مجتمعمنوعاتمنوعات

علاج الصدمات عبر تعويم الوعي في فضاء الاحتمالات

وليد مهدي

مثال تطبيقي لعلاج الصدمات عبر تعويم الوعي في فضاء الاحتمالات
يعيش المرء طوال حياته موهوماً بواسطة نفسه او بواسطة الآخرين بان تصرفاته في حياته , غالبيتها صحيحة. حسب التجارب والخبرات لما يعرف بــ ” الإقتراب من الموت ” , فإن ما قبل لحظة وفاته فقط يدخل بوعيه الى فضاء الاحتمالات الكلي لأحداث العالم فيرى بوضوح ” الخريطة المثالية لأحداث العالم ” وهي الوقائع النموذجية التي كان من المفترض ان تحصل وفق مقياس الضمير الاعلى للبشر , لكنها لم تحدث . وقتها سيدرك كم اخطأ ولم ينتبه في مواضع كثيرة لم يلتفت إليها , سواء اكان ذلك تغاضياً في اللاشعور الباطني العميق , او استصغاراً لأخطاء جسيمة عُدت في حساباته القديمة بانها مجرد اخطاء صغيرة في الوعي الظاهري.
(لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
طريقة الرؤية تختلف من شخص لآخر , المشاهد تكون غالباً بشكل درامي حواري او رمزي بسيط او اسطوري . يعتمد ذلك على الخاضع لتلك الخبرة من الاقتراب من الموت , وبعض من رووا مشاهد عن عودتهم بعد توقف القلب واعلان موتهم قبل عودة نبض القلب مرة اخرى واعلان عودتهم للحياة .
الخريطة المثالية للأحداث , هي جزء ” محتمل ” من فضاء الاحتمالات الشامل , وهو و وفق هذا المعنى , يمثل الذاكرة الكونية التي تحتوي على مسارات متعددة محتملة قابلة للوقوع لكل الاحداث الممكنة التي كان من المفترض ان تحدث في حياة شخص ما , اضافة الى الاحداث التي وقعت بالفعل . بمعنى , مسارات احتمالات ” سعيدة ” ممكنة لحياته , فيما لو كانت خياراته في السلوك في مراحل متعددة من حياته ، او سلوك الاخرين والاقدار التي تعرض لها قد اختلفت عن اختياراته او الحوادث الفعلية التي ادت به الى واقع ما يعيشه هذا الشخص اليوم ..
فضاء الاحتمالات (الافتراضي غير الحقيقي) يختلف عن الأكاشا الكونية في كونه احتمالات متعددة اضافية للاكاشا الحقيقية الفعلية , اي , فضاء الاحتمالات المتعدد اوسع واشمل من الأكاشا . كذلك هو فضاء اوسع من الخريطة المثالية للأحداث التي يمكن اعتبارها بمثابة ذاكرة عالم افتراضي غير حقيقي موازٍ قد تحتوي نفس البشر في عالمنا , نفس الشخصيات , لكن بسلوك مختلف , اكثر انسانية , تنتج وقائع اكثر سعادة , تنتج العالم المثالي السعيد ( الافتراضي ) الذي كان من المفترض ان يعيش به الناس لولا شرورهم !!
هذا الفضاء , هذه المسارات في خريطة العالم المثالية اسميها ” برزخ السعادة ” . وهو يناظر ما ذكرته الملحمة السومرية جلجامش عن الجزيرة الخضراء دلمون التي عاش فيها اتونابشتم (نوح) ما بعد الطوفان ، والتي عرفت اختصارا بجزيرة الخالدين. برايي الشخصي , برزخ السعادة هو نفسه جزيرة دلمون المذكورة في الملحمة لكنها نقلت بصياغة واطار فكري قديم كان مناسباً لذهنية البشر قبل ستة آلاف سنة . وان رحلة جلجامش كانت سفراً افتراضيا عبر جلسة تأملٍ عميقٍ جداً.
في موضوع اليوم , سأذكر مثالا تجريبيا عن ذاكرتي الشخصية .سأحاول تمكين القارئ والمتابع على يوتيوب من فهم واستيعاب الموضوع بطريقة تجريبية عن ذاكرة واقعية لشخص حقيقي اقوم بسرد وقائعها الفعلية اولاً , ثم اقوم بسحبها نحو فضاء متعدد من الاحتمالات لإعادة رسم وقائعها بدون انكسارات او صدمات سابقة الحدوث . ستكون محاولة خلق فضاءات احتمالية جديدة للذاكرة تقوم بمقام ماء الحياة ” المقدس ” الذي نعيد غمر النفس البشرية فيه لتخليصها من عقدها وصدماتها .

  • بين قارّات الزمن-
    في العام 1986 , وفي اكتوبر(تشرين الاول ) بلغتُ العاشرةَ . كان عالمي جميلاً جداً , كانت البصرةُ مدينتي ومسقط رأسي أجملَ بقعةٍ في ذلك العالم . رغم ظروف الحرب وقسوتها على المدينة , كان الزمان ينساب منتشياً بالفرح في شوارعها , يوزع ابتساماته كل صباح مع زقزقة العصافير بين ازقتها . حتى الشمس , ما كانت لتغيب كل يوم على ضفتي شط العرب إلا وقد ارسلت شعاعها الاحمر حانيا مشحونا بالآمال , رغم غصة الحزن المنبعثة في اجواء المدينة بعد كل غروب . تلك السدول التي يرخيها الظلام كانت ساحرة رغم الحزن والقتامة , هذا بالضبط ما كنت أشعر به وقتذاك , كان العالم أجمل ربما مع حزنه وغموضه . بصورة عجيبة , وغريبة كنت اتذكر صوراً لمشاهد مشوهة هامشية من احداث وقعت وانا في عمر السنة من عمري أو الثانية أو الثالثة, اي الأعوام 1977-1979 . كان اهلي يستغربون ما كنت ارويه لهم عن تلك الاحداث ويتوقعون بانني اُرَكِّـبُ في خيالي ما اسمعه من حديثهم واعيد انتاجه كوقائع وكأنني اتذكرها بالفعل ..!!
    من الغريب بالنسبة لهم ان يتذكر احدٌ ما وقائعَ في باكر سني العمر تلك . لكن ذلك ما كان يحدث فعلا وذاكرتي كانت حقيقية رغم تشوهاتها . كمشاهد زيارة والدي للإمام الكاظم في بغداد وانا بعمر اشهر , او مشاهد حفل زواج ابن عمتي في نادي المصارف على كورنيش شط العرب . او مأتم وفاة جدي رحمه الله . ذاكرتي التي اضحت عبئا هائلا على كاهلي فيما توالى من اعوام . مشاهد البواخر وهي تتحرك نحو ميناء الداكير وصوت المنبه العالي الذي تصدره ايام المناسبات والاعياد قبل الحرب بحدود 1979 , كذلك رائحة البخور و ” النبق ” ومنظر ” الخريط ” لدى الباعة على الارصفة قرب ضريح ” عبد الله بن علي ” في العشار يجعل للذكريات صوتا وعبقا . بل يجعل من الذكريات مدناً , او جزراً بعيدة نائية في بحار الزمن ..
    كلما تقدم بي العمر , اصبحت تلك الجزر البعيدة كبيرة وكأنها قارات بعيدة , مهجورة ومنسية مليئة بأناس طيبين لم يعد لهم من وجود في عالمنا . كلما طالت السنوات اصبح ارشيف الذاكرة , سجل الماضي , أكثر أهمية من الحاضر فيما استحضره على انغام ال بيمبو الشهيرة لباول موريارت ( الشهيرة في ذلك الزمن )..
    كلما امتدت الايام , اصبح المستقبل باهتا بلا ملامح والماضي اكثر وضوحاً و تالقاً , لذا تصبح الاصوات المتعالية من تلك الجزر او القارات البعيدة مسموعة بشكل اوضح كلما اقتربنا من ” النهاية ” .
    الاقتراب من النهاية , يعني تأكيد الافكار والمفهومات المتعارفة عن الموت والحياة , في مراحل الصبا والشباب , نكون اقرب الى الايجابية وحب الحياة والتمسك بشعورنا بابديتها , رغم ما نقرأه ونسمعه عن غرور الدنيا وزينتها , تبقى المشاعر العميقة منسابة ضمن إطارٍ أو ادراكٍ بان الحياة ابدية وجميلة , ورائعة ..
    لكن , حين نصاب بالنكبات والانتكاسات وتغمرنا مشاعر الرغبة بالفناء ومغادرة ” العالم ” تصبح فكرة ابدية العالم مؤذية وتسبب النفور . الانكسارات التي نواجهها على دروب الحياة تعزز رغبة مضادة للاستمرار. رغبة في إطفاء الأضواء وانهاء المشاهد !
    رغبة تعزز شعور اقتراب النهاية اكثر مما يفعل البياض في شعرنا. وهي غالبا المسؤولة عن ذلك الجانب المظلم من افكارنا ووعينا الجماعي الجمعي عن الموت والآخرة. لم اختر العام 1986 اعتباطا , فهو العام الذي غادرنا فيه بيتنا بعد اشتداد القصف اواخر تلك السنة في تشرين الثاني نوفمبر. لعل ترك ” مناوي باشا ” , تلك المنطقة التي عشت فيها في مدينة البصرة كان من اهم النكبات والانكسارات التي تركت اثرا عميقا في وجداني . مشاهد خراب المدينة وتحولها الى مدينة اشباح مهجورة كان يقربني من حيث لا ادري من افكار الموت وعالم ما بعد الموت , خصوصا عندما كنت اسمع اخبار فقد اصدقاء وزملاء دراسة بسبب القصف العنيف الذي يضرب المدينة . ناهيك عن اخبار الشهداء على جبهات الحرب . كذلك اصابة والدي على جبهة شرق البصرة اصابة بليغة جدا , واصابة الجد ابو باسم اصابة شبه قاتلة في جزيرة ام الرصاص. كانت الحرب تتحكم في وعينا من حيث لا ندري , وانا لا اتحدث الا عن ذلك القطع المظلم ” البسيط ” من حياتي , فكيف بتاريخ الخمسة آلاف عام المملوء بالنكبات والموت والانكسارات في بلاد ما بين النهرين ؟ هل يمكن تصور الآثار وإلى اي مدى يمكن أن تتركه الانهيارات والتبدلات في حياة الشعوب من ترسيخ لفكرة الفناء وابعاد قسري لمشاعر الديمومة الاعماقية الطبيعية الاصيلة التي نعانق بها الحياة اولا بفطرتنا الأولى ؟
    في ذاكرتي , بداية الأسى كانت لحظات خاطفة من تلك السنة . حين سقطت رشقة من صواريخ راجمة في الشارع الذي كنت العب فيه مع الصبية في منطقة مناوي باشا , كانت ثواني معدودة لأصوات الازيز المتتالي للصواريخ وما تلاها من اصوات انفجاراتها المتتالية على الأرض ..!!
    كان شيئاً لا يصدق , ولم اسمع واشاهد مثله في حياتي :
    الأرض تهتز وترتجف , لون النهار تحول الى لون رمادي بفعل تكاثف الدخان . كنت اجري بسرعة بدون توقف وكانت مناظر حمل المصابين والدماء , والاصوات العالية المرتبكة للناس مرعبة جدا .. !
    حتى لحظة كتابة هذه السطور , اي , بعد ما يقارب ستا وثلاثين سنة على الحادثة ، لا اجدُ نفسي دائم التذكر لتلك المشاهد . كأنما قوة في اللاشعور تمنعني عن تذكر تفاصيل ما وقع أو ربما , تبعات ما حصل لاحقا . تلك الدقائق المعدودة غيرت حياتي للابد . مثلما غيرت الحرب حياة مئات الآلاف من سكان المدينة الى الابد . كانت بداية لتنقلات الاسرة الى مناطق بعيدة عن القصف في داخل البصرة قبل ان نترك البصرة بشكل نهائي بعد اجتياح الكويت عام 1990 .
    أحيانا أفكر أن في داخل اعماقنا قوة صد غريبة , تتحايل على ” الوعي ” وتموه الوقائع حوله . هذه القوة الصادة هي التي تتحكم في سلوكنا دون ان نشعر . تتحكم بنا بحذر حتى لا ينتبه وعينا الظاهري الى ان في اعماقنا ” أنا ” وذاتاً اخرى هي التي تسير السلوك , فيما يندفع هذا ” الظاهر ” موهوماً بقوة وثبات وعزم نحو المستقبل ..
    أشعر أحياناً و كأن وعينا الظاهر مثل طفل او مراهق مغرور يندفع نحو المستقبل دون ان يبال بالماضي كثيراً . دون ان يدرك ان قوته وطاقته مستمدة من جذور ماضيه العميقة ولا شيء يسحبه نحو المستقبل البتة .. هي فقط اندفاعة سببها فيضٌ من شغف طفولته و ” حيوانه ” العميق في تفاعله مع الحياة .
    عندما اتذكر الآن , تلك الدقائق التي حدثت فيها الانفجارات حولي من شهر تشرين الثاني عام 1986 , أحاول اعادة تفكيك المشاهد والوقائع , واجد في كل محاولة انها كانت اهم دقائق حياتي دون ان ادرك ذلك في مدى حياتي . كل شخصيتي وذاتي تتمحور على تلك الواقعة دون ان اعي , طيلة سني العمر , ان ما حصل لي كان اكبر صدمة كبيرة ولم ادرك طوال كل هذا الوقت انني كنت مسحوبا تحت وقع تلك الصدمة الى حد اللحظة.
    كانت تلك هي اللحظة التي عندها , بدأ يضمحل في قلبي الحنين الى اي ماض . الواقعة بحد ذاتها كانت جرحاً عميقاً وضرراً كبيرا , لكن , كان فقد المكان والاجواء والمدرسة والاصدقاء بتلك الطريقة المروعة والخاطفة قد ترك الاثر الكبير في أعماقي و تأثرت طريقة تعاملي مع اي جديد في حياتي . أصبح كل شيء تلا تلك اللحظات طارئاً عابراً غير ثابت , ولا يدوم . طيلة سنوات كثيرة لم استوعب ما كان يحصل معي وفتوري تجاه علاقاتي بالآخرين , دائما اجد نفسي ملزماً بالاعتذار عن تقصيري بالتواصل مع الاقارب و الاصدقاء والزملاء دون ان ادرك ان خللا عميقا سببته صدمات عديدة إضافة الى تلك الصدمة . ورغم قراءتي لعلم النفس وتبحري فيه لسنوات طويلة , لم ادرك هذا ” العطب ” العميق في نفسي الا بعد الاربعين حين بدأت ممارسة تطوير الذات العميق على ” نفسي ” . حين وصلت عبر جلسات الى مواطن تلك الذكريات , ادركت ان قوة الصد العميقة تحايلت علي لعدة عقود من الزمن لإخفاء تلك العقد التي كانت تسيرني من حيث لا ادري .
    العلاج بالتعويم الاحتمالي :
    ((في البداية , هناك ضرورة للاستماع الى لحن موسيقى هادئة , خصوصا تلك التي كنت اسمعها في الفترة الزمنية المستهدفة (الأعوام 1982-1986 ) . في مكان هادئ وغرفة للاسترخاء بنور النهار الخافت لكي تساعد في تنشيط تذكر تلك الحقبة . كذلك يمكن التعطر بعطور قديمة الاستخدام او شم روائح تذكر اللاوعي بتلك الأيام القديمة )).
    حتى نعالج مثل تلك الوقائع العميقة , في حال تمكنا فعلا من رصدها والإحاطة بها , اجد ان الاسلوب الامثل للتعامل معها هو :
    تعويمها في فضاء الاحتمالات ، وهو الفضاء الكوني المتعدد الوقائع (حسبما نحته فاديم زيلاند) . عندما نتسائل :
    ماذا لو , لم تحصل تلك الحادثة ؟
    ماذا لو وافق روح الله الخميني على ايقاف الحرب عام 1982 , ماذا لو لم تستمر الحرب وتحدث لي تلك الصدمة ؟؟
    هذه التساؤلات , والاجوبة المحتملة عنها , هي التي تفتح للأعماق فضاءاً خيالياً جديداً في الأمنيات . أمنيات تعالج تلك الصدمة , قبل التطرق لها لابد من التنويه ان العلاج النفسي المتعارف ومحاولة تصحيح الانطباعات عبر جلسات التداعي الحر بمنهج التحليل النفسي تعتبر اعادة تعويم للذاكرة ايضا , لكن , بدون إطار ” عقدي ” يتمثل بالإيمان في وجود عالم مواز متكامل حتى ولو كان افتراضياً . هذا النمط من التعويم الذهني يمكن اعتباره امتداداً جديداً في علم النفس المعرفي .الاعتقاد بوجود فضاء آخر لأحداث العالم بحد ذاته يجعل الذهن في حالة تهيؤ تام وانغماس كبير في الذاكرة الى درجة فك عقدها وارخائها الى اقصى حد ممكن . لذا التعامل مع العميل الذي يؤمن بوجود عوالم روحية موازية سيسهل موضوع العلاج الى حد كبير .
  • غفوةٌ على ضفافِ التمني –
    إن فضاء احتمالات لعالمٍ آخر موازٍ كان من المفترض أن اعيشه وان يعيش فيه كل من عاش في البصرة والعراق وايران . سيبدو و كإن الحرب قد توقفت في العام 1982 بقرار من روح الله الخميني , بعد ان اقر صدام بهزيمته واندحار جيشه عن المدن الايرانية التي اجتاحها عام 1980 , خصوصاً معارك خرمشهر (المحمرة) و آبادان . و كأن البلدين والشعبين عاشا في مرحلة من رخاء طويل حتى العام 2000 . كأنني امضيت عمري بين الشطوط في البصرة , بلا حروب ولا دمار . اجوب شوارعها الجميلة , اشم اريج حدائقها وبساتينها كأنها الجنة . اعيش فيها طفولتي كاملة بلا تهشيم او تحطيم واكمل فيها الشباب حتى يظهر الشيب بعد الخامسة والاربعين . ربما , كنت سأعيش حياةً أكثر سوية و هدوءا مما عشت , وربما كنت إنساناً آخر بشخصية اخرى وذاتاً أخرى .. لا اعرفها !
    هكذا , بهذا المشهد , تتشكل في الأعماق قارة جديدة , قارة بعيدة , جزيرة نائية في عرض بحار الزمن . كأنها دلمون التي ارتحل اليها جلجامش باحثاً عن الخلود . قارة يسكن فيها الخالدون ..
    وحسب رؤية فضاء الاحتمالات , هذا العالم المثالي موجود بشكل ذاكرة من الممكن الوصول اليها ورؤية مشاهدها وادراك الانطباعات والمشاعر فيها , وليس وجوداً ماديا واقعياً . هي بيانات للمسارات الاحتمالية ذات النهايات والاحداث السعيدة او ” الجيدة ” التي تنتهي بذاكرة لعالمٍ موازٍ لأمنياتنا نحن البشر في هذا الكوكب ..
    ولكي اقوم بتعويم ناجح للذاكرة ذات الصدمات في وعي الاحتمالات لابد من الهبوط في التفاصيل , اي , إعادة تذكر اهم احداثٍ ممكنة في الاعوام التي تلت العام 1982 , والتي كانت اعوام الحرب القاسية , لتعويمها في احتمالات متعددة وكأن الحرب لم تحدث. ليكون العام 1983 , هو عام السعادة الحقيقي الاول في ” بصرة ” بلا حرب , ودراسة في الصف الثاني الابتدائي بلا خوف من القصف العشوائي الذي كان يطال المدينة. وهكذا تستمر السنوات في ظل ازدهار ورخاء اقتصادي في هذا البلد حين اكمل الابتدائية مع اصدقاء وزملاء دراسة يستمر بعضهم معي حتى المتوسطة عام 1986. تفاصيل حياة العائلة والاقارب وتلك الاجواء المشحونة بالحب والعاطفة والمرح التي تستبدل اجواء الفراق والبعد وتبدل الاماكن والزملاء في الذاكرة بتفاصيل كثيرة اصبحت تتفتح في مخيلتي العطشى بشكل غريب لم اتوقعه اثناء الجلسة . خصوصاً ان اللاشعور عندي بقي ولعقودٍ من الزمن رافضاً لكل جديد تلا ذلك , بقي التعلق بالقديم هو السمة الاساسية لوجداني العميق . لسنين طويلة , وبسبب الألم كنت احارب نفسي ودائم التقريع لها بسبب هذا الحنين والتمسك بالماضي . علمتني الظروف قسوة القلب بشكل مبكر جدا حتى اتكيف مع الواقع على حساب هذه الذات العميقة المنكسرة بقسوة ارادتي وتفكيري العقلاني عليها. من شأن جلسات متعددة تتعلق بمناقشة صدمات تلك الحقبة مع العميل الخاضع للعلاج وتغيير مسارات الاحداث الافتراضية التي مرت به , ان يبدأ بتغيير عميق جداً في الوجدان . كلما زاد ألم العميل ودموعه اثناء التذكر كلما دل ذلك على نجاح الوصول الى المشاكل الحقيقية التي سببت اعتلاله.
    -ذاكرة الحب والحرب-
    بعد علاج تلك الصدمة في ذلك العمق من الذكريات . كان لابد من الارتفاع اعلى في شريط الزمن ومعالجة صدمات أخرى . في غير موضع من كتاباتي ذكرت حلما رايته بحدود شهر شباط من العام 1988 , او ربما كان اواخر العام 1987 . كنت في المدرسة ارسم الكاريكاتور , وارسم الخميني بصور بشعة تحت تأثير ماكينة الدعاية الحكومية التي تشيطن السيد الخميني . في ليلة شتائية من ذلك الزمن شاهدت السيد الخميني في منام غريب , يختلف تماما عن احلامي في تلك الفترة . كان يقف ومعه مرافقين اثنين او ثلاث , يرتديان عمائم بيضاء , وهو بينهم بعمامته السوداء , ناداني باسمي كي اقترب ويقبلني . رفضت وقلت له انت دجال وكاذب , فضحك و سألني لماذا اقول هذا الكلام ؟
    فأجبته على الفور : لم لا توقف الحرب ؟
    فأشار الى طريق على يمينه وقال , امش فيها ستجد في نهايتها نهرا اذا عبرته , ستتوقف الحرب ، هرعت مسرعا في الطريق ووجدت النهر في نهايته , عبرته سباحة وفي يدي قصبة .. وانتبهت من نومي .
    خلال اشهر معدودة , توقفت الحرب فعلا . لكن بعد اجتياح الكويت عام 1990 وحين انتقلت العائلة الى ” الكوت ” فوجئت بالمكان الذي كان يقف فيه السيد بانه مكان حقيقي بكافة تفاصيله التي شاهدتها في الحلم . حتى المصطبة التي كان يجلس عليها قبل ان يقف ويكلمني كانت بمكانها بالضبط . الدار التي كان يقف عندها كانت الدار المجاورة لبيتنا . مشيت في نفس الطريق الذي اشار اليه في الحلم بمسافة تقارب كيلومترين , ذهلت لوجود النهر ..!!
    كانت الرؤيا اكثر من صادقة , شعرت بانها رسالة كونية معقدة لم استوعبها في ذلك العمر , كنت بحدود الرابعة عشرة . عندما رجعت لبيتنا بنفس الطريق ووصلت الى الدار التي شاهدتها في الحلم مع السيد الخميني لفتت انتباهي فتاة جميلة جدا كانت ترتدي السواد فوق سطح الدار وهي تقرأ في كتاب . وكما قدمت مسبقاً , صدمة الفقدان والضياع والموت والخوف انتجت جفافاً في مشاعري وتفاعلي مع اي حدث . لم اكوِّن صداقات حميمة ولم افهم معانيها ولم اعشها بالفعل . عندما تعرفت على ” سحر ” بنت الجيران التي كانت تدرس فوق سطح دارهم كان يشغلني طوال الوقت تساؤلات كثيرة , واهمها ما علاقة بيت هذه الفتاة بذلك الحلم الذي رايته قبل اكثر ثلاث سنوات منذ ذلك الحين؟
    حين اصبحت علاقتي بسحر أقوى , التي كانت بنفس عمري وبنفس المرحلة الدراسية المتوسطة , ادركت ان المقصود في الحلم لم يكن بيتهم , بل هي ..
    ذات يوم كنت اجلس معها على نفس المصطبة (التي كانت في ذلك الحلم) حدود شهر تموز من العام 1991 , كنا نقرا استعدادا للامتحانات التي تأجلت بسبب ظروف الحرب على العراق , التفت إليها ووجدتها تحدق بي بنظرات لم افهمها لكنها كانت تخترق اعماقي . شعرت انها نظرة تأخذني الى عالم آخر ادخله لأول مرة . كانت نظرتها حادة وعميقة مليئة بالتساؤل والحيرة والاعجاب . نظرة غيرت حياتي للابد , كانت عينيها مؤثرة كإشعاع كوني , أتى من نجم بعيد فأحالني الى كيان من ألق . لم ابلغ وقتها مبلغ الرجال (الحلم) , كنتُ ما زلتُ صبياً. لكنها , كانت ناضجة . تعاملت معها مثل تعاملي مع الاصدقاء الذين لم اكن انتبه الى جفاء ترابطي معهم . لم اكن ادرك اني احبها , لم افهم معنى دقات القلب المتسارعة كلما وقعت عيوني بعيونها . كنت صغيرا , لكن وسيما بما يكفي حتى اسمع كلمات مديح وثناء او نظرات اعجاب من فتيات اخريات . ذات يوم نادت علي فتاة تسكن في نفس الشارع الذي اسكن فيه . عندما ذهبت اليها امام باب دارها لأعرف مالخبر , فوجئت بانها مرتبكة وخائفة وتقول ان نارا اشتعلت في البيت بسبب الكهرباء , دخلت مسرعا خلفها للدار لأعرف ماذا يجري . لم تكن هناك نار ولم اشاهد شيئاً ! لم افهم ما كانت تقصد وماذا كانت تحكي نظراتها ..!
    كنت ذكياً مبصرا في الامور التي تتعلق بالدراسة او تحليل الكلام والمقصود منه . لكنني كنت اعمىً أصماً في ادراك لغة المشاعر وما تعنيه . احتجت الى دقائق وانا احكي مع تلك الفتاة لادرك انها كانت تريد مني شيئاً آخر فخرجت بسرعة بعد ان ودعتها بأدب . بعد ان تركنا تلك المنطقة وتغير مكان بيتنا , لم التفت في البداية الى “سحر” مع انها كانت تشغل تفكيري طوال الوقت دون ان اعرف لماذا . لم احاول التواصل معها , لم اشعر بقوة كافية تشدني اليها . لكن بعد مرور سنة وحين بلغت الحلم بدأت معاناتي . وادركت باني احبها بجنون . كانت سحر تعيش بمستوى اجتماعي اعلى , كان هذا الفارق يضع حججا عقلانية تمنعني من التفكير بالذهاب اليها او معاودة اللقاء بها ، لكن النار في قلبي تستعر مع الايام . كنت اراقبها من بعيد فقط , وكنت اتوقع بان علاقتي بها مهما تطورت سيكون مصيرها الفشل . لم تكن فتاة عادية , كانت بهية الطلعة , شامخة , ذات كبرياء وكاريزما قلما تنالها النساء . كانت بذكاء وقاد وتستعمل الكلمات بشكل مؤثر لافت للانتباه . حاولت عدة مرات ان اكلمها في باب مدرستها , لكن دقات قلبي المتسارعة وارجلي تخونني من الوقوف امامها كلما رايتها من بعيد . كنت اشعر بتضاؤل مفاجئ امامها , اشعر بحواجز كثيرة تفصل بيني وبينها . كنت ادرك انها تنتمي لعالم آخر وحياة اخرى ومستوى اجتماعي اخر . واعرفُ , الى حدٍ ما , طريقة تفكيرها وكيف تنظر للعالم والمستقبل والاشياء . بقيت هكذا احترق في حبها دون ان اكلمها لسنين طالت . عندما دخلت الى الجامعة حدود العام 1994 كنت قررت ان اذهب اليها واكلمها مهما كانت ردة فعلها . ذهبت اليها فعلا بحدود آيار – مايو من العام 1995 لكن لم اجدها في الكلية . كنا في المرحلة الجامعية الاولى . لم اعد المحاولة الا بحدود تشرين الاول او الثاني من نفس العام . عندما وصلت اليها وشاهدتها انتابتني نفس “الاعراض” مثل كل مرة . مررت بجانبها دون ان انظر في وجهها ، لكنها هي التي انقذت الموقف , نادت علي من الخلف . كلمتها لأول مرة بعد اربعة سنوات منذ آخر لقاء جمعني بها على تلك ” المصطبة ” من تشرين 1991 يوم اعطتني رمانة (وهو اللقاء الذي لا انساه ما حييت)..
    كان كلامنا عاديا , السؤال عن اخبار الدراسة والاهل , كنت مطأطئ الراس وانا اكلمها مرتدياً في وجهي قناع الصلابة والتجلد . في داخلي كان كل شيء يغلي لأنني اقف امامها , هي التي كانت كل شيء . كانت بشموخها المعهود , وابتسامتها التي لم يخلق الله مثلها في البلاد , راسخة ثابتة , جميلة ومشرقة مثل الشمس . حاولت قراءة دواخل عيونها ، لم تكن عيون سحر التي كنت اعرفها كأنها تحولت الى فتاة اخرى . كانت تتجنب ان تقع عيوني بعيونها كما عرفتها في الماضي . لم تسمح هي ان تتسمر عيوننا ببعض , كان للسنين ما يكفيها ان تفعل ما تفعل من تغيير في كلينا . شعرت بالضياع ولم اتقبل فكرة انها تغيرت واصبحت اخرى غير التي عرفتها . عندما تركتها بعد هذا اللقاء كنت مشوشاً ولا اعرف ماذا افعل , في وقت كنت ازحت عن كاهلي هماً كبيراً في مواجهتها . لكنني بنفس الوقت بدأت ارى في الافق بوضوح ، ان قصة حبي الكبير , توشك ان تتحول الى أكبر الآلام في حياتي . حدثت لقاءات اخرى معها بعد اشهر , حاولت مواجهتها والحديث معها , لكن الكلمات كانت تتعثر في كل مرة في ظل تصلب مواقفها تجاهي وتعبيرها عن الانزعاج كلما رأتني . كان صعبا جدا اخبارها في آخر لقاء معها من العام 1996 , في الرابع من نيسان , بانني طيلة خمس سنوات كنت افكر فيها في كل لحظة من حياتي , والتساؤل المنطقي كان :
    من أحَبَ أحداً لهذا الحد , كيف يمكنه ألا يتواصل معه كل تلك السنين , كيف يمكنني شرح ذلك لها .. ؟
    ربما , كانت الفكرة التي ارتسمت في ذهنها عني انني لم افكر بها طيلة تلك السنوات ولم تكن شيئاً مهما في حياتي . لكنني فجأة انتبهت لها , وانزعجت هي جدا من هذا الاعجاب الطارئ وغير المنطقي والذي كان من الطبيعي ان تفسره بهذا الشكل وان تنزعج منه كثيراً.
    كنا انا وهي في العشرين من العمر في ذلك اللقاء . حين لم اجد أي تبرير لانقطاعي عنها طيلة سنين وحين اعتبرتني غريباً تجهل كل شيء عنه . رغم وقع كلماتها القاسي علي لكنني انشغلت في تأمل عينيها طويلاً . كنت ادرك إن في اعماقها نهايتي وبدايتي . شعرتُ بانهما نافذتي الى سماوات اخرى وعالمٍ آخر . ربما في تلك النظرات , كنت أشيعُ تلك العينين الى مثوى الغيابِ الطويل الذي امتد لستة وعشرين سنة حتى لحظات كتابة هذه السطور.
    هناك تفاصيل كثيرة اخرى عن مشاعري وعن طبيعة ردات فعلها في اكثر من لقاء ذكرتها عند كتابة مذكراتي , لكنها بالمجمل , انتهت بصدمة امام نفسي . شعرت بخذلان من عقلي , كنت اعيش ازمة كبرى مع ذاتي فتحت علي الباب لتساؤلات متعددة احتجتُ لسنوات عديدة , امتدت الى العمر كله حتى اعيد تركيبها وتحليلها وفهم حقيقة المشاكل الجوهرية التي اسهمت في بناء أعماقي المعقدة المأزومة تلك.
    حتى اواخر العام 1990 لم اكن راضياً عن قدري حين ارتحلنا عن البصرة, وكان جل استيائي منصباً على السيد ابو أحمد (الخميني) لأنه أطال امد الحرب التي فرضتها الامبريالية العالمية على بلاده. لكن , لولا تلك الحرب ما كانت الاحداث تسير الى مآل ان نترك البصرة ونسكن في الكوت . لولا ذلك ما كنت لألتقي بسحر. كأنما قوى كونية تتحكم بالقدر هي التي اوحت لي تلك الرؤيا التي شاهدت فيها بيتهم ومنه مشيت في درب طويلة من الحزن والوحشة . كانت الطريق في الرؤيا تعبر عن زمن طويل سيمر والنهر الذي اعبره بقصبة في يدي كان يمثل مرحلة صعبة اتجاوزها في حياتي وانتقالةٍ روحانية من ضفة الى ضفة أخرى . كنت غير راضٍ عن الخميني قبل العام 1990 لأنني اعتبرته السبب في حرماني من ” البصرة ” . لكنني بعدما عرفت سحر كنت اشكره من اعماقي واعتبره ” عرابي ” للدخول الى عالمٍ أجمل . تزوجت سحر من رجل آخر عام 1997 . وبعدما ادركتُ باني خسرتها اصبحتُ , ولسنينَ طويلة , غير راضٍ عن الإله الذي خلق هذا العالم ، كان صعباً جداً ان اتخيل انه في يومٍ ما سيرضيني بعد كل ما عانيته من ألم و أحتراق ..
    -علاج هذه الحالة بالتعويم –
    منهج (كارل روجرز) الذي يعتمد امكانية ان يشفي العملاء انفسهم بأنفسهم هو الموازي لمنهج التعويم الذي اعتمدته . نشوء عقدة بهذا الحجم تتعلق بعدم الرضا عن القدر , وعدم تقبل ” الذات ” وانحطاط كبير في تقدير الذات بسبب خسارات متعددة او احباطات او فشل علاقات تحتاج الى العودة الى البدايات التي سبقت ظهور المشكلة . عندها سيكون من الواضح لدى المعالج النفسي حين يستدعي الذكريات بأسلوب التداعي الحر ان الحلول ستكون بإعادة افتراض ذاكرة موازية غير حقيقية تعيد رسم الاحداث بطريقة ثانية . في ذاكرتي الشخصية عندما افترضت ان الحرب توقفت عام 1982 , اختفت سحر من حياتي ومن المفترض ان تزول معها كل المشاكل . لكن رسوخها في اعماق الوجدان يجعل من سيناريو ايقاف الحرب وانسياب الحياة طبيعية وبرخاء وازدهار في العراق والمنطقة بعد العام 1982 مستحيلاً في اعماقي . لذا كان لابد من التركيز على سيناريو استمرار العلاقة مع سحر ونهايتها بالزواج . نهاية العلاقة بالزواج واعادة تصوير المسار تسمح بظهور مسارات متعددة للاحتمالية في الاحداث . لكنها في جلها , حسب راي العميل الذي يخضع لهذا التصور, ستنتهي بفشل هذه العلاقة والانفصال بسبب طموحات الشريك وطبيعته المختلفة .هناك احتمال ضعيف بنجاح هذه العلاقة فقط في حالة انها (سحر) كانت تحبه بنفس الطريقة والعمق الذي كان هو يحبها .
    بإعادة الجلسة اكثر من مرة , وعلى مدى اشهر متباعدة , اصبحت تلك العقد متراخية قابلة للتعديل في وجداني العميق . اصبحت رؤية المستقبل والماضي عائمة على بحر من الاحتمالات في الاحداث انتهت بقبولي لكل ما حصل في حياتي . هذا التقبل مر بمراحل متعددة :
    اولا قبول اضرار الآخر بي : السيد الخميني , بعض الاصدقاء , سحر
    اعتبرت ان تاريخ الانسانية هكذا , يتقدم ويتطور بتراكم الاخطاء والاضرار والتي اكون بنفسي مشاركاً في جزء كبير منها بشكل غير متعمد ومتعمد أحيانا. لولا الحرب والمأساة ما عرفت ” سحر ” . اكتشفت خلال تلك الجلسات انها كانت اهم حدث في حياتي رغم إنني خسرتها ورغم الألم الذي استمر لسنين طويلة دون قصد منها . لكن في النهاية , انا اصبحت على ما انا عليه اليوم وانا راضٍ عن نفسي جداً , كل هذا حدث بسبب تلك المعاناة وما كنت احسبها ” أخطاء ” لآخرين او لي . الاخطاء المتراكمة اساس للتحول والتطور في مسارات حياتنا .
    ثانيا تقبل ذاتي على علاتها وهناتها : حاولت خلال الجلسات تفكيك رمز الشخصية المثالي الذي نتبناه في الشرق الاوسط منذ الطفولة . نتصور انفسنا باننا نولد مثاليين ويجب ان نحاسب على اخطائنا ونتعرض للعقاب . لابد من تقبل فكرة اننا نولد بدائيين ونحتاج لنتعلم الى الكثير من الاخطاء في حياتنا . عقدة الشعور بالذنب التي تولدت عندي جراء تركي للأصدقاء والزملاء , والذنب الكبير تجاه ” سحر ” بعد ان تركتها لسنين كان لابد من التصالح مع هذه الاخطاء التي ” صنعتني ” رغم فداحة الثمن ..
    كان علي ان اتقبل نفسي بأخطائها , لكن , يجب ان اعترف بانها كانت أخطاء اولاً مهما كانت تبريراتها . انا تهاونت في تقدير من تكون ” سحر ” بالنسبة لي , لقد فرطتُ في حب حياتي الكبير. ورغم محاولتي في التواصل معها وفشلي في ذلك , لكنني في النهاية كان لابد ان ارضى عن نفسي كي استمر واعيش على سطح هذا الكوكب . لان الجميع يفعل ذلك ولا يفكر كما افكر ولا يبال بالآخرين ومنهم ” سحر ” . ولو تواصلت مع الجميع وجرت الامور بشكل علاقات معتادة , لن يتغير الكثير , الحياة تبقى هي الحياة بحلوها ومرها وديمومة مشاكلها وصدماتها . العالم المثالي غير موجود , ولو وجد لن يكون متحركاً وسيكون الى الجمود اقرب .
    بعد تلك الجلسات وعلى مدى ستة اشهر , بين كانون الثاني وحتى حزيران 2022 اكتشفت ان ذاكرتي تحتوي على رموز متعددة وابطالاً اسطوريين مروا في حياتي . اكتشفت الفيلم السينمائي العميق اللاشعوري الخاص بي . هؤلاء الابطال ما كانوا ليبقوا بهذه المكانة والريادة في وجداني العميق لولا شعوري المستديم بفقدهم و التقصير تجاههم . طبعاً البطل الرئيسي لتلك القصة العميقة ” الاسطورية ” هو ذاتي العميقة , الجانب الخفي ” الاسطوري ” من الشخصية الذي احاط نفسه بأساطير واشباه يستمد منهم ديمومة وجوده ” هو ” في هذا العالم . لو تواصل معهم هذا البطل في العالم الحقيقي كان سيكتشف بانهم بشر عاديين بسهولة , وزوال الهالة الاسطورية التي تحيط بهم كان سيضر به كثيراً . ذاتي العميقة كانت بحاجة الى ان تحيط نفسها بهذه الهالة وبدون اشباه لها سيكون ذلك مستحيل . لهذا السبب عدة شخصيات بقيت محتفظة بمكانتها مهما تغيرت الظروف والبيئات خصوصاً ” سحر ” . كان لابد ان تبقى هذه الرموز في سمائي الداخلية مثل نجومٍ عالية بعيدة ترسل ضوئها اللامع وسط الظلام الحالك من الاحزان . لتوقظ في الروح طاقة كبيرة وعالية من الأمل والحنين في ومضة خاطفة نسميها ” العمر” . نحتاج ان نشعر بالحب والحنين تجاه هؤلاء حتى لا تنطفئ ارواحنا ويستديم تألقها وعطائها اذا كنا حقاً نسعى للمحافظة على ” اسطورة ” الذات.
    كانت تلك الجلسات مصالحة حقيقية مع كل ما مضى , والاهم كانت صلحاً طويلاً مع ذاتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى