوموا من جلستهم.
اخترت مكانا في عمق السرادق ، مواجها لمدخلـه بحيـث يمتد أمامي فأراه كله وأنا جالس. من حين لآخر كـان يدخلـه أحد المعزين، يتقدم من بعض الجالسين، فيقومـون، يشـدون على يده بقوة عدة مرات، أو يحيطونه بالأحضان، ويتبادلون معه القبلات، ثم يعودون إلى جلستهم الصامتة. أرى الوجـوه تتطلع أمامها حزينة، جامدة. أحيانا يميل أحدهم علـى الآخـر ليتبادلا بعض الكلمات الهامسة.
خطر في بالي. ترى كم منهم يشعر بحزن حقيقي، ولا يمثل الدور المطلوب منه في هذه المناسبات؟ . تذكرت أنه في المرات القليلة التي جلست في سرادق للعـزاء، كانـت تنتابني أحاسيس متناقضة ، الحزن على فقدان صديق رحل عنا، والسعادة لأنني مازلت على قيد الحيـاة ، أستطيع أن أحـرك جسمي، وأتنفس، وأتطلع إلى أيام قادمة يمكن أن أفعـل فيـهـا شيئا.
في لحظات كنت ألتقط نظرة تساؤل في بعض العيون. ظللت جالسا أتأمل ما يـدور. وبعـد قليل عاد المقرئ. تتبعت تلاوته لبعض الوقت ثم سرحت. قفز ذهني إلى الوراء عائدا فوق ما يزيد على ست وخمسين سنة. تذكرت “محمد عزت” في شبابه، قصير القامة، غليظ الشفتين، والصوت، ضاحك “ابن نكته” كما نقـول، يتمتـع بـروح مـن الفكاهة، والسخرية الهادئة، ضحكته مسترسلة، صافية تبث الإحساس بأن الدنيا على ما يرام، ولا داعي للقلق، أو للجديـة الزائدة التى كنت أعانى منها حينئذ .
يفحصني بعينيـه الجاحظتين قليلا تطلان إلىّ من تحت “الطربوش” بنظرة فضول ساخرة، كأننى كائن غريب يبعث على التساؤل. فيـه طيبـة المصري الذي لا يتوقع من الحياة الكثير، فظل يتأرجح دائمـاً في مستويات “الوسط” لا يعلو، ولا يهبط في مراتب الحياة.
في ذلك الوقت كنا أربعة أصدقاء أنـا وعلـى الشـلقاني، وأحمد فؤاد، ومحمد عزت، انضممنا إلى اليسار في الفتـرة نفسها، الأرجح أن “على الشلقاني ” ، كان المسـئـول الـذي قـام بمهمة إيصالنا. كنت أنا في السنة الخامسة لكلية الطب، وكانوا هم موشكين على التخرج في كلية الحقوق. لكن إلـى جـانـب الصداقة، والانضمام إلى اليسار، جمعنـا شـئ آخـر قـارب للتجديف كونا له فريقا، وكل صباح قرب الساعة السادسة كنا نتجه إلى نادى ” القاهرة النهري” في الزمالك لنسـتقل القـارب الذي يدعى “يول” بلغة من يمارسون رياضته، لنقطع المسـافة بين الزمالك و”جزيرة الذهب” في المعادي على الإيقاع السريع لضربات المجاديف الأربعة، وخرير المياه تنزلق مـن تحتنـا وصوت الأنفاس المنتظم. نشعر بحركة الجسم ينزلق إلى الأمام لينثني، ثم إلى الخلف فاردا نفسـه، شـادا علـى المـجـداف بالذراعين، وعضلات الظهر ليسيل العرق مـن كـل المسـام، وليدفع الجهد المشترك القارب النحيل، الجميل إلى هدفه.

في بعض الأيام كنا نحمل معنا “حلة” من الفول المدمس، وحزما من البصل الأخضر، وسلة صغيرة فيها ليمون، وخبز، وملح. نهبط على “جزيرة الذهب” لنتناول إفطارنا، وفـى أيـام أخرى بعد عودتنا إلى “عوّامة” النادي، والوقوف تحت الـدش البارد، وارتداء الملابس كنا نتجه إلى محـل “أزايفتش في ميدان “الإسماعيلية” (التحرير) لنلتهم وجبـة مـن الفـول،والطعمية، والسلطة، والخبز لا يتعدى ثمنها قرشـين (نصـف فرانك) أو ثلاثة ، ثم كوبا من الشاى إن أردنا .
مضت الأيام، وتخرجت أنا، ثم دخلـت السجن. أصـبح “أحمد فؤاد” وكيلا للنيابة، ومسئولا عـن قسـم الجـيـش فـي “الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني”. بعد ثورة ٢٣ يوليـو ١٩٥٢ انفصل عنها، وانضم إلى السلطة الجديدة ليصبح فيمـا بعد رئيس مجلس إدارة بنك مصر المنتدب، ثم رئيس بنك قناة السويس. طلب أن يلتقي بي بعـد أن خرجـت مـن السـجن، وأقنعني بالانضمام إلى “التنظيم الطليعي” الذي كونـه “عبـد الناصر” لكنني لم أعمر مع قادته طويلا. كنت جادا، وساذجا في أحلامي عن اتجاهات القائمين عليه. أما “على الشلقاني” فرحل إلى الجزائر ليعمل هناك مع حكم “بن بلا” لبعض الوقت. عـاد منها ليصبح رئيس تحرير “الأخبار” عندما كان “خالـد مـحيـى الدين” رئيس مجلس إدارتها، ثم ترك المؤسسة ليتفرغ لمكتب المحاماة الخاص به، وليصبح محاميا معروفا، وناجحا يتعامـل مع شركات دولية في الاستشارات القانونية التـي يحتاجون إليها.
رابعنا “محمد عزت” شغل وظيفة مدير الإدارة القانونيـة لبنك مصر ، بعد أن ترقى إليها في ظل رئاسـة “أحمـد فـؤاد” لمجلس إدارة هذا البنك، ولا أعرف ماذا حدث بالنسبة له بعـد أن أصبح على المعاش إلى أن سمعت أنه انضم إلـى مكتـب محاماة
“على الشلقاني” ليعمل معه.
منذ ستة وخمسين عاماً جمعنا قارب كـان يحملنـا إلـى “جزيرة الذهب” ويحمـل معنـا أحلامنـا. جمعتنـا الصـداقة، والسياسة، واليسار، وصراعات ألقينا أنفسنا في أتونهـا، ثـمفرقتنا الحياة، وتناثرت خطواتنا، والآن لم يبق منـا إلا اثنين ، على الشلقاني وأنا.
تذكرت وأنا جالس في السرادق أنه في القارب، أثنـاء الجهد الشاق الذي كنا نبذله، والأنفاس اللاهثة، والحرص على حركة واحدة، ووتيرة واحدة في ضربات المجاديف التي كانـت تدفعه، كنا نسمع صوت “محمد عزت” يأتينا من الخلف عنـدما ينكت أو يبحلق في العوامات ويعلق على ما يجـرى خلف أستارها، فيختل توازن القارب المندفع فوق مياه النهـر. عندئذ كان ينهره “على الشلقاني” قائلا: ” يا محمد انتبه بـلاش مسخرة” ، فترتفع ضحكته الصافية في جـو الصـباح، ضـحكة مصرية مفعمة بالفرح، وحب الحياة، والسخرية منها.
خرجت من السرادق. توقفت قليلا خارجه، لمحت اللافتة المنتصبة على الرصيف قرب الباب مكتوبا عليها اسمه “محمد حسين عزت”. وقفت أتأملها لحظة، قلـت لنفسـى أول مـرة اكتشف فيها أن “حسين” أحد أسمائه، وكأننا لم نقترب، كأننـا نجتاز الحياة دون أن نكتشف بعضنا بعضاً. نطقت اسمه هامسا ” محمد حسین عزت ” ، ثم سرت فوق الرصيف في الشارع ، وقـد بدا موحشا، مهجورا في الليل الداكن.
من كتاب ” يوميات روائى رحّال ” 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى