تعاليقرأي

دستور نوح فيلدمان يلفظ أنفاسه، وتونس جزء من الأمة بجناحيها العربي والإسلامي

في كتابه سقوط وصعود الدولة الإسلامية الصادر سنة 2008 يقول البروفيسور الأمريكي نوح فيلدمان أن على الإدارة الأمريكية دعم الجماعات
الإسلامية في البلاد العربية والتحالف معها وأنه عليها الإستفادة من خطئها الذي إرتكبته في قراءتها للمشهد الباكستاني إثر دعمها لبرويز مشرف
ورهانها لا على حصان خاسر حسب قوله وإنما على حصان ميت أصلا، ونوح فيلدمان صاحب هذا الكتاب الصادر قبل إندلاع شرارة الربيع
العربي كان قد زار المجلس التأسيسي التونسي في مناسبتين الأولى بدعوة من نائب عن حزب المؤتمر الذي أسسه المنصف المرزوقي والثانية
بدعوة من نائب عن حركة النهضة التي يرأسها راشد الغنوشي منذ عقود، ويعتبر فيلدمان صاحب الأصول اليهودية مشاركا فاعلا في صياغة
دستور العراق المحتل وأفغاستان المحتلة، كما ينسب له تصريح إثر سقوط مبارك يقول فيه إن دستور مصر سيكتب بأياد مصرية لكنه سيكون
ترجمة لفكرتي، ولعل السمة الأبرز لدساتير فيلدمان أنها تسحب قوة الفعل والتغيير من كل الأطراف وتجعلها رهينة التوافق والصفقات فيقتصر
نشاط الرئيس المنتخب على إستقبال السفراء وتوديعهم والختم على ما يصدره المجلس المشتت أصلا أو الحكومة المنبثقة عنه، كأن البلاد عربة
تجرها خيول ثلاثة كل منها يولي وجهه صوب إتجاه مغاير للآخر فتهتز العربة دون أن تتحرك إنشا واحدا. إننا بإسقاطنا لدستور فيلدمان نلفظ عن
أنفسنا غبار التلقي ونصنع ثورة حقيقية منعزلة عن مآرب الغرب وطموحاته ونمنح للشعب قوة الإقتراح والفعل ، ولعل المتابع للمشهد التونسي في
السنوات الأخيرة يدرك حجم الكوميديا السوداء التي عاشتها البلاد، مجلس أشبه بسوق نخاسة ينتقل فيه النائب من كتلة إلى أخرى بمقابل مادي
يختلف من بائع لآخر ومن مشتر لآخر :يحط النائب رحاله من اليسار إلى اليمين ومن الإشتراكية إلى الليبرالية دون أن يكون للناخب الحق في
سحب الوكالة منه بعد هذا الخداع العلني المقنن، ليضع الدستور حدا لهذه الظاهرة التي دفعت بالسواد الأعظم من التونسيين إلى الكفر بالديمقراطية
التمثيلية وبالنظام البرلماني إذ يحجر في فصليه الحادي والستون  والثاني والستون السياحة الحزبية، وفي ما يلي نصهما:
الفصل الحادي والستّون: يحجر على النّائب ممارسة أي نشاط آخر بمقابل أو دون مقابل. وكالة النّائب قابلة للسحب وفق الشروط التي يحددها
القانون الانتخابي
الفصل الثّاني والستّون: إذا انسحب نائب من الكتلة النّيابية التي كان ينتمي إليها عند بداية المدة النّيابية لا يجوز له الالتحاق بكتلة أخرى.
كان المشهد يتيح لأصحاب المال السياسي، بإعتماد ظاهرة السياحة النيابية والحزبية، صنع كتلة نيابية ضخمة وتغيير إرادة الناخبين، كما كان
المجلس في جانبه الآخر وسيلة المطلوبين للعدالة أو أصحاب الأنشطة المشبوهة للتحصن من القضاء طيلة فترتهم النيابة، ليخصص الدستور
الجديد فصولا ثلاثة وهي على التوالي: الرابع والستون والخامس والستون والسادس والستون للحد من الحصانة المطلقة للنواب ولمنع حالات
الهرج التي كانت تسود جلساته.
كما أثار الفصل المتعلق بديانة رئيس الجمهورية مجادلات صاخبة بين مشكك ومندد ومرحب، وفي زعم مناوئي التوجه الجديد أن يهوديا تونسيا
أو مسيحيا يمكن له حكم البلاد بإعتباره مواطنا يتمتع بكل حقوق المواطنة وهنا لزاما علينا الإشارة إلى نقطتين اولهما أن نسبة المسيحيين في تونس
أقل من واحد بالمائة وأن نسبة اليهود أقل من إثنين بالمائة بحسب آخر الإحصاءات وذلك بعد أن خير معظم اليهود الإنتقال إلى فرنسا والأراضي
المحتلة، أما النقطة الثانية فسنخاطب بها دعاة التغريب بمنطقهم: النرويج وهي إحدى واحات الديمقراطية بالمفهوم الغربي ينص دستورها في
مادتيه الثانية والرابعة على أن “قيَمنا ستظل تراثَنا الإنساني والمسيحي،” وعلى أنه “يجب أن يظل الملك دائما مؤمنا بالديانة الإنجيلية
اللوثرية”. وآيسلندا الحاصلة على الموقع الثاني في المؤشر الديمقراطي ينص دستورها على أن “الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية
في آيسلندا ” (المادة 62) والأمثلة عن الإشارة إلى الدين في المجتمع الغربي عديدة نذكر منها إيطاليا ومالطا وإسبانيا والدنمارك، هذا عدا عن تلك
القاعدة المتقدمة للغرب المسماة (إسرائيل) وفي المقابل لا تشترط كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) ديانة محددة لزعيمها ورغم ذلك
يعتبرها الغرب وأتباعه ذروة سنام الدكتاتورية في العالم، فإن كان الدين المسيحي للرئيس أو للملك الغربي لا يتعارض مع ديمقراطية الدولة فكيف
يتعارض شرط إسلام الرئيس في تونس مع التوجه الديمقراطي؟ إن تونس بلد متجانس مذهبيا وعرقيا وحضاريا والإشارة إلى دين الرئيس لا تمثل
عامل تفرقة وإنما تشبثا بالهوية على غرار ما هو معمول به في بعض الدساتير الغربية. أما الإشارة إلى إنتماء تونس إلى الأمة العربية فجاء
لتعويض مصطلح لغتها العربية الوارد في الدساتير السابقة ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن العربية ليست لغة فقط وإنما إنتماء حضاري
وجغرافي وسياسي وما اللغة إلا أحد مكوناته، فجزر القمر عربية والصومال عربي وفي القطرين تكاد تغيب اللغة العربية عن الشارع هذا عدا عن
بعض اكشاك الخليج التي بات العرب يمثلون فيها أقلية وباتت اللغة الأردية أو الأنجليزية هي السائدة، والعكس صحيح فإيران ينطق جمهور واسع
منها خارج الأحواز باللغة العربية وكذلك التشاد وإيرتريا، والتصويب الذي أقام الإنتماء إلى الأمة مقام اللغة نراه صائبا بل ضروريا لتعديل
المفاهيم، وجدير بالتذكير أن الإشارة إلى العرب على أنهم شعوب ناطقة باللغة العربية هي إشارة أمريكية المنشأ تبناها العرب إثر تبني الغرب لها.
الدستور الجديد أكثر حرصا في فصوله على تحديد مسألة الهوية، والبلاد قد إنطلقت اليوم فعليا في إجتراح مسارات تأسيس بديلة وما على الرئيس
وحكومته إلا الإنتقال من ملكوت الأفكار إلى دنيا التطبيق والإنتاج وعلى الموقف المنهجي أن يسلم الصولجان إلى الموقف البنائي، وتبقى مسألة
تجريم التطبيع هي الهنة الأبرز أو الوحيدة في هذا الدستور ونحن وإن كنا ندرك حجم الضغوط التي مارسها الممولون لمنع صدور هذا الفصل فإن
رهاننا سيستمر على القوانين التي ستأتي إثر ذلك لتضع التطبيع في خانته كخيانة عظمى تستوجب الحد الأقصى من العقوبات

[email protected]

سفيان بن مصطفى بنحسين
تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى