مجتمع

صناعة الجنس في العالم .. ماهي البورنو غرافيا ؟

ضياء البوسالمي

تنويه : هذه ترجمة لمجموعة من المقالات المكتوبة باللّغة الفرنسيّة حول موضوع “اٌلبُورْنُوغْرَافيَا” وهو موضوع مهمّ و حسّاس نادرا ما يقع طرحه.
البورنوغرافيا هي محور حديث الجميع و الكلّ “يستهلكها” و منهم من يفعل ذلك عدّة مرّات في اليوم، فالإنسان مهووس “بِاٌلبُورْنُو”. سنسعى من خلال هذا المقال/التّحليل أن نفكّ رموز هذا العالم المليء بالأسرار و هو عالم مُركّب و مُعَقَّد على عكس ما يظهر للمشاهد العاديّ.
لا يوجد حياة بدون جنس، إنّه واجب الوجود فالإنسان كلّما طوّر تكنولوجيا جديدة إلاّ و إستعملها ليحوّل ما يبهره إلى مشاهد. و قد تكون الصّور في بعض الأحيان صورا مُغْرِيَة فهي مخبّئة في أعماق كهوف إفتراضيّة و قد تمّ تركيبها و إعدادها للتّرفيه. و التّقنية التي تُستعملُ لتحقيق ذلك هي وضعُ “الجنسِ” ( La sexualité ) في الواجهة، على الرّكح لنستمتع بمشاهدته.
على مرّ العصور و تزامنا مع تطوّر الإنسان، تطوّرت معه مجموعة من المنظومات الأخلاقيّة و “اُلتَّابُوهَاتِ” تشكّلت في طبقات الواحدة فوق الأخرى و غطّت على هذا الموضوع ( أي الجنس ) و جعلته مُحرّمًا و ممنوعا بل و جعلت من يتحدّث عنه أو يقربُه ملعونا إلى أبد الدّهر. عندما نخوض في موضوع الجنس، فإنّ الأمر يهمّ الجميع دون تمييزٍ لذلك نلاحظ طُرُقًا متعدّدة في عيشه، ممارسته، فطرق ممارسة الجنس و التعامل معه و كيفيّة تمثّله في الأذهان تختلف من مكان لآخر و من ثقافة لثقافة أخرى. وسواء كان الجنس خيالا أو حقيقة ملموسة، فإنّه يبقى دائما في قلب وجود الإنسانيّة و تمثيله منطقيّ بل إنّها حتميّة لا مفرّ منها على الرّغم ممّا يسبّبه هذا الموضوع من إحراج للكثيرين.
إنّ هدف هذا المقال/التّحليل لا يتمثّل في إخفاء، منع أو تقديس الجنس و إنّما هو عمل هدفه البسيط رصدُ مدى أهميّة دور الصّحافة و وسائل الإعلام – بما أنّها مؤسّسات فاعلة في في المجتمعات المعاصرة – في التّعامل مع إنتشار هذا “الموضوع” الذي يغري البعض و يُقزّز البعض الآخر و الذي نسمّيه “بُورْنُوغْرَافِيَا”. إنّها موضوع للتّأمل و التّفكير مثل بقيّة المواضيع المهمّة ولا يمكن في أيّ حال من الأحوال تبسيطها أو إدراجها ضمن التّابوهات أو المحرّمات. فكيف ساهمت الصّحافة و وسائل الإعلام في تبسيط و تسطيح البورنوغرافيا ؟ السّؤال مشروع مع أنّ هذه المسألة لم تُنَاقَشْ من قبل.
في مجتمعاتنا المعاصرة، لا أحد يمكن أن ينكر الدّور الفعّال لوسائل الإعلام في صناعة الرّأي العام و توجيهه ( لأنّها تعلم كلّ شيء! ) و لكن ماذا تعلمُ !؟ و قبل كلّ شيء، ماهو الموضوع الذي نتحدّث عنه ؟ لماذا يجب علينا أن نعلم ؟ ” إنّ الحياة يمكن أن نعيشها بشكل طبيعيّ حتّى و إن لم يكن هناك لذّة و إستمتاع” بالرّغم من أنّ اللّذة هي الحياة. ههنا تَظْهَرُ المُفَارَقَة التي تختبئ في وجودنا اليوميّ !
لتحديد ماهية البورنوغرافيا، يبدو أنّه من المنطقيّ أن نبدأ بتعريفها إنطلاقا ممّا يتعارض مع حقيقتها. إنّها أساسا مشكلة لغويّة و فلسفيّة في آنٍ، فماذا لو كان هناك تنوّع و تعدّد في الجنس
( Plusieurs sexualités ) و ماذا لو كان الأمر كذلك فيما يتعلّق بالبورنوغرافيا ؟ إنّ المشكلة هي أكثر تعقيدا ممّا تظهر عليه إذ لا يمكن حتّى تحديد تعريف واضح و وحيد.
لتعريف البورنوغرافيا بدقّة، يجب علينا أن نتحاشى تلخيصها و حدّها بل بالعكس إذ ” يمكن أن نخون المصلحة و نخطئها أو نجهلها و لكن ذلك مستحيل في حالة الرّغبة ” على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسيّ “جِيلْ دُولُوزْ” الذي يظهر هنا أنه إقترب من الحقيقة فيما يقول.
هل من الطّبيعيّ أن تُبَسَّطَ البورنوغرافيا في عصرنا إلى هذا الحدّ ؟ هذا السّؤال ليس مهمّا و لكن ماذا لو غامرنا و حاولنا الإجابة عنه : لا أحد يشكّ في أنّ الأخلاق – مرّة أخرى – تتدخّل في منظومة أفكارنا لتزعجنا، هل هذه هي الوظيفة الحقيقيّة للأخلاق ؟ مُنَاصِرُو الرّقابة يؤكّدون ذلك و دعاة الحريّة ينفونه و يكذّبونه !
مرّة أخرى بدون منهجيّة بحث، بدون منطق، بدون دراسات معمّقة للمفاهيم نجد أنفسنا في حلقة مفرغة فننتهي إلى السّير على رؤوسنا دون الإنتباه لذلك. لنترك جانبا من يدّعون أنّهم يعلمون كلّ شيء أولئك الذين تمنعهم الدّوغمائيّة عن رؤية الواقع. ” التّقييم هو عمليّة مزعجة لا لأنّ كلّ “شيء” له قيمة بل لأنّ كلّ “شيء” له قيمة لا يمكن أن يبرز إلا بتحدّي التّقييم و النّقد ” هكذا نبدأ هذه الرّحلة في هذا العالم البورنوغرافيّ المجهول الذي فضّلنا تركه و إهماله منذ زمن بعيد.
لا يوجد تعريف دقيق و مُتّفقٌ عليه للبورنوغرافيا فهي ككلّ ظاهرة تتطوّر و تتغيّر بتغيّر المجتمعات و العصور. فمنذ قرون في اليونان، كانت عبارة « pornéïa » تعني الخطيئة و الفسق و الفجور و هو توصيف لكلّ أشكال الجنسِ الخارج عن المألوف ( les dérives sexuelles ). و بورنوغرافيا هي كلمة يونانيّة ( القرن الخامس قبل الميلاد ) و هي متكوّنة من كلمتين “بُورْنِي” « pornê » و هي المومس أو بائعة الهوى و “غْرَافْيَان” « graphien » و هي الكتابة. إذا فالكلمة – بمعناها القديم – بائعة الهوى بصدد ممارسة الجنس و الفنّان/الرّسام الذي يخلّد تلك اللّحظة يسمّى “بُورْنُوغْرَافْ” « pornographe ».
في القاموس الفرنسيّ ( (Le Petit Robert (2001 ) نجد هذا التّعريف : ” سنة 1842 مُعاهَدةُ الدّعارة، 1800 بُورْنُوغْرَافْ مهمّته تخليد أفعال فاحشة يتمّ نقلها إلى العامّة ( يتمّ نقلها عبر الصّور، اللّوحات أو الكتابة ). إِيرُوتِيزْم ( érotisme ) و بُورْنُوغْرَافْيَا ( pornographie ) في الأدب : اٌلفُحْشُ في اُلنّصوص الأدبيّة أو في العروض المسرحيّة. ” أمّا في قاموس ( (Le Littré (2004) ) فالتّعريف أكثر دقّة : ” اٌلبورنوغرافيا هي الفحش في النّصوص الأدبيّة، في الصّور، في اللّوحات أو في الأفلام بهدف تمثّل عمليّة الجنسِ و إثارة خيال المُتلقّي. منذ عقود أدخلت وسائل الإعلام البورنوغرافيا في الحياة العامّة. ”
هذه التّعاريف من مختلف المعاجم هي تعاريف عامّة، غير دقيقة و بدون أيّ مرجعيّة أو تدقيق في عامل الزّمن. إنّها تطرح أسئلة من المستحيل أن نعثر لها على أجوبة، فتعريف ( Le Littré ) يوحي بنبرة متعاليةو يتّخذ موقف الواعظ و المرشد و المتّهم لوسائل الإعلام – مؤسّسة غامضة داخل المجتمعات المعاصرة – بأنّها هي من بتبسيط “الفحش” ( l obscénité ). فالأمرالفاحش هو ما يخدش الحياء، و كما يفسّر الكاتب “فِيلِيب دِي فُولْكُو” فإنّ كلمة فاحش ( obscène ) تعود في الأصل إلى كلمة (obscena) و هي إشارة إلى ما لا يجب كشفه للعامّة. و في الغرب، تحت الضّغط المسلّط من قِبل الدّيانة المسيحيّة، دخلت عبارة ” فاحش” إلى المعجم القانونيّ. فعكف مجموعة من مفكّري و فلاسفة الأنوار على دراسة هذا المفهوم و كنتيجة لهذه المجهودات و الدّراسات ظهر مفهوم ” الإيرُوتِيزْمْ” ( érotisme ) – في مقابل مفهوم “البُورْنُوغْرَافِيَا” ( pornographie ) – فالإيروتيزم لا يهتمّ بالجنس فقط بل يركّز على ما يثير حواسّ المُشَاهِد.
يستعمل الينانيّون القدامى كلمة “إِيرُوس” « érō-;-s » ليحيلوا على معنى العشق و الحبّ و الرّغبة في ممارسة الجنس، و من خلال ذلك نستنتج أنّ العشق و الرّغبة يصنّفان في خانة الإيروتيزم. لكن هناك ما يمكن إستنتاجه أيضا إنطلاقا ممّا سبق و هو أنّ البورنوغرافيا ما دامت تتطوّر و تتغيّر بتغيّر الأخلاق و العصور أليس من الطّبيعيّ أن يتحوّل ماهو “بورنوغرافيّ” ( pornographique ) اليوم ليصير غدا “إيروتيكيّا” ( érotique ) و ماهو إيروتيكيّ اليوم يصير بورنوغرافيّا غدا ؟
في القرن الثّامن عشر، كتب “نِيكُولاَ إِدْم” مجموعة من النّصوص حول موضوع البورنوغرافيا و قد إقترح مجموعة من الأشياء من بينها منظومة تشريعيّة لتأطير و إحتواء “تجارة الجنس” ( le commerce du sexe ) و ذلك بإنشاء نقابة ( le syndicat du travail du sexe ). و هو ما تسبّب في سجنه تماما كما حصل مع الكاتب “مَارْكي دي سَاد” على الرغم من أنّ نصوص هؤلاء الكُتّاب تُعتمد للتّدريس اليوم في المعاهد و الجامعات و تُعتبر نصوصا إيروتيكيّة. و إذا أصبح من المستحيل “خدش الحياء” من خلال هذه النّصوص – التي مُنعت و حُجبت في الماضي – فإنّ ذلك هوأكبر دليل على أنّ الزّمن غيّر من وجهة النّظر تجاه هذه الأعمال : فماهو بورنوغرافيّ تحول ليصير إيروتيكيّا. و قد أجابت “جَانِيتْ مَاسُّو-لاَفُو” – وهي كاتبة و باحثة و أستاذة محاضرة في معهد الدّراسات السّياسيّة بباريس – عندما سُئلت عن هذا الموضوع : ” البورنوغرافيا هي إيروتيكيا الآخرين ” وهو ما يمكن فهمه على أنّه الفعل المخجلُ الذي يتحوّل إلى إلى فعل فاحش. و قد أشار “رُوَان أُوجِيَان” في كتابه ” تفكير في موضوع البورنوغرافيا ” إلى القاضي الأمريكيّ “بُوتر ستِيوَارت” الذي قال : ” لا أستطيع تعريف البورنوغرافيا و لكن بإمكاني معرفتها ” و هذا دليل على أنّه و حتّى في الولايات المتّحدة الأمريكية – أين توجد صناعة ضخمة للبورنوغرافيا أمام البرازيل و هولندا – تبقى البورنوغرافيا مفهوما مُبهَمًا يصعب تحديد تعريف واضح له. من هنا يمكن أن نستخلص أنّ البورنوغرافيا هي ما لا يُحَبَّذُ سماعه أو رؤيتُه.
القانون في الغرب لا يعتبر أنّ البورنوغرافيا هي تمثيل للفعل الجنسيّ لأنّه تعريف غير دقيق. في فرنسا من المستحيل أن يعرض بائع الصّحف مثلا صورة في مجلّة فيها تمثيل لممارسة الجنس بطريقة علنيّة أي وضوح الأعضاء التّناسليّة. كذلك يُمنع تمرير رسالة ذات طابع بورنوغرافي يمكن أن تقع في يد قاصر لأنّ صاحبها يتعرّض لعقوبة تصل إلى ثلاثة أعوام سجنا و خطيّة بقيمة 75000 أورُو و ذلك بالرّجوع إلى قانون العقوبات الفرنسيّ ( الفصول من 224-227 ) . لكن يُسمح بعرض صورة في الشّارع من الحجم الكبير لفتاة عارية كما تفعل ذلك مجلّة “Hot Vidéo” منذ 1989.
فماهو الفرق إذا بين البُورْنُوغْرَافِيَا و البُورْنُو ؟
حسب “دُومِينِيكْ فُولْشَايِدْ” في “معجم البورنوغرافيا” الفرق هو : ” في الصّور، في اللّوحات أو في النّصوص نحن أمام أعمال مُتَخَيَّلة من طرف مبدعيها، في حين أنّ البورنو يركّز على الفعل الجسديّ في حدّ ذاته ” البورنو يضع بالضّرورة أجسادا حقيقيّة يسلّط عليها الضّوء في حين أنّ البورنوغرافيا يمكن أن تعوّض التّصريح بالتّلميح كما فعل ذلك المغنّي الفرنسيّ “سَارجْ غاينْزْبُورج” في أغنيته “Je t aime moi non plus” و هي أغنية مليئة بالإيحاءات الجنسيّة التي توحي بالطّابع البورنوغرافيّ للأغنية. و عند خروج هذه الأغنية قامت أغلب الإذاعات الأوروبيّة بمنعها و ذلك بسبب تأوّهاتِ “جِينْ بركِين” – الفنّانة التي شاركت في الأغنية – التي إمتدّت حتّى آخر الأغنية. إذا فإنّ السّينما و مقاطع الفيديو هي الوسائل التي يمكن من خلالها أن نميّز بين البورنو و البورنوغرافيا. فالبورنو دائما هو بورنوغرافيّ بما أنّه يسلّط الضّوء على الجنس و يركّز عليه و البورنوغرافيا ليست دائما بورنو بما أنّ نصّا أدبيّا، أغنية، صورة أو لوحة يمكن أن يصنّفوا كبورنوغرافيا دون تجسيد للعمليّة الجنسيّة.
سنة 2014، تحوّلت البورنوغرافيا إلى تسليط الضّوء على الجسد الفاعل و الجسد المفعول به ( corps pénétrant, corps pénétré ) و بصفة أدقّ التّركيز على الإنتصاب الذّكوري، لكن يبقى تعريف البورنوغرافيا صعبا مع إمكانيّة إعطائها موقعا محدّدا على الأقلّ. و منذ ثلاثة عقود تقريبا كلّ ما يتعلّق بالإعتداء الجنسيّ على الأطفال و كلّ ما يخصّ زنا المحارم كان يعتبر “تَابُو” لا يمكن الخوض في تفاصيله في حين أنّ البورنوغرافيا – و ليس البورنو – تجرّأت على هذه المواضيع و قد كان ذلك منذ إستخدامها لمصطلح “بورنُو شِيكْ” في الإشهارات التّلفزيّة منذ سنة 1990 و ما قابل ذلك من ضعف تأثير الكتابة و هوما أدّى آليًّا إلى شَيْطَنَةِ البورنوغرافيا المكتوبة، مع العلم أنّها تسجّل حضورها بقوّة اليوم خصوصا على شبكة الأنترنيت و ذلك لسهولة الوصول إلى هذا النّوع من النّصوص.
أشار “دَانْيِيل كُوهِن-بِندِيت”في كتابه “Le grand bazar” الصّادر عام 1975 مسألة الصّحوة الجنسيّة للأطفال من خلال العناق و غيرها من الممارسات المألوفة. و لم يصبح هذا المقطع من الكتاب موضوع نقاش إلاَّ بعد 25 سنة فقد قامت الصّحفيّة الألمانيّة “بَاتِينا رُوهِلْ” بالإشارة إلى ذلك و قد إعترف “كُوهِن بِنْدِيت” بخطئه و أشار لى أنّ ما كتبه لا يُطاقُ.
إنّ الأخلاق و التّابوهات تتحوّل و تتبدّل بسبب التطوّر الزّمني، فبورنوغرافيا الأمس تمرّ بجانب “الإيروتيزم” و إنتشارها اليوم بطريقة مكثّفة في المجتمعات المعاصرة تقوم به تحت غطاء الحداثة أو لنقل بإسم آخر : البورنو. بما أنّ هذا الأخير يُستَهْلَكُ بطريقة عجيبة فإنّ لم يعد ذلك التّابو الذي يُمنَع النّقاش حولهُ. وحده الإعتداء الجنسيّ على الأطفال و زنا المحارم هما المرفوضتان أمّا بقيّة الممارسات الجنسيّة الأخرى كالمثليّة و المتحوّلون جنسيّا يعاملون كمواطنين لهم حقوق و عليهم واجباتمثلهم مثل البقية. و إذا أصبحت الممارسات الجنسيّة معتادة و مألوفة من قبل الجميع، فإنّ “دراسات البورنو” ( Porn Studies ) هو مفهوم حديث لم نتعوّده، فأوّل الدّراسات التي من هذا النّوع لم يقع تهديدها إلاَّ في فترة ما بعد الحرب أي في سنة 1950. وهذه الدّراسات مع أنّها تُنشر و تُوزّع في الغرب إلاَّ أنّها لم تحقّق نتائج جيّدة و لم تأثّر على المجتمعات. في فرنسا كان النّقاش أساسا في موضوع البورنوغرافيا حول حماية القُصَّرْ في حين أنّ النّقاش في الولايات المتّحدة كان مركّزا أكثر على مكانة المرأة. في فرنسا القوانين و الرّأي العامّ يتكوّنان من خلالِ مجموعة من القيم الكونيّة في حين أنّ المر يختلف في الولايات المتّحدة إذ للوبيّات و التّجمعات دو هام في التّأثير على المصلحة الجماعيّة. و على الرّغم من كلّ هذا لا يتطوّر القانون بطريقة منطقيّة، إذ يمكن لقاصر في فرنسا أن يطّلع على ما يتعلّق بالجنس و هو في سنّ 15 مع أنّه لا يسمح له بمشاهدة البورنو إلاَّ بعد سنّ 18.
كتب “بِرْتْرَانْد رَاسِّل : ” أصحاب الآراء الجاهزة يقولون لك أنّ هذه الصّور تسبّب الضّرر للآخر، مع العلم أنّ لا أحد منهم يستطيع أن يخبرك أنّها سبّبت له ضررا هو أيضا ” إذا يمكن أن نحاول أن نضع تعريفا دقيقا للبورنوغرافيا : يُعتبرُ بورنوغرافيّ كلّ ما يمكن أن يخدش حياء مجموعة من الأشخاص أو أن يمسّ براءة الأطفال، ولا يعتبر بورنوغرافيًّا كلّ ما لا يزعج محافظي مجتمعاتنا و لا يتجاوز القانون الذي نادرا ما كان من مناصري الحريّة و التّقدّم.
لقد تمّت الإشارة في المقالين السّابقين إلى أنّ البورنوغرافيا لا يمكن أن نعثر لها على تعريف دقيق وواضح وقد تمّ التّأكيد أيضا على أنّها ليست ظاهرة جديدة بل على العكس هي موجودة منذ خمس قرون قبل ميلاد المسيح. بورنوغرافيا ( pornographia ) عمل يعود للرّسام اليونانيّ “بَارَاهَاسْيُوسْ” ( Parrahasios ) و قد إعتبره الكاتب و المؤرّخ الرّومانيّ “بْلِينُوسْ الأَكْبَرْ” ( Pline l Ancien ) كأكبر فنّاني عصره و أفضلهم على الإطلاق إلى درجة أنّ لوحاته أصبحت تمثّل مرجعا. ” من خلال أعماله المفقودة اليوم، توجد لوحات ذات صبغة واقعيّة تجسّد أجسادا عراة ” لقد أُجبر “بلينوس الأكبر على حياة العزلة فقد وقع نفيه لأنّه تجرّأ و جسّد نفسه في لوحة على شاكلة “هيرميز” المعروف عند اليونان بإسم “مِيرْكُورْيُوسْ” و هو مراسل الآهة و ثاني أصغر آلهة الأولمب. و يمكن أن نذكّر في هذا المجال أيضا أنّ بالإمبراطور الرّوماني “تِيبِيروس” ( Tibère ) و الذي كان مولعًا بالبورنوغرافيا ( Pornographia ). و في عام 300م كان المفكّر و الفيلسوف “أَثْيَانُوسْ” ( Atheneus ) قد أشار في كتاباته أنّه خلال ” عشاء مع الفلاسفة ” وقع نقاش حول ” بُورْنُوغْرافُوس ” ( Pornographos ). و في كتاب “بَاْسكَالْ كِينْيَارْد” الصّادر سنة 1994 بعنوان “الجنس و الرّعب”، أشار الكاتب إلى أنّّ كلمة “بورنوغرافيا” لم تكن موجودة في العصور الغابرة كذلك بالنّسبة لمجموعة من الكلمات الأخرى كالمثليّة مثلا، فهذه الكلمات لم تظهر إلاَّ إنطلاقا من القرن 19. إذا بورنوغرافي ( PornographIE ) ليس لها نفس نفس معنى كلمة بورنوغرافيا ( PornographIA ) و التي تعني لوحة فنيّة لبائعات الهوى.
فسّر “فِلِيبْ دِي فُولْكُو” أنّه تمّ العثور على مجموعة من المنحوتات التي تمّت الكتابة عنها في في كتاب ( Chronique de Nuremberg) للكاتب “هَارْتمَان شِيدَال” الذي أظهر في القرن 15 أشياء فاحشة مثل نساء منحنيات أمام رجل – بأيره المنتصب- تنتظر كلّ واحدة دورها لتهديه نفسها. و في فترة البابا أدريان السّادس – التي لم تدم سوى سنة واحدة – أصدر أمرا بتغطية الأعضاء التّناسليّة للتّماثيل بأوراق العنب لهذا السّبب أصبح هذا البابا منبوذا و إعتبره الجميع رجعيّا و جاهلا. ( كان آخر بابا ألمانيّ الجنسيّة قبل بندكت السّادس عشر ( Benoit 16 ). و تجدر الإشارة إلى أنّ ” دليل الكتب المحرّمة ” أو ” Index Librorum Prohibitorum ” الصّادر سنة 1559 بأمر من بولس الرّابع ( Paul 04 ) و هودليل على أنّ الكنيسة تسعى إلى السّيطرة و الهينة من خلال الرّقابة و إخضاع العامّة و قد حُيِّنَ هذا الدّليل بصفة دوريّة حتى سنة 1961. و بصفة عامّة، منذ سنة 1530 شهدت المجتمعات موجة من الإحتشام التي عمّت على الجميع في عصر النّهضة ( la Renaissance ). و أكبر دليل على ذلك هذه العودة إلى الأخلاق هو ما فعله الرّسام “دَانييل دي فُولْتِيرَا” من خلال تغييره للوحة “مِيكايل أُونْجْ” -الحساب الأخير ( le denier jugement ) – و ذلك بهدف ستر العورات و الأعضاء التّناسليّة في اللّوحة و هو ما تسبّب في تسميته بصانع الملابس الدّاخليّة ( IL Braghettone ) و قد ذكرت عالمة الإجتماع “مِيكَايلَّا مَارَازَانُو” في كتابها ” البورنوغرافيا و إستنزاف الرغبة ” أنّ كلمة فاحش( Obscène ) إستُعمِلَت للمرّة الأولى سنة 1534 و قد بقي إستعمالها نادرا حتّى بدايات القرن 17.
لقد أدخل الكاتب “بِيَار كلُود فِيكتُوَارْ” في معجمه العالميّ للغة الفرنسيّة الصّادر سنة 1800 كملة “بُورْنُوغْرَافِيَا” ( Pornographie ) و هي مشتقّة من كلمة “ُبورْنُوغْرَافِيّ” ( Pornographe ) و التي تعني – كما أشرنا سابقا – تجسيد لحظات ممارسة الجنس من طرف بائعات الهوى. و في القرن 16، كان الشّيخ النّفزاوي* سابقا لعصره من خلال كتابه ” الرّوض العاطر في نزهة الخاطر” و الذي تضمّن مجموعة من من النّصائح و الإرشادات نذكر منها كيفيّة تكبير حجم الأير أو تضييق فرج المرأة و هو أكبر دليل على أنّ هذه الأمور ليست مجرّد رغبات حديثة وقع نشرها و بسطها للعامّة بفضل وسائل الإعلام و بفضل إنتشار البورنوغرافيا كما يعتقد ذلك مجموعة من المفكّرين و العديد من وسائل الإعلام. و تزامنا مع إنتشار البورنوغرافيا و تخلّص المجتمعات من مجموعة من العقد و “التّابوهات” و مناداتها بالحريّة و الإنعتاق على خطى فلاسفة الأنوار، كانت المطالبة بموت الإلاه أي كسر و تحطيم أيّ حاجز دينيّ يقف أمام الحريّات. و قد طوّر مجموعة من المحافظين مفهوم “الإيروتيزم” أو “البورنوغرافيا المحتشمة” و تحوّل الإيروتيزم إلى رمز للحبّ. يقول “جُورْجْ بَاتَايْ” في كتابه “إِيرُوتِيزْم” الصّادر سنة 1957 : ” الإيروتيزم هو ذاكرة الجنس ” و تختلف البورنوغرافيا عن الإيروتيزم، حيث أنّ هذا الأخير يقوم بحجب الأعضاء التّناسليّة ” لأنّ الذين يحسّون بالإنتشاء تُنزعُ عنهم صفة الإنسانيّة ” كما كتب ذلك “جَاك ِوينْبِيرغ” الذي يُكمل تحليله : ” و بدون الإنتصاب الذّكوريّ و الرّغبة لا توجد بورنوغرافيا “. إذا فالإنتصاب هو المعنى الحقيقيّ للبورنوغرافيا و بذلك فمن المنطقيّ في إطار تحليل شاملٍ أن نستعين ب”بيَارْ بُورْدْيُو” و كتابه “الهيمنة الذّكوريّة” و الذي أشار فيه الكاتب إلى نتائج هذه “الهيمنة المتكبّرة” على النّساء و قد حمّلهنّ مسؤوليّة ذلك ” من خلال قبولهنّ بوضعيّات يكنّ فيها خاضعات لسلطة الرّجل ” و يمكن أن يكون ذلك مصدر سعادة بالنّسبة لهنّ. و للتّذكير فقط فإنّ “سِيغْمُوند فْرُويد” هو من حدّد طبيعة الإنسان بكونه ساديّا بطبعه أي حالة الجلاّد الذي يتلذّذ بتعذيب ضحيّتِهِ.
البورنوغرافيا ليست ظاهرة إجتماعيّة أو تاريخيّة معزولة بل هي وسيلة للغوص في أعماق الذّات البشريّة ووضعها في صور علنيّة. ثمّ أخيرا و بعد عدّة قرون من عدم الإستقرارِ، ثبتت الأخلاق كما فسّر ذلك “فِيليب دِي فُولْكُو” :” بين 1800 و 1960 لم يتغيّر شيء ” و لكن من الضّروريّ تنسيب هذه القولة ففي هذه الفترة تحديدا سنة 1895 وقع إختراع السّينما ( من طرف les frères Lumière ) و قد تمّ إستعمال هذه التّكنولوجيا الجديدة – آليّا – في تمثيل الجنس، و قد كانت نتيجة منطقيّة و متوقّعة. و تجدر الإشارة إلى أنّه و منذ إختراع السّينما و الكاميرات، صُوّرت أولى الأفلام البورنوغرافيّة – بطريقة هاوية و سريّة أساسا – التي صوّرت بائعات الهوى مع حرفاء في بيوت دعارة. و يصعب اليوم العثور على أثرٍ لهذه الأفلام مع العلم أنّه يمكنأن نجد 4 أفلام من إنتاج فرنسيّ و ذلك حسب موقع nuddz.com : فيلم la coiffeuse سنة 1905 مدّته دقيقة واحدة، فيلم l heure du thé سنة 1925 مدّته 5 دقائق، فيلم Agenor fait un levage سنة 1925 مدّته 8 دقائق و فيلم massage سنة 1930 و مدّته 7 دقائق. كذلك توجد مجموعة من الأفلام في فترة الإستعمار النّازي لفرنسا ففي الفيلم الوثائقيّ ل”بَاتْرِيك بوِيسُّون” ” حبّ و جنس تحت الإحتلال” نلاحظُ أنّه هناك مجموعة من الأفلام البورنوغرافيّة التي صُوّرَت و بُثّت في في بيوت دعارة فرنسيّة يرتادها ألمان. يقول الشّاعر الفرنسيّ “بُودْلِيرْ” : ” إذا عالجنا مثل هذه المواضيع و ناقشناها لن تكون مسبّبة للإحراج و الذي ليس إلاّ مجرّد هراء ” و هنا دليل على أنّ البورنوغرافيا حتّى و إن بقيت تُصنَّف على أنّها موضوع “هامشيّ” فإنّها ليست كذلك وهذا منذ قرون عديدة.
*الشّيخ أبو عبد الله محمد بن محمد النفراوي صاحب كتاب “الرّوض العاطر في نزهة الخاطر” و الذي ألّفه ( بين عامي 1410م و 1434م ) بطلب من سلطان تونس عبد العزيز الحفصي.
منذ بداية العصر الذّهبي ( منذ سنة 1900 ) تحوّل الجنس إلى الشّاشة و بالتّالي أصبح وسيلة لربح المال و بعد 20 سنة منذ إنتهاء الحرب العالميّة الثّانية أصبحنا نتحدّث عن “حبّ الجسد” و خرجت البورنوغرافيا نسبيّا من وضعها الهامشيّ الذي كات عليه. و قد سعت المافيا الإطالو-أمريكيّة منذ ثلاثينات القرن الماضي وضع آلات في محلاّت تجاريّة كانت مجهّزة بغرف مخفيّةٍ ( back-room ) كانت تُعرض فيها الأفلام بصفة سريّة. و كان من الضروريّ أن يُعاد بناء كلّ المفاهيم بطريقة علميّة بعيدا عن الإيديولوجيا و ذلك بعد أن تراجعت سلطة الكنيسة و قدرتها على التّأثير أمام التطوّر العلم. فهذا الأخير يواجه الإيمان الأعمى و يدحض الدّوغمائيّة و يفضح الأكاذيب و الأساطير، و حتّى لو إعتقد المتديّنون في في قدسيّة الدّين و بالتّالي إستحالة تعرّضه للنّقد فإنّه و في المقابل، نلاحظ تراجعا لسلطة الكنيسة في أوروبا فقد فسحت المجال للسّياسة. و قد وجدت الشّعوب في الدّولة مجالا أرحب لممارسة الحريّات و التّمتع بصفة المواطنة و هي أمور لم تكن ممكنة تحت سلطة الكنيسة، فالمطالعة و الثّقافة لم تعد حكرا على أصحاب السّلطة الدّينيّة و المترفين من الطبقة البورجوازيّة فقد تحرّرت الشّعوب شيئا فشيئا لتجد وسائل متعدّدة للتّرفيه مثل التّلفاز و الأدب …
في سنة 1920، كان من الممكن أن يكون حديث “جَاكْ شَارْدُونْ” عن الحبّ و الصّعوبات التي يمكن أن يتعرّض لها الأزواج في كتابه “l épithalame” صادما للكثيرين لا بسبب فُحْشِ محتواه و إنّما بسبب الحقيقة المزعجة التي يطرحها و التي لو كانت الكنيسة متمتّعة بقوّتها كما في الماضي لقرّرت أن تخفي مثل هذه الحقائق دفاعا على منظومة الزّواج المقدّسة في الدّيانة المسيحيّة. و في سنة 1930، وُضِعَ قانون “هَايْزْ” ( code Hays ) في الولايات المتّحدة الأمريكيّة بهدف المحافظة على الأخلاق و حماية المشاهدين. فكلّ ما يجعل المشاهد متعاطفا مع الأبطال – المتورّطين في الجريمة، الخطايا أو الفساد – يتمّ منعه و حذفه من الإنتاجات السّينمائيّة. و إلى حدود 1950، لم يتغيّر شيء مع العلم أنّه كانت هناك بعض المحاولات للتّغيير و التّحرّر ففي سنة 1953 أحدث كتاب ” Bonjour tristesse ” للكاتبة الفرنسيّة “فْرُونسْوَاز سَاغَانْ” ضجّة كبيرة وهو كتاب تروي فيه قصّة فتاة تكتشف الجنس مع طفل صغير و قد أثار ذلك جموعة من المحافظين. و هنا بدأ الحديث عن أدب و أعمال بورنوغرافيّة مضرّة للشّباب. و في سنة 1955، كان مشهد “مَارلين مُونرُو” و هي تمرّ من فتحتة تهوئة و قد ظهرت ملابسها الدّاخلية مشهدا مستفزّا في تلك الظّروف. و في نفس الفترة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، إِعْتُبِرَت رقصة “إِلْفِيسْ برِيسْلِي” بورنوغرافيّة و قد تمّ منع الفنّان أكثر من مرّة. و يمكن أن نذكر أيضا الكثير من المجموعات الموسيقيّة في فرنسا و التي إعتمدت على الهدوء في أعمالها إلى أن ظهرت مجموعة “babys boomers” و حطّمت كلّ الحدود الأخلاقيّة. و في الولايات المتّحدة، كانت موسيقى الرّوك وسيلة لتحرّر الشّباب و لعلّ أهمّ فنّاني تلك المرحلة هو “جِيمِي هَنْدرِيكْس” و كانت معظم الأغاني وسيلة للإحتجاج على الأوضاع الإجتماعيّة من جهة و رفضا للحروب من جهة أخرى ( حرب الفييتنام كانت سببا رئيسيّا للإحتجاجات ). بعد ذلك في سنة 1968 في فرنسا، عزم الشّباب على تحطيم “أصنام الماضي” و طالبوا بإستقالة و تخلّي “شَارْل دُو غُول” و هذا ما قام به بعد سنتين.
ماي 68 كان حقبة المطالبة بالتّحرّر و الإنعتاق وهذا ما أدخل الغرب في منطق يسمح بكلّ شيء مع غياب تامّ للقيود وكلّ ذلك في سبيل الإكتشاف و المعرفة. وشهدت هذه الفترة أيضا خصوصا من 1966 إلى 1976 فراغا قانونيّا في فرنسا كما في الولايات المتّحدة إذ لم يعد بإمكان القضاة منع أيّ شيء و الحكم بالإعدام لم يطبّق طوال هذه الفترة ! ( لم يُطبّق من جديد إلاّ سنة 1977 ).
قد يبدو هذا غريبا و لكنّ في هذه الفترة بالذّات ستشهد البورنوغرافيا عصرها الذّهبيّ كما يفسّر ذلك “فِيلِيب دِي فُولكُو”.
تنسّب “جَانِيت مَاسُّو-لاَفْوَا” النّظريّة القائلة بأنّ “التّحرّر الجنسيّ” – و بالتّالي العصر الذّهبي للبورنوغرافيا – كان نتيجة التّغيّر الرّديكاليّ الذي طرأ على المجتمعات : ” منذ سنة 1950، نعيش في فترة تحرّر جنسيّ مستمرّة. و على عكس ما يعتقد البعض، فإنّ ماي 68 لم يكن سببا في المطالبة بالحريّة و لم تأت بعد ذلك الصّحوة الأخلاقيّة المحافظة لأنّ عمليّة التّحرّر كانت بطيئة و لكن مستمرّة و لم تحث ثورة بالمعنى الواسع للكلمة. ” و يذهب “فِيلِيب دِي فُولْكُو” في نفس الإتّجاه و لكن بتحليل أعمق و أشمل : ” لحظات المطالبة بالحريّة دائما ما تكون مرفوضة من الأصوات الرّجعيّة في التّاريخ و هذا ما يجعلنا نؤكّد على “المرحليّة”.
و الآن و بعد أن ذكرنا الأسباب يصبح من الممكن أن نهتمّ بالنّتائج التي جاءت نتيجة لهذه اللّحظات التّاريخيّة. فمنذ نهاية السّتينات، أصبحنا نتحدّث عن الإستمناء و العادة السّرية و البورنوغرافيا في ذلك الوقت كانت وسيلة و سلاحا للدّفاع عن الأقلّيّات كالمثليين. كما تزامن كلّ ذلك مع تصاعد نفوذ بعض الحركات و المنظّمات المدافعة عن الأقليّات خاصة في فرنسا ( كالجبهة الثّوريّة للمثليّين ). و نذكر أيضا أنّ مجموعة من الممارسات الجنسيّة المرفوضة و الممنوعة فكانت البورنوغرافيا سببا في كسر الحواجز ونشر الحرّيّات الجنسيّة. ففي سنة 1972 كان فيلم “Deep Throat” مفاجأة بكلّ المقاييس فقد عرف نجاحا عالميًّا، فالفيلم الذي كانت تكاليفه 25000 دولار حقّق نسب مرابيح وصلت إلى مئات الملايين و ظلّ في قمّة ال”بوكس أفيس” لسنوات متعدّدة رغم الرّقابة الموجودة آنذاك. كان المشاهدون يتدافعون للدّخول إلى الفيلم و الإستمتاع بالأداء الرّائع للممثّلة ليندا التي أصبحت حلم ملايين الرّجال حول العالم.
كان فيلم “Deep throat ” – كما أشرنا سابقًا – بداية تحطيم العديد من الحواجز و الحدود فلم تعد هناك ممارسات جنسيّة ممنوعة و مرفوضة. ففي باريس كانت القاعات التي تعرض أفلام اٌلبُورْنُو تتزايد بشكل ملحوظ و نسب مشاهدة هذا النّوع من الأفلام في إرتفاع مستمرّ. فالشّباب لطالما حلموا بالحريّة و الإنعتاق و حبّ الحياة و مع البورنو ” اللّذة هي الحياة “، ولكنّ كلّ حريّة يقابلها إضطهاد من نوع ما. فمنذ إرتفاع نسبة “إستهلاك” البورنوغرافيا تحرّك المحافظون بتعلّة حماية الأخلاق و التّقاليد و فرضوا الرّقابة على الأفلام لحذف ماهو فاحش حسب إختيارهم و حكمهم. و في سنة 1973، كانت قضيّة “مِيلَرْ” ضدّ ولاية كاليفورنيا أوّل فرصة لتأييد و دعم الرّقابة بتعلّة الفحش و خدش الحياء فقد وافق خمسة قضاة من أصل تسعة – أي أغلبيّتهم – على أنّ : ” الفُحش – بالنّسبة لشخص عاديٍّ و بتطبيق معايير المجتمعات الحديثة – هو وجود دعوة للمجون و بطريقة علنيّة واضحة و صادمة أو وصف لعمليّة جنسيّة. و بصفة عامّة، فإنّ وسائل الإعلام تفتقر إلى الكفاءة الأدبيّة و الفنيّة اللاّزمة ” و للتّذكير فقط فإنّ “مَارْفِينْ مِيلَرْ” كان أدح أكبر و أهمّ منتجي الإشهارات في السّاحل الغربيّ الأمريكيّ و قد وقع إتّهامه بأنّه روّج للمجون – بصفة علنيّة – و ذلك من خلال ترويجه لكتاب ! و في فرنسا و في الفترة التي كانت فيها “برِيجِيتْ لاَهِي” حلم كلّ رجل على وجه الأرض، جاء تصنيف الأفلام “X” ليحدّ من إزدهار البورنو. و منذ سنة 1975 مُنع القُصّر من دخول قاعات السّينما التي تعرض أفلام البورنو. و أصبح هذا النّوع من الأفلام خاضعا لمجموعة من القوانين الجائرة كالتّرفيع في قيمة الضّرائب مثلا ( 33%عوضا عن 18,6% ) و بثّ هذه الأفلام مع إمكانيّة مشاهدتها من قبل قصّر تُعَرِّضُ لعقوبة تصل إلى ثلاثة سنوات سجنا و 75000 أُورُو خطيّة و ذلك حسب الفصل 227 من قانون العقوبات الفرنسيّ. و كلّ شخص بالغ يصطحبُ قاصرا إلى قاعات عرض أفلام البورنو تُسلّط عليه عقوبات أيضا. و على عكس ما تعيبه منظّمات حماية حقوق الطّفل من تراخٍ في هذا الموضوع فإنّه و في الحقيقة إبتعدنا كثيرا عن الحريّة المطلقة بسبب مجموعة من القوانين الجائرة. من هنا عادت البورنوغرافيا إلى التهميش من جديد و لكنّها سرعان ما تأقلمت، فظهور الفيديو ( VHS ) ساعد على تخفيض تكلفة الإنتاج و على الرّغم من تصنيفها على أنّها “أفلامX” لم يمنع ذلك المنتجين من كسب الكثير من المال. و بالنّسبة ل “فِيلِيب دِي فُولْكُو” كانت هذه الفترة ( فترة ظهور الفيديو ) هي بدايه “تصنيع” البورنوغرافيا و هذا ما يرفضه “بِيَارْ وُودْمَانْ” المخرج و المنتج المشهور الذي يعتبر أنّ : ” ظهور الفيديو حطّم كلّ شيء و قد عانت البورنوغرافيا بعد ذلك من الإقصاء و التّهميش إلى الأبد. ” و يُكمل مفسّرا : ” كنت أوّل من سافر إلى بودابست لإختيار فتيات و جلبهم لفرنسا في الوقت الذي لم تكن فيه الممثّلات الفرنسيّات جميلات وهو حال كلّ ممثّلات البورنو في فرنسا من بدية العصر الذّهبيّ إلى حدود التّسعينات. ” ثمّ بعد ذلك و مع إكتشاف مرض السّيدا ( SIDA ) منذ بداية الثّمانينات كانت تلك صدمة عنيفة للذين نسوا أنّ للجنس العديد من المضارّ و يمكن أن يكون قاتلا في كثير من الأحيان. و هذا من المؤكّد ما أدّى – إضافة إلى الرّقابة – إلى التّعجيل بإنتهاء العصر الذّهبيّ للبورنوغرافيا.
على عكس ما يعتقده الكثيرون، الصّحافة “الغير رسمية” لم تبدأ في السّتينات. فمنذ سنة 1920 في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، لاحظنا صعود ما يُسمّى بالصّحافة الحرّة أي المتحرّرة من من كلّ سلطة أو قيود كما يفسّر ذلك “فِيلِيب دِي فولْكُو”. و هذه الصّحافة كانت ردّة فعل على “الصّحافة الرّسميّة” المتّصلة بالمؤسّسات و الدّولة و التي تخضع للرّقابة. و لكي نعتبر شيئا ما مخالفا أو معارضا فإنّه من الضّروريّ أن تكون المواضيع التي يطرحها محظورة و لا يتجرّأ من هم على علاقة بالسّلطة الحديث عنها. و منذ “موت الإلاه” – في أذهان الأغلبيّة – أصبح التّكلّم عن الجنس رمزا للجرأة و التّمرّد. و حتّى الخمسينات كانت المجلاّت البورنوغرافيّة تُنشر بصفة سريّة – مُركّزة على الجنس أساسا – و لم يتغيّر ذلك إلاّ في نهاية الخمسينات ( فترة الثّورة و التّحرّر ) عندها فقط أصبح من الممكن أن تعرض مجلاّت غير مختصّة في البورنوغرافيا صورا بورنوغرافيّة. و في فرنسا، كان يجب أن ننتظر حتّى سنة 1970 و “جُون فْرُونْسوَا بِيزُو” بمجلّته “Actuel” – الموجودة قبل سنوات بصفة سريّة – لتكون ضدّ الثّقافة التي تبنّاها مجموعة كبيرة من الشّباب آنذاك. ففي غلاف العدد السّابع من هذه المجلّة الصّادر سنة 1971 تمّت الإشارة إلى الثّورة و إلى اليسار. لقد تمّ إستغلال فترة ثورة الشّباب و مطالبتهم بالحريّة و تغيير الأشياء و تحطيم الحواجز و الممنوعات من طرف مجلّة Actuel و ذلك من خلال عرضها بصفة دوريّة لأخبار عالم البورنوغرافيا. الصّفحة الأولى للعددين 44/45 ( جويلية أوت 1974 ) من هذه المجلّة يُظهران فرجا في صورة كبيرة مُغطّى بطريقة مغرية. و قد سحبت من ذلك العدد 90000 نسخة و كان بعنوان “Spécial Cochon” !! و ممّا ا شكّ فيه أنّ الصورة إعتبرت فاحشة و خادشة للحياء. و الصّفحة الرّابعة كانت تحتوي على رسوم تصوّر شيخا يأكل مثلّجات في شكل أير و طفلة صغيرة تطلب مشاركته فيه، و نهاية القصّّة يكون الشّيخ بصدد أكل المثلّجات على جسد الطّفلة و هي ميّتة. المؤكّد أنّه و في عصرنا الرّاهن، ستكون مثل هذه الصّور مستفزّة للرّأي العامّ و لكن لكي نفهمها يجب أن نتجنّب الأحكام المسبقة و نضعها في سياقها التّاريخيّ ف ” التّغير الوحيد و الرّئيسي الذي طرأ على “التّابوهات” لا علاقة له بالبورنوغرافيا و لكن بكلّ ما له علاقة بالإعتداء الجنسيّ على الأطفال و زنا المحارم ” كما تفسّر ذلك “جَانِينْ مُوسُّو- لاَفُو” التي تواصل تحليلها ” منذ السّبعينات كان هناك عدد كبير من المثقّفين – أهمّهم على الإطلاق – قاموا بتوقيع عريضة و طالبوا بإطلاق سراح مجموعة من الرّجال الذين إعتدوا جنسيّا على أطفال !
تمّ توقيع عريضة – كما أشرنا في المقال السّابق – من طرف أبرز المفكّرين في القرن العشرين مثل “جَاكْ دِيرِيدَا”، “جُونْ دَانِي”، جُونْ-بُول سَارتِرْ”، “ميشَالْ فُوكُو”… و قد تمّ إضافة إلى هذه العريضة كتابة العديد من المقالات التي نشرت في أشهر الصّحف الفرنسيّة مثل “لُومُونْدْ” و “لِيبِيرَاسْيُون”. ففي جريدة “لِيبيرَاسْيُون” قام 63 مثقّفا و سياسيّا بمساندة “جِيرَارْ.ر” الذي يعيش مع فتاتين ( سنّهما من 6 إلى 12 سنة ! ) و هي بطريقة ما دفاع على الإعتداء الجنسيّ على الأطفال ! و في تلك الفترة، كانت الصّحافة تعتمد على الرّسوم مثل “Echos des savanes” المختصة في هذا المجال و في سنة 1978 في عدد من مجلّة “Actuel” نجد صورة لنهدين كبيرين و هما رمز في أفلام “هُووَارْدْ هُوغْسْ” أو “رُوسْ مَايِرْ” و هما مخرجان يختاران ممثّلات بنهود كبيرة. و حسب مجلّة “Actuel”، فإنّ الممثّلة “جَانْ رُوسِّلْ”هي من ستكون سبّاقة في نشر “موضة” النّهود الضّخمة في حين أنّ “صُوفْيَا لُورِينْ” ستصبح مقياسا للجمال في أوروبا. و بفضل الصّحافة “الغير رسميّة” و العامّة ( فمجلّة “Actuel” تهتمّ بكلّ المواضيع دون إستثناء من ثقافة، سياسة، علوم و جنس ) خرج الجنس تدريجيّا من الهامشيّة و أصبح محلّ إهتمام الأجيال الشّابة. و لكنّ الشّباب سرعان ما تحوّلوا للبحث عن نمط حياة أكثر حدّة و عنف، فقد كان الإقبال على المخدّرات بكثافة غريبة ( من 1970 إلى 1978 ) و قد وقع التّخلِّي عن الحبّ ليتطوّر هذا الأخير و يتحوّل إلى أشكال متعدّدة و عنيفة في ممارسة الجنس. و في فترة حكم “فَالِيرِي جِيسْكَارْ” مُورِسَتْ الرّقابة على البورنوغرافيا – سنة 1975 تحديدا – بسبب إنتشارها الواسع في المجتمع، و مع صعود و إنتخاب “فْرونْسوَا مِيتيرَان” سنة 1981 تجرّد المجتمع و تخلّص من مجموعة من “التّابوهات” خاصّة بعد الإعتراف بالمثليّة الجنسيّة في 4 أوت 1982. و تجدرالإشارة أنه في أواخر السّبعينات كانت البورنوغرافيا قد عادت إلى حالة الهامشيّة التي كانت تعاني منها في الماضي و أصبحنا نتحدّث عن “اٌلبُورْنُو شِيكْ” ( Porn chic ) وهو موضوع إِسْتُعْمِلَ في الإشهارات إبتداء من التّسعينات. و منذ نهاية السّبعينات، نقصت شعبيّة البورنوغرافيا و حتّى المجلاّت التي كانت تُنْشَرُ سِرّا تخلّت عن هذا الموضوع فالبورنو لم يعد مُسْتَفِزًّا كما كان في الماضي. و كما هو الحال دائما فإنّ هذا النّوع من الصّحافة ( free press ) هي أوّل من يهتمّ بالمواضيع المحرّمة و المثيرة للجدل و لكن ما إن تصبح مواضيع عاديّة إلاّ و تكون أوّل المتخلّين عنها.
كما بيّنا سابقا، فإنّ المجلاّت البورنوغرافيّة موجودة منذ زمن بعيد حتّى و إن ذكر “جُونْ-لُورُون بُولِي” في “قاموس البورنوغرافيا” أنّه : ” منالعبث أن نحاول البحث عن سنة ميلاد الصّحافة البورنوغرافيّة فكلّ عصر إعتبر مجموعة من المجلاّت بورنوغرافيّة و هي مع تطوّر الزّمن لم تعد كذلك ” ففي الماضي كان هذا النّوع من الصّحافة سريّا و ممنوعا و من الأجدر أن نتحدّث عن هذا الموضوع مع التّركيز على حقبة زمنيّة، فالنّقاش حول المجلاّت و الجرائد البورنوغرافيّة يحيلنا إلى الحديث حول أمر مهمّ و هونّ الجنس ( le sexe ) كان سريّا و إعتُبِرَ “تَابُو” لقرون طويلة. و لكي نعود إلى أولى المنشورات في هذا الموضوع يجب أن نرجع إلى القرن التّاسع عشر. ففي هذه الفترة في فرنسا، إِخْتُرِعَ وَ إِنْتَشَرَ نوع من الطّباعة و بالتّالي إنتشرت مجلاّت البورنوغرافيا، و قد كانت هذه المجلاّت تمثّل سعادة الجنود فتلك الصّور كانت هي الوسيلة الوحيدة لتلبية حاجيات الجنود في ما يتعلّق برغباتهم الجنسيّة. و حسب “قاموس البورنوغرافيا”، كانت الصّور على صفحات هذه المجلاّت تحتوي على نساء في وضعيات مغرية و منبين هذه المجلاّت نذكر “sans gêne” و ” Paris plaisir” و “belle époque” و هناك المتخصّصة و المُوَجَّهَة للجنود مثل ” la vie de garnison ” و قد حقّقت هذه الصّفحات نجاحا باهرا إلى درجة أنّ النّساء الموجودات على الصّفحات أصبحن مقياس الجمال في كلّ العالم.و قد تمّ التّركيز على الجانب الفنّي في هذه الوضعيّات المغرية و ذلك بفضل “شَارْل دَانَا” أو ” أَلْبيرْتُو فَارْغَاسْ” وهما فنّانان يمكن مقارنتهما بمصوّرين فوتوغرافيين في عصرنا الرّاهن مثل “لاَرِي كْلاَرك” أو “تِيرِي رِيتْشَارْدْسُونْ”. و إستنادا إلى كثير من المراجع منذ الثّلاثينات كانت هناك مئات المجلاّت البورنوغرافيّة التي تُنْشَرُ سِرًّا و لكنّ الصّحافة البورنوغرافيّة لن تعرف أوجها إلاّ بداية سنة 1953 و هو تاريخ إنشاء المجلّة الأسطوريّة “بْلاَيْ بُوي” من طرف “هُوغْ هَافْنِر”. و دَمَقْرَطَةُ هذا النّوع من المجلاّت هو إزدياد في عدد النّسخ و مزيد من الإنتشار، فمنذ صدور أوّل عدد نفذت 51000 نسخة في ظرف عدّة أيّام و لم تتوقّف المجلّة عن تحقيق الإنجازات التي بلغت 9 مليون نسخة كلّ شهر في السّبعينات. و مجلّة “بلاَيْ بُويْ” ليست مجلّة بورنوغرافيّة بالمعنى الدّقيق للكلمة و إنّما هي تهتمّ ب”الإيرُوتِيزْمْ”و من الضّروريّ وضعها في سياقها التّاريخي فهي في الماضي كانت تُعتبرمجلّة بورنوغرافيّة ! ففي البداية ظهرت “مَارْلِينْ مُونْرُو” شبه عارية على الصّفحة الأولى ولكن مع التّطوّر السّريع للتحرّر الجنسيّ سقط اللّباس و ظهرت النّهود و المؤخّرات و أصبحت تعرض صور لنساء عاريات و تحوّلت كلّ “مُودِيلْ” إلى نجمة مشهورة. فمع “لاَرِي فلاَيِنْت” و “هوسْتلر” أخذ الجنس بعدا جديدا. و في سنة 1975 نشر “فلاَينِْت” صورا ل “جَاكْلِينْ كِينيدِي” و هي عارية تماما و بفضل ذلك تمكّن من أن يصبح مليونيرا و صارت مجلّة “هُوسْتلَرْ” مشهورة. و إلى اليوم تحقّق شركته مداخيل بقيمة 150 مليون دولار في السّنة و هذا ما جعله ملكا من ملوك البورنوغرافيا في العالم. و عندما نذكر “فْلاَيِنْت” فمن اضّروريّ أن نشير إلى محاولة الإغتيال التي تعرّض لها سنة 1978 و التي تسبّبت له في شللٍ. و قبل ذلك سنة 1976 كان قد حُكم باسّجن لمدّة سبع سنوات وهو دليل على أنّه و حتّى في بلاد البورنو فإنّ المحافظين يمتلكون سلطة و نفوذا قويين و ذلك في كلّ الطّبقات الإجتماعيّة من المواطن البسيط إلى أصحاب القرار. و يمكن أن نشير أيضا إلى مجلّة “screw” الأسطوريّة لصاحبها “آلْ غُولدِيشْتَايِنْ” و التي عرفت نجاحا باهرا فقد وصلت إلى 550000 نسخة في الأسبوع. و قد إعْتُبِرَ “غُولْدِشْتَايِنْ” أكثر البورنوغرافيّين إستفزازا مع أنّه ليس معورفا لدى العامة مثل “فلاَينِت”، و هو لم يكتف بإظهار الأجساد العارية بل كان يضع في مجلّته – التي تُوزّع كلّ أسبوع من لوس أنجلوس إلى أمستردام – كلّ التّابوهات فعدد 26 سبتمبر 1977 خصصه للمهووسين بالأرجل ( le fétichisme ) و عدد 7 جوان من نفس السّنة خصّصه للنّساء الحوامل في البورنوغرافيا مع صور صادمة للكثيرين آنذاك. و قبل سنوات تجرّأ “غُولْدِشْتَايِنْ” على إختيار مواضيع حسّاسة كزنا المحارم و هو ما يؤدّي به إلى اسّجن و يجعله منبوذا من قبل الرّأي العامّ في عصرنا الرّاهن.
في فرنسا كان “دَانِيسْ فِيلِيباشِي” و “فْرَانْك تِينُو” السّباقين في إنشاءِ صحافة جريئة مُوَجَّهَة للرّأي العام و كان ذلك متجسّدا في مجلّة “Lui” وهيمجلة مثل “بْلاَيْ بُويْ” تهتمّ و تركّز على “الإيرُوتِيزْم”. و في ذلك الوقت في أوروبا، كانت المجلاّت من نوع “screw” تأتي من أكثر من البلدان الإسكندنافيّة أو منألمانيا أو هولندا لأنّ في هذه البلدان القوانين التي تعاقب على “الفُحْشِ” أقلّ صرامة ممّا هي عليه في فرنسا. و بعد ماي 68 و كلّ ما صاحبها من تحرّر، ظهرت العديد من المجلاّت التي عالجت مواضيع كانت تصنّف على أنّها “تابوهات” و نذكر مثلا “swing” و “-union-” … و بعد ذلك سنة 1989 تكوّنت ” hot vidéo” بفضل ” إِيرِيك فَانْسَانْ”، “فرَانْك فَارْدُوم” و “فَابرِيس كَاسْتِيل” و هي مجلّة بورنوغرافيّة. و “بِيَارْ وُودْمَان” هو أوّل صحفيّ و مصوّر في هذه المجلّة يروي بداياته : ” لم أكن سوى مصوّر فوتوغرافيّ في عالم الموضة، ولم أكن أتخيّل نفسي يوما في عالم البورنو. مع هذه المجلّة إكتشفت كواليس هذا العالم و سافرت إلى كلّ بلدان العالم و الأهمّ أنّني قابلت العديد من الأشخاص الذين أصبحوا أصدقائي على خلاف ممثّلي السّينما و مشاهير الموضة و الذين يصعب أن ربط علاقات صداقة معهم. في عالم الموضة يمكن للفتاة أن تبدأ مهنة عارضة أزياء منذ سنّ مبكّرة ( 12 سنة ) و قد شاهدت أشياء مقرفة فالبعض يقدّم لهنّ الكحول و المخدّرات ليعتدي عليهنّ فيما بعد، إنّه أمر لا يُطاقُ! ” ههنا تظهر المفارقة، البورنو يُظْهِرُ ما يَختفي في بواطن النّفس أي ذلك الجانب المظلم و المرفوض.
كالعادة يكون الجنس دائما مصدرا للثّروة لأنّه يهمّ الجميع فعلى مدى عشر سنوات كانت مجلّة “hot vidéo” منتشرة عالميّا ( أكثر من 120000 نسخة ) و في فرنسا يوجد أكثر من 200 مجلّة من هذا النّوع و كأنّ الأفراد لا يهتمّون إلاّ بالجنس. هذه المجلاّت عادة ما تكون مغلّفة بورق بلاستيكيّ شفّاف لماذا ؟ هل يكون ذلك إشارة للقارئ و تحذيرا له من إمكانيّة إصابته بالعدوى من هذه المواضيع التي يطرحها هذا النّوع من المجلاّت ؟
هذا موضوع يبقى قابلا للنّقاش و مفتوحا على جميع الإحتمالات …
كانت جريدة “لِيبِيرَاسْيُون” الفرنسيّة الجريدة المشهورة الوحيدة التي تتعرّض إلى موضوع البورنوغرافيا. و منذ بداية السّبعينات و العصر الذّهبيّ للبورنوغرافيا كان الصّحفيّ “آلاَنْ بَاكَادِي” يحلّل بطريقة دقيقة ما يشاهده في قاعات عرض الأفلام على الصّفحات الثّقافيّة للجريدة. و لكنّ “لِيبِيرَاسْيُون” هي الإستثناء الذي يؤكّد القاعدة فلولا جرأة “بَاكَادِي” لظلّت الجريدة في صفّ البقيّة تطرح مواضيع عاديّة و مُسْتَهْلَكَة. و لكي تهتمّ الصّحافة بالبورنوغرافيا بدون أن تتعرّض للإتّهام – كما فعل ذلك الصّحفيّ “فْرُونْسوَا شَالِي” في رسالته التي وجّهها إلى البورنوغرافيّين – فإنّ ذلك سيتطلّب الكثير من الوقت. فإنطلاقا من اللّحظة التي وقعت فيها شيطنة البورنوغرافيا أصبحت هذه الأخيرة أمرا عاديّا و لم تعد مستفِّزَة وأصبحنا نتحدّث عن “البورنو شيك” و و مضوع طرح في الإشهارات و هو ما ساهم في تغيير وجهة نظر الصّحافة تجاه هذا الموضوع فماهو “راقٍ” لا يمكن أن يكون عنيفا و ما ليس عنيفا يمكن عرضه ليشاهده العامّة. و إنطلاقا من التّسعينات، دخلت البورنوغرافيا إلى الصّحافة الموجَّهَةِ للجميع و من هنا أصبحت تُعتبَرُ كموضوع نقاش يهمّ كلّ أفراد المجتمع. و في عددها الصّادر في 7 أكتوبر 1999 كانت مجلّة “رحلات عبر التّاريخ” قد خصّصت صفحتها الأولى ل “الحبّ و الجنس”و في بقيّة الصّفحات نجد مجموعة من المقالات حول “مَارْكِي دِي سَادْ” أو “العصر الذّهبيّ للزّنا” و كلّ ذلك مصحوب بصور فاحشة و لكنّ ذلك لم يكن عائقا بما أنّ الجنس لم يعد يمثّل مشكلا بما أنّ عرضه في هذه الصّفحات كان منزاوية تاريخيّة تعكس إحتراما للقارئ.
“دليل أفضل عشرة أفلام إيروتيكيّة”، “الأفلام البورنوغرافيّة يمكن أن تغذّي حياتك الجنسيّة” … كلّها عناوين لم تُأخَذ من موقع بورنو ي إنّما من مجلّة “Fa femme aujourd hui” و هي مجلّة كنديّة مموّلة من كبر مجموعة إعلاميّة في البلاد “TVA publication”. و ممّا لا شكّ فيه أنّ الصّحافة النّسويّة لم تعد سطحيّة و عاطفيّة كما كانت في السّابق ( و هي التّهم التي توجّه لها دائما ) بل حوّلت إهتماماتها منذ سنوات إلى الجنس. في نسخة صادرة في أكتوبر 2001 و عنوانها “المؤخّرة عارية !” خصّصت المجلّة الفرنسيّة السّاخرة “le canard enchaîné” للجنس أكثر من 80 صفحة من المقالات مع صور و النّتيجة كانت باهرة بما نّ صحافيّي المجلّة لم لم يسقطوا في الفحش و ذلك بفضل براعتهم في التّلاعب بالكلمات. و المقال المأخوذ مننفس العدد بعنوان chaudes devant”، يؤكّد صحّة ما أشرنا إليه عن هذا النّوع من المجلاّت كما يفسّر ذلك “سِيمُون لِيبِيرَاتِي” الفيلسوف و رئيس التّحرير السّابق في “كُوسْمُو” : ” إضافة موضوع الجنس جعل المبيعات ترتفع بنسبة 30% ” و مع أنّ الجنس ليس موضوعا جديدا إلاّ أنّ مجرّد طرحه يجلب أموالا طائلة. و مجلّة “Marie Claire” المشهورة بدفاعها عن حقوق المرأة سابقا تهتمّ اليوم ب “الجنس للمتعة” و قد تراجعت نسبة المبيعات لأنّها لم تعد تمثّل نسبة كبيرة من القرّاء السّابقين. و يكفي أن نطّلع على بريد القرّاء لنفهم أنّنا لم نبتعد عن المواضيع التي كانت تُطرح في عصر “Skyrock” أين تكون مهمّة المنشّطين إسداء النّصائح للشّباب الذين بصدد إكتشاف الجنسو هو ما تقوم به “برِيجِيتْ لاَهِي” على موجات إذاعة مُونتِي كَارْلُو مع العلم أنّها تتوجّه إلى جمهور أعرض. و للأسف فإنّ الجنس و البورنوغرافيا هي مواضيع لا يتعامل معها معظم الصّحفيّين بجديّة و هذا ما يسبّب صعوبة في التّعامل مع الموضوع. ” كيف نكتب مقالا عن الجنس يكون راقيا و جالبا للإنتباه في نفس الوقت ؟ ”
اليوم و مع أناقة متصنّعة و سطحيّة تتعامل كلّ المجالات مع موضوع الجنس بطريقة و بأخرى. ففي عدد من أعداد “Télérama” كُتِبَ على الصّفحة الأولى “sexe” كما لو أنّ الأمر يعدّ إكتشافا أو فكرة جديدة. و المعروف أيضا أنّ الصّحفيّين في أغلب الأحيان لا يطرحون الموضوع مباشرة بل يرتكزون على العلم كوسيلة لتحليل الجنس. ” إذا كان العالم قد أكّد شيئا فإنّه بالضّرورة أمر صحيح” هذا ا ينتهي له مجموعة من الصّحفيّين الذين لا يتمتّعون بالثّقافة و التكوين اللاّزمين للتّعويل على آرائهم و تحاليلهم الخاصّة. و قد إتّبعت “l express” هذا المنهج في العدد 2726 الصّادر في أكتوبر 2003 فقد إختارت أن تطرح موضوع الجنس حسب رأي “مَارْسِيل رُوفُو” وهو طبيب و أخصّائي نفسانيّ مشهور. من جهة أخرى، كانت صفحة مجلّة “VSD” قد مُنعت منذ عدّة سنوات بسبب إمكانية خدشها للحياء و قد إعتبرت صادمة للرّأي العام و الأطفال. ففي الصّورة المعنيّة بالأمر، رجلان عاريان مع عنوان ” أن تكون مثليّا في فرنسا ” و قد فسّر رئيس التّحرير آنذاك ” كْرِيسْتُوف مَاغِيرُو” : ” إقترحوا علينا أن نغطّي مؤخّتي الرّجلين على الصّورة و هذا ما رفضناه “. و قبل عشر سنوات في نوفمبر 1995 عرضت صورة لفتاة عارية الصّدر و في نفس هذا العدد كُتِبَ ” لا روح و لا جمال في البورنو” و مع ذلك فإنّ الصّحفيّين لم يجدوا أيّ إشكال في كتابة مقال – في نفس العدد – بعنوان ” النّهود الإصطناعيّة تُجَرَّبُ من قبل الأطفال” !
كلّ سنة تقوم مجلّة “les inrockuptibles” بتخصيص الصّفحة الأولى للبورنوغرافيا أو الجنس. في عدد 504، 505 و 506 الصّادر صيف 2005 قامت المجلّة بشطب كلمة “sexe” المكتوبة بخطّ عريض مع صورة مصاحبة يظهر فيها شابّ مع فتاتين بأجسام مصقولة مستعدّين لممارسة الجنس. إذا فالجنس مع فتاتين مسموح به و المثلية الجنسية تخضع للرّقابة و تُحذف !
إنّ الثّقافة أيضا هي تعلّة للخوض في موضوع الجنس. في “عالم الكتب” الذي ظهر في نوفمبر 2005 وقع الإقتباس من قاموس البورنوغرافيا لمساندة قضيّة “بَاتْرِيكْ كَاشِيشْيَانْ” من خلال “تفكير حول البورنوغرافيا”.
” البورنوغرافيا تمثّل وجهة نظر و ليست مجرّد شيء بسيط ” على حدّ تعبير ” ستِيفِينْ مَارْكُوسْ” و تأكيد هذا الأمر بدأ يظهر في الصّحافة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى