رأي

دين عظيم ..

دين عظيم ..

حمدى عبد العزيز

أنا مدين للمبدع الكبير والشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى بدين كبير لاعلاقة له بالشعر أو بالأدب ، ولكن له علاقة كبيرة بإدراكى لتاريخ الشعب المصرى وتطور أدواتى المعرفية فى قراءة هذا التاريخ ومحاولة استخلاص دروسه المستفادة ..
كنت شاباً وكانت تربطنى بالأستاذ الأبنودى علاقة التلميذ بالأستاذ
ولملابسات ما – ليست هى موضوعنا الآن – كنت أحادثه تليفونياً فكان أن دعانى الشاعر الكبير في اوائل تسعينيات القرن الماضي للحضور إلي منزله بالمهندسين لأنه يريد أن يتحدث إلي في بعض الموضوعات ..
وبالفعل أكرمنى الرجل وطلب منى أن آخذ راحتى وأن اعتبر نفسى صاحب بيت ، ولمزيد من إضفاء الحميمية والبساطة في اللقاء اذكر أنه دعى إبنته آيه (وكانت طفلة وقتها) لتحيتي قائلاً :

  • سلمي ياآيه على عمك حمدي ..
    كان اليوم يوم جمعه واستغرقت الجلسة وقتاً طويلاً تحدث الأستاذ فى السياسة والشعر والحياة وسألنى واستمع إلي في نفس الموضوعات ولكنه فاجئني بسؤال ساهم كثيراً فيما بعد في احداث نقلة كيفية كبرى في طريقة تكوين آدواتى المعرفية وفتح لي آفاق معرفية واسعة أظن الآن أنني كنت قد تأخرت كثيراً في إدراكها وإدراك أهميتها ..
    توقف الاستاذ عن الحديث قليلاً ثم أردف قائلاً ..
  • قريت ابن إياس؟
    كنت قد استمعت إلي هذا الاسم مرات عديدة اذكر منها مرة كنت البهو القديم لحزب التجمع وكان المرحوم عم عطيه الصيرفي جالساً بالقرب مني على الفوتيه الأخضر الشهير الذي يعرفه كل ابناء جيلي الذين كانوا يترددون علي مبني حزب التجمع في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي .. سمعت عم عطيه الصيرفي يقول للجالس جواره أنه يبحث عن ابن إياس ويرجوه أن يدله علي مكتبة تحتوي نسخه ..
    الحقيقة لم أقف كثيراً وقتها عند هذا الاسم ، وبصراحة أكثر كانت هذه الأسماء إما مجهولة لدي وإما كانت غير مدرجة علي جدول أولويات قراءاتي ، وقد اتضح فيمابعد أن هذا كان جهلاً عظيماً وغبياً أيضاً مني ..
    المهم
    أجبت الاستاذ الابنودي معتذراً عن عدم قراءة ابن إياس ..
    فرد الأستاذ فوراً
  • إذاي ..
    هوه فيه حد ممكن يفهم تاريخ الشعب المصري من غير مايقري ابن إياس؟
    لازم تدور عليه وتلاقيه بسرعه هوه موجود في مجلدات وسحب أحد المجلدات من مكتبته
    هوه ده
    طبعاً أنا ماباسلفهوش لحد
    لازم تدور عليه وتتعب لغاية ماتلاقيه وتقراه ..
    رسمت صورة عنوان الكتاب في رأسي
    (بدائع الزهور في وقائع الدهور )
    لمحمد بن إياس الحنفي
    وبعد أن غادرت إلي مدينتي لم يهدأ لي بال حتي عثرت علي الكتاب في مكتبة أحد المدارس الثانوية لدي صديق مثقف كان يعمل أميناً للمكتبة واتفقت معه أن استعير كل مجلد من المجلدات في مدة أقصاها اسبوع بشرط اشترطه هو ووافقته عليه وهو أن اكتب ملخصاً له ليقرأه هو ويعيد تسليمه إلي كلما سلمته المجلد المستعار ، وبالفعل قد كان أن ظللت لشهور أقرأ وألخص أجزاء بدائع الزهور في وقائع الدهور ..
    كانت هذه القدرة المدهشة التي امتلكها ابن اياس علي تسجيل الحياة اليومية للمصريين وخصوصاً تلك الفترة التي تناولت الأحداث التي واكبت حكم دولة الخلافة الفاطمية والعباسية ثم حقبة هيمنة الاتراك المماليك علي مصر إلي آخره
    ادركت ان تاريخ الشعب المصري في هذه الحقب لم يكن تاريخ خنوع واستسلام لحكم الأجانب المستبدين
    علي العكس فهناك الكثير من الهبات الشعبية والانتفاضات والثورات أوردها ابن إياس في وقائعه التي دونها كيوميات شاهد علي هذه العصور ، وهو مااقترب من انتهاجه الجبرتي فيما بعد …
    وظلت ملخصات بدائع الزهور في وقائع الدهور في مكتبتي حتي اليوم والحمدلله أنني لم اتعرض للمداهمات الأمنية التي كانت تتطال كل اليساريين في السبعينيات والثمانينيات ، وإلا لما عاشت هذه الملخصات في احد ارفف مكتبتي حتي الآن رغم أنني كنت كتبتها بالقلم الحبر وتعرضت بعد أجزائها للبهتان ..
    ولولا إصرار الأستاذ الأبنودي الذي وصل إلي نوع من التوبيخ الرقيق لتأخر هذ الاكتشاف المعرفي الكبير إلي وقت لم يعد لدي فيه الطاقة والمتسع لقراءة مثل هذا السفر العظيم الذي أثر في رؤيتي وجعلني أهتم أكثر بدراسة التاريخ الذي يحفل دائماً بمسالك البشر ومساعيهم نحو صنع الحياة الأفضل وبنجاحاتهم واخفاقاتهم وتضحياتهم ومايقدمونه لنا من دروس هائلة تضئ لنا مسالكنا ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى