أحوال عربيةأخبار العالم

صراع جناحي الإسلام السياسي، والمد الثوري في العراق

مؤيد احمد
بالرغم من ان تيارات الإسلام السياسي، كتيارات عقائدية وسياسية إسلامية، تتغذى على الأرضية المادية للمجتمع الرأسمالي ومجمل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لهذا المجتمع والتي تعيق تحرر الانسان من قيود “الضرورة” التاريخية وتعيق تحقيق ذاته الإنسانية الحرة، فان سلطة الدولة البرجوازية المعاصرة، هي مصدر قوة وانتعاش كبيرين لهذه التيارات. ان تولي زمام السلطة من قبل هذه التيارات يخلق، بطبيعة الحال، تحولا نوعيا في توطيد موقعها وازدياد إمكانياتها واقتدارها في المجتمعات ويعزز تحكمها بحياة ومصير الجماهير.
فلولا ميلشياتها وارهابها وسلطة الدولة وامكانياتها المادية، لبقت تيارات الإسلام السياسي على هامش الحياة السياسية للمجتمعات، وذلك كون الدعوة الإسلامية ونشر الأفكار والشعارات الدينية والثقافة الموروثة عن العهود القديمة وحدها، لا تكفي كي تتحكم هذه التيارات بمصير الانسان بالشكل الذي تتحكم فيه الان في البلدان التي تعيش تحت سلطتها السياسية القمعية.
توصلت الجماهير في العراق، بعد معاناة كبيرة ولسنوات طويلة من حكم هذه التيارات وشركائها القوميين، الى قناعة بان طريق التقدم الى الامام هو الانتفاض على هذه الطغمة الفاسدة والنظام السياسي بأكمله، وهو ما أقدمت عليه الجماهير الثورية في انتفاضة أكتوبر 2019 الرافعة لراية اسقاط النظام السياسي الحالي والخلاص من احزابه وقواه وتياراته. ان ما يجري حاليا من صراع بين جناحي الإسلام السياسي الشيعي الحاكم، ذو صلة مباشرة بنتائج هذه الانتفاضة وتبعاتها لحد الان، ولكن قبل الحديث عن هذه الصلة وابعادها لنرى ما هو الجوهري والاستراتيجي في هذا الصراع.

الامر الجوهري في صراع جناحي الإسلام السياسي الشيعي
لم يصل الشقاق داخل تيارات الإسلام السياسي الشيعي الحاكمة في العراق الى هذه الدرجة من الشدة والحدة وهذه الحالة من الانسداد السياسي قط، بالرغم من كون النظام وجد نفسه ومنذ تأسيسه في أزمة. تعبر تيارات الإسلام السياسي الشيعي الموالية لإيران المجتمعة داخل الاطار التنسيقي بشكل صريح وواضح بانها القطب “الحامي” للنظام، في صراعها الحالي بوجه التيار الصدري أي انها الطرف الذي يدافع بقوة، ومن ضمنه استغلال أخطاء الصدر التكتيكية، عن حماية النظام و”هيبة الدولة” و”مؤسساتها الدستورية” و”القضائية”، والذي بات يأخذ عصا الحفاظ على النظام الحالي وبرلمانه بأيديه بوجه خصمه، وضد المجتمع والجماهير الثورية بالأساس.
ان شريان حياة هذا الجناح من تيارات الإسلام السياسي واركان بقائه في المشهد السياسي في العراق، مرتبط بشكل رئيسي بتحكمه بمفاصل السلطة الرئيسية واستمرار احتكاره ونهبه لثروات البلاد عن طريق ذلك، وبالتالي مرتبط ببقائه كإحدى القوى الحاكمة، في اطار النظام القائم، مع ما يعني ذلك من تامين ادامة ميليشياته واقتداره المالي ومساعيه لتجسيد تبعية النظام القائم لمصالح النظام الإيراني. ان هذا الجناح هو الذي ينتج، وبشكل رئيسي، يعيد انتاج حيتان الفساد ولوردات المسّيرات والميلشيات والحرب بالوكالة، وهو الذي يحمل نوط “فخر”! ضمان التبعية للجمهورية الإسلامية في ايران، وهو الكابوس الذي تريد الجماهير الخلاص منه اليوم قبل الغد. ان ادامة نفس النظام الحالي مرهون بشكل رئيسي باستمرار حكم هذا الجناح باعتباره احدى أركانه الأساسية.
اما التيار الصدري، فانه يسعى بقصارى الجهد للحفاظ على قاعدته الجماهيرية التي باتت تتقلص مع تزايد ابعاد الازمة الاجتماعية العميقة والواسعة التي تمر بها البلاد، واثر الضربة التي تلقته من انتفاضة أكتوبر وتنامي عناصر الوضع الثوري الحالي في البلاد.
ان مساعيه لتشكيل “حكومة الأغلبية الوطنية” التي كانت مليئة بالتناقضات، باءت بالفشل، ومنذ انسحابه من البرلمان، اصبح في وضع حرج لابد منه ان يشن صراعا محتدما مع الاطار لمنعه من تشكيل الحكومة، وذلك عن طريق تعبئة قواه الاجتماعية للقيام بالاعتصامات والتظاهرات، وتكرار إقامة “الصلاة الموحدة” أسبوعيا وغيرها من الممارسات. هذه الاعمال تشكل وسائل ضغط لاجتياز هذه المرحلة الانتقالية بالنسبة للتيار في البقاء في المشهد السياسي وضمن دائرة قوى النظام المؤثرة بحيث يكون له دور أساسي في تشكيل أية حكومة مقبلة، وتحافظ في الوقت نفسه على لحمة قاعدته الاجتماعية وسد الطريق امام المزيد من تشتتها.
غير ان التيار الصدري، يَعرف جيدا بان مجرد الحفاظ على قاعدته الاجتماعية والمساعي لمنع الإطار من تشكيل الحكومة، لا تشكل عناصر بناء استراتيجية واضحة ومتماسكة فيما يخص سلطة الدولة والنظام، كما وان ادعاءاته بتحقيق الإصلاح ومقارعة الفاسدين لكسب الجماهير الى جانبه، تبقى ضمن دائرة التحريض السياسي ولا تساعده كثيرا في ميدان بناء هذه الإستراتيجية وتنفيذها. هذا، فضلا عن انه ليس متأكدا جني ثمار هذا النوع من التحريض السياسي، وعليه فإنه يستثمر كل ما يمتلكه من وسائل ضغط في خدمة تحقيق استراتيجيته لنيل الحصة الرئيسية في سلطة الدولة والنظام القائم.
تلك هي الحلقة المحورية التي تدور حولها جميع مساعي التيار الصدري في هذه المرحلة واهازيجه بصدد “الثورة الإصلاحية” و”انهاء التبعية” و”الفساد” وجميع شعاراته الدينية والطائفية التي يزجها في خطابه السياسي متى رأى هناك شيئا مبهما وغامضا من الأمور المادية الحياتية والسياسية الطبقية لا يجد له تبرير سياسي واجتماعي، وغيرها. ان تحقيق التيار الصدري لهدفه الاستراتيجي (نيل الحصة الرئيسية في سلطة الدولة) هو الضمانة الوحيدة للإبقاء على قاعدته الاجتماعية على المدى المتوسط ان لم يكن على المدى البعيد كذلك. وبهذا المعنى فان التيار الصدري والاطار سيان من حيث تمسك كل واحد منهما بالحفاظ على النظام، وإنما يحدد الجوهري في صراعهما هو تحقيق هدفهما الاستراتيجي في احتكار مفاصل السلطة بقبضتهم. لذا، فان الأساسي في استراتيجية التيار الصدري هو كذلك الإبقاء على النظام واخذ زمام أمور هذا النظام بشكل رئيسي بأيديه، وطريقه لذلك هو فرض التراجع على خصمه عبر وسائل ضغط متوفرة لديه.
ان المفاهيم السياسية والتحريضية لتحقيق هذا الهدف، بالنسبة للتيار الصدري، عديدة منها “ابعاد الفاسدين” و”التبعيين” وتحقيق “الثورة الاصلاحية” و”المجرب لا يجرب” و “لا شرقية ولا غربية”، وغيرها. مع تحقيق هدفه الاستراتيجي عن طريق اجراء انتخابات مبكرة مقبلة او حدوث تحولات في مسار الصراع الحالي، فان التيار الصدري يكون قد انجز هدفه وبالتالي سيبقى كل ما يتعلق بالجماهير وتحسين وضعها المعيشي المزري، وما يتعلق بـ”الثورة الإصلاحية” وطرد “الفاسدين” و”التبعيين”، تابعا لا محال لهذا الهدف المحوري والاستراتيجي، فسوف لن ترى كل هذه الوعود النور الا ما هو متعلق بالشعارات الدينية التي ستكون سلاحا حادا لقمع الثورة والقوى الثورية وفرض المزيد من الاستعباد والقمع على المرأة في العراق.
ان الأمور الحياتية والسياسية والاجتماعية والطبقية التي يتخطاها الان التيار الصدري، وهو في وضعه الحالي الانتقالي، باللجوء الى استخدام شعارات دينية وطائفية واستثمار تاريخه الديني العائلي المرتبط ببؤس الجماهير البروليتارية، فان نفس هذه الأمور الحياتية المادية ستتحول، في حال تحقيق التيار الصدري هدفه الاستراتيجي في الاستيلاء على مفاصل السلطة الرئيسية، الى غموض وابهام وحالة من الترقب وتحل محلها الشعارات الدينية والطائفية بوصفها سلاحا ماديا ووسيلة عملية لقمع واسكات الجماهير الثورية والمرأة ولوضع الناس في حالة الترقب والوهم الديني والطائفي.
مع اخذ كل ما سلف ذكره بنظر الاعتبار، فان وجود خطتين، أي بمعنى تكتيكين واسلوبين، متمايزتين، واحدة خاصة بالتيار والاخرى خاصة بالاطار، في الصراع الدائر بينهما حول تقاسم السلطة والثروات، تحتاج الى التوضيح، اذ لا يمكن إيجاد سبب وجود الخطتين ضمن اطار الصراع من اجل هذا التقاسم، كونه تحصيل حاصل. لو كان الامر بهذا التجريد، لامكن الطرفان ان يتصارعا بأشكال مختلفة، او ربما يتفقان ويتنازلان بشكل او بآخر.
السؤال هو: لماذا يخوض كل طرف صراعه بالشكل الذي يخوضه الان وليس بشكل آخر؟ بقليل من التمعن، نجد ان الاختلاف في الاسلوبين والحدة والشدة التي اتخذها هذا الصراع، يكمن في قلب المجتمع والصراع السياسي الطبقي الدائر فيه، واذا تحدثنا بشكل اكثر تحديدا، نجد انه كامن في المد الثوري الحالي داخل المجتمع والذي هو استمرار لانتفاضة أكتوبر وأهدافها وتطلعاتها وآفاقها الثورية.
ان خطة (تكتيك) الاطار ترتكز بالأساس على قمع الانتفاضة عن طريق المزيد من ترسيخ الأجهزة القمعية للنظام واستخدامها ضد الجماهير والمزيد من الاخضاع لمصالح النظام الإيراني الجيو سياسي في خضم الصراع الدائر بينها وبين أمريكا والاستنجاد بالنظام الإيراني لقمع الثورة في العراق. غير ان تكتيك التيار الصدري يرتكز بالأساس على احتواء الثورة وقمعها بشكل متزامن والحفاظ على قاعدته الاجتماعية بالارتباط مع هذا الاحتواء، وان امكن تحقيق اصلاح صوري في النظام كي يساعده على تغير ميزان قوته في المعادلة ويرضي به قاعدته الاجتماعية.

المحتوى الطبقي والبعد الإقليمي
لقوى الثورة والثورة المضادة في البلاد
ان جميع الممارسات السياسية لقوى النظام الحالي وما يجري من صراعات بين اجنحة النظام، وما تمارسها من تكتيكات، تشكل بمجملها اعمال وممارسات وصراعات قوى الثورة المضادة. وهي تعكس سمات مرحلة من تطور الصراع السياسي الطبقي في العراق متميزة بالصراع بين القوى التي انتفضت وثارت على النظام وبين قوى واجنحة النظام التي قمعت بالحديد والنار هذه المساعي الثورية التي تبلورت في انتفاضة أكتوبر2019.
كما وان هذا الصراع بين قوى الثورة والثورة المضادة ليس صراعا منفصلا عن قاعدته المادية الطبقية والاقتصادية، اذ يشكل ظاهرة مرتبطة بهذه القاعدة والصراع الطبقي الملازم لها والازمة الاجتماعية الواسعة الحالية في البلاد.
ان القوى الطبقية للثورة والتغيير الجذري تتكون من الملايين من الشبيبة العاملة، معظمهم معطلين عن العمل او لهم عمل هش ومرهق لا يمكن ان يبنوا عليه مستقبلهم ولا حتى اجورهم ودخلهم يكفي لتغطية معيشتهم اليومية، وكذلك من عشرات الملايين من النساء واللواتي يعانين من الاضطهاد والقمع والحرمان الاقتصادي، وتتكون كذلك من العمال والكادحين والفئات الدنيا من الموظفين والمنتسبين، في الدوائر والمؤسسات العامة والخاصة، والذين يعانون من الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي ومعظمهم يعملون باجور ضئيلة وذوي عمل غير مستقر، ويواجهون القمع والاضطهاد ومحرومون من حرية تأسيس نقاباتهم وجمعيات نضالهم الجماعي. ان هذه الجماهير الواسعة، وفوق كل تلك المصاعب والمشقات الجمة، تعاني بشدة من تدهور الخدمات العامة وبالأخص الخدمات الصحية والتعليمية العامة والماء والكهرباء.
وفي المقابل، فان القوى الطبقية للثورة المضادة هي الفئات المتنوعة من البرجوازية الإسلامية والقومية الحاكمة والمتنفذين في السلطة وحواشيها وقيادات الأحزاب الحاكمة واصحاب الميلشيات والرأسماليين الكبار المرتبطين بهذه الفئات، وكذلك الانتهازيون من أوساط البرجوازية المتوسطة والصغيرة التي لها مصلحة مادية في الالتفاف حول هذه القوى الحاكمة واحزابها وتطبل لصراعات هذا او ذاك من اجنحة النظام.
هذا وان توازن القوى السياسية على صعيد البلاد بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة لا ينفصل عن بعده وامتداده الدولي والاقليمي. ان الدول الامبريالية والأقطاب الإقليمية، كقوى الثورة المضادة والعدوة الرئيسية لكل تغير ثوري جذري في العراق، هم دعامات النظام الحالي ويسعون لترجيح كفة ميزان القوى لصالح قوى الثورة المضادة المحلية في كل المعارك الحاسمة لا بل حتى المعارك الصغيرة بين قوى الثورة والثورة المضادة، وهم القوة القامعة الأساسية ضد اية ثورة تحررية واشتراكية مقبلة في العراق والمنطقة. ان ادعاءات الصدريين لحكومة “لا شرقية ولا غربية” ستنثر هباء عندما يشتد الصراع بين قوى الثورة والثورة المضادة، اذ ان البرجوازية المحلية والاقليمية والدولية مستعدة التضحية باشد خلافاتها لغرض سحق الثورة.

استراتيجية و تكتيك قوى الثورة
غير ان قوى الثورة، في الوقت الذي تواجه معركة غير متكافئة مع قوى الثورة المضادة المحلية والاقليمية والعالمية، لا يجب ان تحصر نفسها في اطار ضيق محلي كونها تتوفر لديها وسائل تغيير هذه المعادلة وذلك بتخطي الاطار القومي والطائفي والدخول في رحاب النضال العابر للقيود الطائفية والوطنية والقومية، أي رحاب وحدة النضال الأممي لجميع العمال والكادحين والمفقرين والنساء العاملات والمضطهدات في نضال طبقي واحد على صعيد البلاد والمنطقة وكسب دعم البروليتاريا والتحررين على صعيد العالم.
ان استراتيجية القوى الاشتراكية والثورية في العراق وتكتكيها السياسي الاساسي لابد وان تكون متمحورة حول تنظيم القوى الطبقية البروليتارية، والفئات الملتفة حولها، والارتقاء باستعداداتها السياسية والتنظيمية والفكرية لقيادة الثورة. ان استغلال ازمة النظام الحالي والصراعات الجارية بين جناحي النظام لغرض تنظيم صف النضال الطبقي للعمال وصف الحراك الاحتجاجي الثوري والحركة النسوية التحررية والشبيبة العاملة وفق رؤية سياسية اشتراكية واممية واضحة، يشكل مهمة آنية وعملية ملحة بالنسبة للحركة الاشتراكية والثوريين من أوساط هذه الطبقة والفئات.
ان الاستجابة لمتطلبات تطوير المد الثوري الحالي تضع مهام جسام امام الاشتراكيين والناشطين وقادة العمال والمنتفضين الثوريين والشبيبة والحركة النسوية التحررية. فمن أولى هذه المهام هي التسلح برؤية سياسية ثورية واشتراكية، والعمل المستمر للارتقاء بنضال جماهير العمال والكادحين والشبيبة والنساء والمفقرين وتنظيمه وتوحيده حول خطة عمل وتكتيك سياسي ثوري واضح المعالم، الا وهو انهاء النظام الحالي وإرساء حكومة منبثقة عن المجالس الجماهيرية لهذه الطبقة والفئات الملتفة حولها للإقدام على تحقيق برنامجها التحرري والاشتراكي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى