إقتصادفي الواجهة

قراءة في الإجتماع السّنوي للمؤسسات المالية الدّولية

الإجتماع السّنوي للمؤسسات المالية الدّولية الطاهر المعز

عقدت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الفترة من 14 إلى 16 تشرين الأول/أكتوبر 2022، لتقييم “الإصلاحات السياسية والاقتصادية” النيوليبرالية المفروضة على البلدان المثقلة بالديون والتي أدت إلى تفاقم التفاوتات العالمية، وإلى تدهور الوضع الاقتصادي والإجتماعي للعاملين بالأجر وللكادحين وللفقراء، بعد تفكيك القطاع العام ومنظومات الصحة والتعليم والخَدَمات الأساسية، حيث أدت القروض المشروطة إلى اسبدال الاستعمار المباشر بالإمبريالية الاقتصادية وإلى إفقار مواطني الدّول المُقْتَرِضَة.
خلال أزمة 2008/2009 ووباء Covid-19 للعام 2020، في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، دعمت الحكوماتُ المصارفَ والشركات بالمال العام الذي كان ينبغي استثماره في القطاعات الإنتاجية أو الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية وما إلى ذلك.
يواصل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تقديم “قروض الطوارئ” بنفس شروط القُروض الأخرى، بدلاً من إلغاء ديون البلدان الأشد فقراً، وهي ديون أفادت الأغنياء فقط، بينما فقد الفقراء وحتى مُتَوَسِّطو الدّخل وظائفهم ودخلهم وأحيانًا منازلهم …
ارتفع حجم القروض الجديدة لصندوق النقد الدولي من 8,3 مليار دولار سنة 2019 إلى 31,6 مليار دولار سنة 2020 ، في حين زادت القروض من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف الأخرى أيضًا من 52,2 مليار دولار إلى 70,6 مليار دولار، خلال نفس الفترة، ويدّعي صندوق النقد الدّولي الدولي أنه “يساعد” البلدان خلال الأزمات، بينما يفرض رسومًا إضافيةً وعمولات إضافية على ديون البلدان المُقترِضَة…
في شباط/فبراير 2022 ، كانت الحرب في أوكرانيا ذريعة لزيادة أسعار الوقود والأسمدة الكيماوية والمنتجات الغذائية، ونتيجة لذلك، أصبح 71 مليون شخص إضافي يعيشون في حالة فقر مدقع، ويعود هذا الإرتفاع إلى زيادة أسعار السلع الغذائية وخَفْض عدد الوظائف المُتالحة، وإلى الإرتفاع الهائل في أسعار الفائدة على القُرُوض، وأصبحت بعض الدّول على شفا التخلف عن السداد، مثل سريلانكا وباكستان ولبنان ومصر وتونس وزامبيا وزيمبابوي والأرجنتين وغيرها، ما يُؤَكّد ضرورةَ المطالبة بإلغاء الديون، وليس إعادة هيكلتها أو تعليق تسديد فوائدها لفترة محدودة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ، وافقت مجموعة العشرين على خطة لإعادة هيكلة الديون “لبعض البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل”، وبعد حوالي سنتَيْن، تم قبول ملفات ثلاث دول فقط ( زامبيا وإثيوبيا وتشاد )، دون أي تعليق للديون أو إلغائها، ورغم الأزمات الحادّة والمُتكرّرة (بل المُستَمِرّة) يواصل صندوق النقد الدولي فرض خصخصة شركات الخدمات العامة وفرض برامج التقشف وإنهاء الدعم للخدمات وللسلع الضرورية والأساسية، ما عَمّق فجوة عدم المساواة وما أدّى إلى إفقار مئات الملايين من الناس في العالم.
يتطلب إلغاء الديون إنشاء آليات اضمان للشفافية من خلال لجان المراجعة التي تفحص طبيعة وغَرَضَ القُرُوض وشروطها وكيف تم استخدامها ومن استفاد منها… ولكي تكون عملية الرقابة مُجْدِية يجب أن يتم الإشراف عليها من قبل المجموعات المحلية التي تضمن استخدام المبالغ المحصلة ( من إلغاء الدّيُون) لصالح السّكّان وتمكينهم من التعليم والصحة والسكن والمواصلات العامة والخدمات الأساسية، إلخ. يجب استثمار المبالغ المُسْتَرَدَّة في القطاعات الإنتاجية وتمويل الهياكل الجماعية (وليس الفردية) لإنتاج وحفظ وتوزيع المنتجات الأساسية مثل الأغذية أو الأدوية.
سياق الإجتماع السنوي:
تنعقد اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في سياق الزيادة العامة في أسعار الضروريات الأساسية، ولا سيما المنتجات الغذائية وأزمة الغذاء، ذات الصلة المباشرة بالديون المَشْرُوطة للمُؤَسّسَتَيْن المالِيّتَيْن الدّوْلِيّتَيْن، وعلى عكس مزاعم وسائل الإعلام السائدة، لم تكن الحرب في أوكرانيا ولا نقص كميات الحبوب المَطْرُوحَة في الأسواق هما السبب الرئيسي لأزمة الغذاء، بل هي أزمة عميقة وهيكلية تتفاقم منذ عدة سنوات وهي أيضًا ناتجة عن احتكار تخزين وتسويق السلع الغذائية والمحروقات والأسمدة وغيرها…
يشترط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي (وفُرُوعُهما) موافقتهما على القروض لبلدان الجنوب، وقف دعم قطاع الزراعة، بينما تدعم الدول الغنية جميع القطاعات الزراعية، مثل المحاصيل والثروة الحيوانية وإنتاج اللحوم والألبان ومشتقاتها، وتضطر البلدان المثقلة بالديون إلى قبول هذه الشّروط وتطبيقها، وتقليص أنشطتها الزراعية المحلية واستيراد الحبوب والمنتجات الغذائية الأخرى بعملات أجنبية (الدولار أو اليورو)، لتكون النتيجة المنطقية هي زيادة عدد المواطنين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، الذي ارتفع من 565 مليون سنة 2014 إلى 924 مليون شخص في العالم، سنة 2021، وفقًا لمنظمة “أوكسفام” و “برنامج الغذاء العالمي” التابع للأمم المتحدة اللّذَيْنِ حَذَّرَا، في أيار/مايو 2022، من مواجهة العالم أزمات غذائية جديدة، فيما أورد تقريرٌ لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) أن إنتاج الغذاء العالمي ينمو بوتيرة أسرع من النمو العالمي للسكان، منذ أكثر من نصف قرن، بل وصل محصول الحبوب العالمي إلى رقم قياسي تاريخي سنة 2021، وينتج العالم موارد غذائية وفيرة ولكن 10% من سكان الأرض يعانون من الجوع، بينما تستخدم 10% من الحبوب المنتجة في العالم لإنتاج الوقود وتُخَصَّصُ 35% لصناعة الأعلاف، ولتغذية الحيوانات.
عمومًا، تمكنت نجحت الشركات الرأسمالية الكبيرة من تحويل إنتاج وتوزيع المنتجات الغذائية والزراعية إلى تجارة ومجال مضاربة مربحة للغاية، فارتفعت أسعار القمح والذرة بشكل مصطنع بنحو 50% بين الأسبوع الأخير من شباط/فبراير والأسبوع الأول من آذار/مارس 2022، بإيعاز من الشركات الأربع التي تسيطر على ما بين 70% و 80% من سوق الحبوب والبذور والإنتاج الفلاحي، ما يتيح لهذه الشركات الإحتكارية تنظيم أزمات غذائية مُصطَنَعَة تسمح لها بزيادة أرباحها، بدعم فعال من المؤسسات المالية والحكومات التي تحابي بل تَحْمِي مصالح الأعمال التجارية الزراعية في تَحَدٍّ لحقوق الشعوب وسيادتها الغذائية.
إن الديون وكذلك اللوائح التي تفرضها منظمة التجارة العالمية والمعروفة باسم “اتفاقيات التجارة الحرة” هما آليتان للهيمنة التي تفرض تعميم هذا النموذج الليبرالي الجديد للإنتاج الزراعي، ولا سيما في بلدان الجنوب، ما يُعيق تحقيق السيادة الغذائية وحصول المواطنين على الغذاء الصّحّي واللائق.
لا يمكننا القضاء على الجوع دون مهاجمة أُسُسِهِ المتمثّلة في النموذج الإقتصادي الرأسمالي النيوليبرالي الذي يقضي على الزراعة الأسرية والمزارع الصغيرة (مزارع الكَفاف) التي تضمن الأمن الغذائي لملايين الأشخاص الذين ضحت بهم الشركات متعددة الجنسيات في أسواق الأوراق المالية والمُضاربة.
استنتاج :
على عكس الاعتقاد السائد، بدأت أزمة الغذاء العالمية قبل الحرب في أوكرانيا، لأن سبب ارتفاع أسعار الحبوب هو المضاربة التي جعلت 2,3 مليار شخص (29,3% من سكان العالم) سنة 2021، يعيشون في حالة من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة أوكسفام بتاريخ 23 أيار/مايو 2022. أما المؤسسات المالية الدولية التي اجتمعت في 17 أيار/مايو 2022، بإشراف الأمم المتحدة، فإن الهتمامها مُنْصَبٌّ على مجابهعة الثّورات المُحتملة للجائعين، فكان عنوان اجتماعها “مُناقَشَة سبل التعامل مع أزمة الغذاء التي قد تثير انتفاضات شعبية”، فالقضاء على الجوع أو وقف المضاربة على المنتجات الغذائية ليست من المواضيع المطروحة على جدول أعمال هذه المؤسسات. لذا فإن مناقشة مثل هذه الموضوعات متروكةٌ لنا، لتبادل الرأي، ليس بغرض الثرثرة بل من أجل إيجاد حلول لها وتطوير وبَلْوَرَةِ مشروع السيادة الغذائية الذي يسمح للسكان بإنتاج غذائهم الأساسي وحماية مواردهم الطبيعية (الأرض والمياه والبذور والأسْمِدَة العضوية وما إلى ذلك) والحد من الواردات، ولا يمكن تطبيق مثل هذه السياسة دون إصلاح زراعي يهدف إعادة توزيع الأراضي وتقديم الدعم المؤسِّسِي (الحكومي) لصغار المزارعين والمستهلكين الذين يتجمّعون في تعاونيات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ويفترض مثل هذا البرنامج إطْلاق مواجهة مع الشركات التجارية الزراعية ( agrobusiness ) ومع المؤسسات الدولية التي تمثل مصالح الشركات الكبرى والدول الإمبريالية، ووُكَلائها في البُلدان الواقعة تحت الهيمنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى