تعاليقرأي

غَرِيق على ضفاف البحر

البحرُ ذو منظرٍ خَلابَ، وجميل، ورائع، وجذاب، ومُغرِي للسِباحة فيهِ، خاصة في فصل الصيف اللهاب، فلهُ جَمالٍ بَاهِر، للناظِّر لبريق ماءِ البحر الأزرقِ الساحر، حينما يَتَلألأُ لمعانًا كأنهُ الجَواهِر، بعدما ترسل الشمسُ أشعتها الذهبية في ماء البحر فَذلك منظرٌ يَّسُرْ، ويسحر عِيُون العَاشِقِّين لِلبِحار؛؛ والبحر عميقٌ، وكبير نحبهُ كأنهُ سكنيِ، وداري، وكَاتم سري، وكُل أسراري إنهُ كَوطني الحانيِ حين يلقَاني، ويَضُمني، وإن فِيهِ أشعاري، وقال الشعراءُ عن البحر أرق، وأرقى المعَاني؛ ورؤيةُ البحر سلوى لقلبي، ولِكلِ مهموم يُقاسي، ويُعاني، وموجُ البحرِ يجري، وجَارِي ولَكِنهُ هَدار غَدَار لا يُجَارَىَ، ولا يُصَاحب لأنهُ لك سَاحب، ولو كنت لهُ صاحِبْ، فالتيار فيه صَاخِب فقد يسَحُبكْ، ولو كنت سباحَ كبير، وخبير في كل البحار، والأنهار؛ فمن المعلوم أن تيار البحر غدار فلا يبُقيِ ولا يَذَر، ولا يقف أمامهُ ثائِّر، أو ثوار، ولا حتي البطل الحُر المُغامِّر المغوار!. صحيح أن هَوَاءُ البحرِ العليل يحفْني، ويتحفني، ويجف منهُ عرقي، وقد تطمسُ نسماتُه بعض ظُنوني؛ وأحيانًا نسرح فتأتي على شاطئ البحر شُجُوني، وتسافر معها أحلامي فتغفو عيوني فأحكي للبحرِ أفراحي وأُغَّرِّقَ بِهِ أحزاني وأتراحي لعلى أجدُ راحتي وراحلتي وحُلتي وخِّلتيِ وسلوتي. وإن جمال مياههِ رغم ملوحتها تَغَري مثل الحلوى، وصحيح أن في السباحة السلوى، وكذلك من الممكن أن تكون كذلك البَلوى!.

وكثيرًا ما قالوا في الأشعارِ عن البحرِ بأنهُ غدار ، ويكمن في أعماقهِ الكثير من الأسرار، ولا يصمد في وجهِ موجهِ العالي العاتي أعتى بَّحَار؛ ومن تحدى موج البحر كان كمن يلعب القمار ، فلا يضمن الربح، أو الخسارة، أو الاندثار، وعلى غرار ذلك فإن الانجرار وراء موج البحر الثائرِ الكبير الهدار أكبر دمَار لأنهُ سيؤدي للوقوع في التيار الذي يسَحبك على الفور كالإعصار، وهنا يكمن الدمَار!. وإن الكثير من الناس غرقوا، وماتوا، في البحر فكان منهم السباحٍ الماهر، والشاب الصغير والسباحُ الكبير ، فالبحر لا يقف في وجهِ كبير، ولا صغير، ومن تحداه صار في خبر كان، وغرق وحتي، وإن كان أمير ابن أمير، أو وزير، فأصبح ضمير غائب مُستتر، أو مُنفصِل غير مُتصل!؛ ففي البحر الكثير من العبر، لمن أراد أن يتذكر، أو يعتبِّرْ!؛ ومن أراد المزيد فليسأل أيِ بحار من أهل البحار عن عالمِ البِحار، وقصص الِابِّحَارَ ، والمحيطاتِ، والأنهار، والتي فيها التشويق، والايثار …

وبيتُ القصيد مما سبق: وما لن أنساهُ ما دُمتُ حيًا أننا تعرضنا للموت برصاص الاحتلال الغادر الفاجر مرات، ومرات في انتفاضة الحجارة الأولي عام 1987م ورغم إصابتنا برصاص العدو، عدة مرات، قدر الله عز ، وجل لنا النجاة، والبقاء، وكنا كما الشُهَداءَ في ذلك الوقت، رغم أننا أحَياء… لِقَد غرقت في البحر غرق، وتَذَّوقتُ الموت مرتين!!؛؛ المرة الأولي كانت على شاطئ مخيم الشاطئ وكنت شابًا صغيرًا لم أبلغ الحلم، وكان يومها حِنة العروسة_ فرح أختي، يومها سحبني التيار، والموج الهادِر، ووقعت في حُفرة سحيقةٍ عميقة لفَتّنِّي لَفًا، ودوخَتِّنيِ، وصِرت كريشة المروحة أدور فيها سريعًا، وشربت من الماء المالح كثيرًا، وانقطعت أنفاسي، محاولاً الخروج للأعلى عبثًا!؛ فقدماي لا تطأ لتصل أرض البحر، ولا رأسي تستطيع أن تخرج من فوق الماء، فصرت من فوقي الماء ومن تحتي ماء؛ وفي هذه الحالة أدركني الغرق، والموت!؛ وفجأة وجدت نفسي على شاطئ مُلقًا على رمال شاطئ البحر، ويتم عملية تنفس لنا، وإخراج الماء الذي شربته، وعملية إفاقة لي بعدما غبتُ عن الوعي، فقد أنقذني، وأنجاني الله جل جلاله من الغرق، والموت المحقق؛ ومن ثم بِمساعدة بعض الشباب الذين ساقهم الله لنا؛؛ وأما حالة الغرق الثانية كانت مساء يوم الأربعاء الماضي الموافق الثالث من شهر أغسطس على أخر شاطئ بحر السودانية شمال قطاع غزة، وكان معي بعض أصحابي جلوسًا على شاطئ رمال البحر، وقد تركتهم يتسامرون معًا، وذهبت لأسبح، في البحر، وقد اقترب وقت غروب شمس ذلك اليوم، وكان الموج كبيرًا ما بين مدٍ، وجزر، والتيار شديدًا، ولكننا لم نبتعد كثيرًا للسباحة داخل البحر؛ وفجأة، وكأن مَاسًا كهربائيًا ضربنا بشدة! وإذ بالتيار يسحبني بقوة كبيرة، وفي لمح البصر سحبني لعمق البحر، فقاومت الموج، والتيار بكل ما أوتيت من قوة، واقتِدارْ، وسبحت بكل قوتي متجهًا نحو شاطئ البحر ، وصرت في صراع رهيب ما بين الموت، والحياة، والنجاةِ، أو الغرق!؛ ولكن التيار، وقوة الموج أقوي منا بكثير، وتشدنا وتسحبُنا لداخل عمق البحر؛ واستمرت منا السباحة بكل قوة، حتي أنهكت، وقُوتُنا خارت وشربت من الماء المالح قليلاً ، رغمًا عن إرادتي، وكل ذلك كان في دقائق معَدودَات؛ ولا يزال التيار مع قوة الموج تفتك بي، وتضربني بكل بقوة من كل حدبٍ، وصوب، حتي وصلت لمرحلة التعب الشديد، والإرهاق، وخارت قوتي واستسلمت للغرق، وكان قريبًا مني شاب صغير قلت له إنني أغرق، فاقترب مني، ولكنني ايقنت أنهُ لا يجيد السباحة، بل، ويحتاج هو الآخر من يُساعدهُ فصرتُ: “كالمستجير من الرمضاء بالنار”!؛ وقتها، ونحن في أخر رمق جاءت رحمة أرحم الراحمين. فمن كان قلبه عامرًا بالله، ويقرأ كل يوم أذكار الصباح، والمساء، ويصلي الفجر حاضرًا في المسجد وللخير قدمهُ تسير، فتأكدوا أنه في حرز، وحفظ، وذمةِ الله جل جلاله؛ ومن كان للخواطر جابر أدركتهُ النجاة، ولو كان في قلب، وجوف المخاطر.

وفجأة، وجدت نفسي، وقفت على قدماي، وقد، لمست طرف أناملي علي اليابسة داخل البحر وارتفع رأسي فوق الماء قليلاً، وقتها التقطت بعض أنفاسي، وكان الموج لا يزال يلاحقني يحاول سحبنا في داخل البحر، فقاومت ذلك، وخرجت لشاطئ بر الأمان، وما أن اقتربت من الشاطئ كان أصحابي جلوسًا لا يعلمون ما حدث لي من الغرق، ولكن أحدهم قام بتصويري أثناء خروجي لشاطئ البحر ، والتقط لنا بعض الصور، وهو لا يعمل ما حصل لنا؛ لتبقي تلك الصور بعد النجاة من الغرق، والارهاق ظاهر علينا خالدة في ذاكرة الأيام لا تنطمس، ولن أنساها ما حيينا ولسوف تكون هي الصورة نفسها المرفقة، والموجودة مع هذا المقال، وبعدها صليتُ، وسجدت شكرًا لله الذي أنجانا من الغرق؛ وقَصَصتُ القِّصَة على أصحابي فقال لي أحدهم بكل بساطة: “لو مت غريق لكُنت شهيد”؛ وفي ذلك يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “المائدُ في البَحرِ”، أي: المائلُ، وهو الَّذي تَدورُ رأسُه وتَضطرِبُ مَعِدتُه؛ ” الَّذي يُصيبُه القَيءُ”، وهو أَنْ يُخرِجَ ما في مَعِدتِه “له أجرُ شهيدٍ، وإن لم يَمُتْ منه، “ومنَ مات غَرَقًا في الماء فله أجرُ شَهيدَيْنِ”؛ وليس أجر شهيد واحد فقط بل شهيدين، وقد تعددت الأسباب، والموتُ واحد، ومن لا يهوي ركُوب الجبال يعش أبد الدهرِ بين الحُفر، ومختصر الدنيا أننا كلنا عنها راحلون من دار الفناء إلى دار البقاء، واللقاء.

الباحث، والكاتب، والمحاضر الجامعي، المفكر العربي، والمحلل السياسي

الكاتب الأديب الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل

عضو نقابة اتحاد كُتاب وأدباء مصر، رئيس المركز القومي لعلماء فلسـطين

رئيس مجلس إدارة الهيئة الفلسطينية للاجئين، عضو مؤسس في اتحاد المدربين العرب

رئيس الاتحاد العام للمثقفين والأدباء العرب بفلسطين، والمُحاضِّرْ الجامعي غير المتُفرغ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى