تعاليقرأي

شرعية المحكومين المهدرة

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

كانت بطونًا وقبائل دائمة التناحر والصراع فيما بينها حتى اجتمعت راياتها بشكل أو بآخر تحت كلمة الإسلام، دين جديد قد يكفيه فخرًا أمد الدهر أنه وحد العرب جميعًا لأول مرة في التاريخ وصرف طاقاتهم بعيدًا عن قتل بعضهم البعض نحو الغرباء بالجوار وتأسيس إمبراطورية عظمى. من كثرة التنافس والاقتتال فيما بينها، كان لدى كل قبيلة فرسان أشداء وزعماء ذاع صيتهم داخل جزيرة العرب وخارجها، وتغنى بأمجادهم وبطولاتهم فطاحل شعراء العربية. ومن هؤلاء أنفسهم تشكل قوام جيش الفتوحات الإسلامية فيما بعد، بعد اتحادهم خلف راية الإسلام.

بخلاف النزاعات والحروب المتبادلة، لم يكن نظام القبيلة الاجتماعي كله مساوئ. ويكفيه فخرًا أنه أنتج، ولو عبر آلية أزلية من السلب والنهب وسفك الدماء، كل هذه الطاقات المشرذمة التي تحولت إلى قوة جبارة لحظة اجتماعها على هدف واحد ومحدد. في قول آخر، لولا فرسان القبائل وزعمائها البواسل ما تكون جيش الفتوحات، ولولا الإسلام واجتماع القبائل عليه لظلت قواها مشرذمة ومهدورة فيما بينها في السلب والنهب وسفك الدماء.

في المراحل الأولى، كانت الزعامات لا تزال قوية ونافذة تقف حائلًا أمام تركيز القوة العربية الجمعية بصورة احترافية ومؤسسية. ورغم محاولات أبو بكر وعمر، ظلت لامركزية القوة هي ذات اليد الطولي، والمركزية بعيدة المنال. وكادت القوة الموحدة حديثًا تتفجر أشلاءً متناثرة أشبه بحالتها الأولى زمن القبائل حين انقسمت راية العرب ما بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. لكن سرعان ما أنقذ معاوية الوضع وأعاد توحيد العرب تحت راية الخلافة الأموية.

كانت الخلافة الأموية بمثابة خط النهاية لعصر القبائل وفرسانها وزعمائها، وبداية لآخر بملك وجيش. انتهت إلى غير رجعة لامركزية القوة بين العرب وأصبح الحكم حكر لملك وراثي وجيش محترف يحميه ويحمي ملكه. وبمرور الزمن، أصحبت العلاقة بين الحاكم وجيشه بمثابة علاقة الملك والكتابة على قطعة العملة المعدنية، لا وجود ولا شرعية لأحدهما من دون الالتصاق بالآخر؛ إما أن يصنع الجيش ملكًا، أو يجمع الملك جيشًا لكي يضمن كل مهما استمرار وجوده وشرعيته. في قول آخر، أيام اتحاد القبائل مع بدايات الإسلام كانت الشرعية تحقق عبر اتفاق أو اجماع الأقوياء- رؤساء القبائل. بينما في الملكية تضيق دائرة الاتفاق والإجماع إلى حدود الملك الشرعي وجيشه فقط. في النهاية، لن يحصل الملك الشرعي على الحكم من دون دعم من الجيش، ولن يحصل الجيش على امتيازات من دون الشرعية التي يسبغها عليه الملك.

رغم كل ما حققته الجيوش الإسلامية من فتوحات عظيمة انطلاقًا من العصر الأموي والعباسي فيما بعد، بقيت هناك نقطة ضعف قاتلة داخل هذه الآلية التنظيمية المكونة بالأساس من ملك (خليفة) وجيش. بمرور الوقت، أدى استئصال اللامركزية العربية الموروثة من زمن القبائل إلى استئصال العنصر العربي كله من المعادلة في نهاية المطاف. وكان الجيش ذاته هو من أطاح بآخر الملوك العرب وتدشين عصور المماليك والعثمانيين وغيرهم. في قول آخر، بفضل القبائل، حين اتحدت قواهم، أصبح العرب قوة عظمى مهابة في زمانهم؛ وبسبب الملك والجيش تحولوا إلى مجرد رعايا لاحول لهم ولا قوة لصعاليك ومماليك الأرض من كل حدب وصوب. أين مكمن الخطأ؟

ربما في شدة اللامركزية حين كانوا قبائل، وفي شدة المركزية في زمن الملكية. لكن في جميع الأحوال بسبب عدم وجود الوسيط القادر والفاعل بين الملك والجيش منذ أن قضى العرب على منظومة القبائل ولم يستبدلوها بأخرى. ولا يؤمل أن يقوم للعرب قائمة مجددًا من دون إيجاد بديل القبيلة الذي يتوسط ويقوم العلاقة بين الملك وجيشه، بحيث لا يستمد الملك قوته من الجيش، ولا الجيش شرعيته من الملك- بل كليهما من العرب (المحكومين) أنفسهم ووحدهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى