تعاليقرأي

عالم متناقض..وحوش ضارية بوجوه حملان,

رشيد مصباح

::::
انتهت اللّعبة؛ أحزم أمتعتي و أرحل. سأذهب بعيدا، وأترك كل شيء:

“لم يعد للحياة طعم. ولا للوجود في هذا العالم من معنى”,

ألجُ إلى الغرفة، أوصد الباب خلفي، أرخي ستائر النّافذة الصغيرة بزجاج مهشّم. وألقي بنفسي على الأريكة العجوز.

أسأل نفسي: -“هل أفعلها؟”.

اجيب: – “يجب أن أتريّثُ قليلا”.

أجول ببصري في أنحاء الغرفة شبه المظلمة، أتحسّس بنظري من حولها، هناك تلفاز وكمبيوتر، وطاولة أمامي. لم أعد قادرا على التعرّف على الأشياء في هذه العتمة, كلّ شيء صار عندي نكرة. فوق الطّاولة، كراستي العجيبة: “آخ؛ كم تحمّلت المسكينة”. فوقها القلم الأزرق الجاف: رفيق دربي. بجانبها نظّارتي الرّخيصة: لا أرى بها، ولا أنا أستعملها كثيرا. وريموت كنترول وأخرى للتلفزيون.

“مشوّش الذّهن، لستُ أدري ما أصابني في هذا اليوم؟”.

سحبتُ ريموت التلفزيون، شغّلتُ الشّاشة. ثمّ أعدتّ الرّيموت إلى مكانها الأوّل. أخذتُ ريموت الكونترول، ضغطتُّ على الزّر، لكنّها لا تعمل ولا تستجيب. إنّها الرّطوبة اللّعينة؛ قضت على كل شيء في هذا البيت، حتى على شبه الأحياء أصحابه. حاولتُ ثانية وثالثة… وأخيرا، ها هي تستجيب؛إنّها “المعجزة”: بركة الصّلوات الخمس.

رحتُ ابحث عن القنوات المفضّلة: بداية الجزيرة، نفس الأخبار، نفس الأحداث تتكرّر يوما بعد يوم. فلسطين والعدوّ الغاشم، الكيان الصهيوني: “توم وجيري”. أعدتُ البحث من جديد،ولجتُ إلى قناة النّهار؛ ّأوّل” قناة إخبارية في الجزائر؛ اجتماع هنا، اجتماع هناك… لقاء هنا وآخر هناك، خطاب وراء خطاب… تنديد ووعيد..؛نفس الكلام، نفس الأسماء والوجوه؛ لا جديد يذكر، ولا قديم يفيد.

أدرتُ القناة، ورحتُ أبحث وأبحث.. فوقعتُ على قناة أجنبيّة؛ الحمد لله على الأقل هناك في هذا العالم أحياء.

غفوتُ قليلا ثم صحوتُ، أفقتُ من غفلتي: “تراني قد تخلّيتُ عن قراري بالرّحيل؟”.

ما أغربني؟ا وما أغرب هذا العالم الذي أعيش فيه؟ا

قرّرتُ أن أخلد إلى غرفتي على الرّغم من الرّطوبة؛استغنى عن الحاضر والمستقبل. يأخذني الشوق والحنين إلى الأيّام الخوالي،

قمتُ بتشغيل جهاز الكمبيوتر، رفيقي الدّائم. فتستجيب الفأرة و الّلوح، لوح المفاتيح, أعزف على الحروف فتتشكّل الكلمات. تتزاحم الأفكار حاملة في ثناياها المشاعر؛ مشاعر حب وخوف ورجاء، مشاعر من الماضي والوحدة التي أنا فيها:

كل يوم تطلّ فيه الشّمس ويطلع فيه النّهار هو معجزة بالنسبة لي.

وهناك من يسأل عنّي: – ” أين ذاك الوغد قد اختفى؟”،

هل هي مشاعر حقيقيّة؟

يعلمون جيّدا أن الحياة فقدت بريقها في هذه الأيّام. ومع ذلك يصرّون,

ويعلمون جيّدا أنه لم يعد هناك ما يَسرّ ويُفرح، أو يجعلك متفائلا بقدوم يوم جديد،على الأقل. لكنّهم يتعامون,

في هذه الأيّام؛ التي دنّسها الطفيليّون والوافدون. وارتدى فيها الوحوش الضّواري أقنعة الحملان الوديعة، وتجلبب المنافقون فيها بعباءة التّقوى والأيمان وقلوبهم الجافية مشحونة بالحقد والكراهية؛ أشحّة على الخير، يسلقون النّاس بألسنة حِداد… لذلك، أتّخذتُ قراري، في هذه الأيّام الأخيرة، أن أهجر هذا العالم: عالم غريب، مليء بالتّناقض.

فكفاني بعد اليوم عتاب، وقد اخترتُ الوحدة.

حين يتحرّك الوجع، ويكبر الشّوق والحنين، وليس هناك من صاحب ولا رفيق أنيس، فلن تجد أمامك سوى الماضي، بحلوه ومرّه، وآماله وآلامه.

الماضي؛ ماضينا أنا و أنت، كتاب مفتوح، نقرأه؛ كيفما كان ومتى نشاء و نريد، دون قيد أو شرط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى