أخبار العالمإقتصادفي الواجهة

دافوس… التعاون في عالم منقسم

غازي أبو نحل

في شهر كانون الثاني/ يناير ٢٠١٧، دعا مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي کلاوس شواب
رواد دافوس الى “اعتماد رأسمالية تشاركية” تحفظ المكاسب الهائلة التي حققتها العولمة وتدرأ
اضرارها. وجّه شواب خطابه آنذاك لنخبة من زعماء العالم المجتمعين في منتجع دافوس
السويسري، وفي مقدمهم الرئيس الصيني شي جين بينغ ونائب الرئيس الأميركي المنتهية
ولايته جو بايدن.

اليوم، وبعد ست سنوات فقط، تراجعت طموحات المنتدى الاقتصادي الأبرز إلى التذكير
بمحاسن التجارة الحرة والتعاون الدولي في وجه سلسلة أزمات دولية غير مسبوقة، أضحت
تهدد أسس العولمة. وفيما أمضى المنتدى، الذي اشتهر باسم المنتجع الشتوي الذي يحتضن
أعماله نصف قرن في الترويج لمفاهيم الثورة الصناعية الرابعة والرأسمالية متعددة الأقطاب
والعدالة المناخية، فهو اليوم محاصر بحرب أوكرانيا وسيناريو مواجهة نووية وارتفاع
مستويات الفقر العالمية للمرة الأولى منذ عقود.

شارك في منتدى دافوس- الذي اتابعه سنوياً منذ انطلاقته نظراً لأهمية المواضيع التي يتطرق
اليها والحضور الرسمي والخاص المتنوع والنخبوي- نحو ٢٧٠٠ مسؤول من ١٣٠ دولة.
وشمل الحضور هذا العام اكثر من ٣٧٠ شخصية عامة تمثل حكومات ومنظمات دولية، واكثر
من ١٥٠٠ من قادة الاعمال و٩٠ مبتكراً، من ضمنهم 56 وزيراً للمالية و19 محافظاً للبنوك
المركزية و٣٠ وزيراً للتجارة و٣٥ وزيراً للخارجية.

ومثل كل عام، تحول المنتجع السويسري الى قلعة محصنة خلال اسبوع دافوس الـ٥٣، اذ
اعطى البرلمان السويسري الضوء الاخضر لنشر قرابة 5 آلاف جندي لتأمين المنتدى، فيما

أغلق المجال الجوي امام الطيران التجاري، واقتصر دخول “قرية دافوس” على حملة
البطاقات المرخصة.

مواضيع عدة تطرق اليها المشاركون في المنتدى الذي عُقد حضورياً للمرة الأولى منذ جائحة
کوفيد-19، في طليعتها الحرب الروسية- الأوكرانية وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد والأمن
الغذائي والطاقة حول العالم. حيث، للعام الثاني على التوالي، تم استبعاد روسیا والتحفظ عن
توجيه دعوات لممثليها من القطاعين العام والخاص، اذ صرّح رئیس دافوس بورغه برنده
“منذ عام تقريباً، وبعد الغزو الروسي لاوکرانیا، اصدر المنتدى الاقتصادي العالمي بياناً قال
فيه ان جوهر منظمتنا هو ايمانها بالاحترام والحوار وجهود الشراكة والتعاون، لذلك ندين بشدة
العدوان الروسي على اوكرانيا… كما اوضحنا اننا لا نتعامل مع اي فرد او كيانات خاضعة
للعقوبات”.

وفيما غابت موسكو عن التجمع الاقتصادي الاكبر في العالم، شاركت كييف بوفد رفيع، كما
وجه الرئيس فولوديمير زيلينسكي وزوجته أولينا زيلينسكا كلمتين منفصلتين للمشاركين. ولفت
برنده في هذا الصدد إلى الدعم الإنساني الذي يقدمه المنتدى لأوكرانيا. وأوضح: «نواصل
المساعدة في حشد شركاء الأعمال لدعم الجهود الإنسانية. على سبيل المثال، عمل فريق
الطوارئ اللوجيستية (LET) الذي أطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي، وهو تحالف من أربع
شركات لوجيستية عالمية رائدة هي Agility ، و A.P. Moller-Maersk و DP World
، و UPS ، مع وكالات الأمم المتحدة في عام ۲۰۲۲ لنقل إمدادات أساسية إلى البلاد.

الاقتصاد العالمي كان حاضراً بقوة في المنتدى الذي انعقد تحت شعار “التعاون في عالم غير
مترابط”. حيث في اليوم الاول للاعمال، رسم خبراء المنتدى صورة متشائمة للاقتصاد
العالمي، مشيرين الى دور التضخم والسياسات التقشفية وتأثير الازمات الجيوسياسية، لكنهم
بدوا متفائلين بحذر حين توقعوا ان يشهد العام الجاري تراجع الضغوط على اسعار الغذاء
والطاقة، في مؤشر على انحسار تدريجي للتضخم.

تقرير استطلع آراء كبار اقتصاديي المنتدى، ذكر ان ثلثي الخبراء توقعوا دخول الاقتصاد
العالمي في حالة ركود هذا العام، وان جلّهم اجمع على ان آفاق النمو محدودة، خصوصاً في

اوروبا والولايات المتحدة، أما بالنسبة للصين، فقد اختلف الخبراء حول مستويات النمو التي
سيسجلها العملاق الآسيوي عقب تحرير اقتصاده من قيود كورونا الصارمة.

الى جانب ضعف مستويات النمو، حذر التقرير من تداعيات التضخم، حيث رأى كبار
الاقتصاديين تبايناً كبيراً عبر المناطق، اذ توقع 5% منهم فقط ارتفاع التضخم في الصين
مقابل 57% في اوروبا، وبعد عام على اعتماد البنوك المركزية سياسات مالية منسّقة تقوم
على رفع اسعار الفائدة، قال كبار الاقتصاديين انهم يتوقعون استمرار هذا النهج في معظم
انحاء العالم هذا العام.

ورغم صعوبة التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، لفت التقرير إلى بعض التطورات
الإيجابية المتوقعة في ۲۰۲۳، فأشار إلى انحسار تأثير اضطرابات سلاسل التوريد العالمية
على النشاط التجاري، وإلى اقتراب أزمتَي غلاء المعيشة والطاقة من ذروتها. بالإضافة إلى
ذلك، سلّط المشاركون في الاستطلاع الضوء على عدد من بواعث التفاؤل، بما يشمل قوة
الموارد المالية للأسر، وتراجع الضغوط التضخمية واستمرار مرونة سوق العمل.

ان مستويات التضخم المرتفع، وانحسار معدلات النمو وارتفاع الديون، تقلّل من حوافز
الاستثمارات اللازمة للعودة الى نمو ايجابي وتحسين مستويات المعيشة لاكثر الفئات ضعفاً
حول العالم.

في اعتقادنا انه يجب على القادة ان ينظروا الى ما وراء ازمات اليوم للاستثمار في الغذاء
والطاقة والتعليم وتنمية المهارات وخلق فرص العمل والاسواق ذات الامكانات العالية في
المستقبل.

ولأن احوال الفقر والفقراء تبقى حاضرة على طاولة قادة الدول واصحاب الاستثمارات
الكبرى، كشف تقرير “البقاء للاقوى”، الذي اعدته منظمة “اوكسفام” وقدمته للمنتدى، حجم
الهوة بين الفقراء والاغنياء في العالم واتساع تسارعها لمصلحة قلة من الأثرياء، حيث لاحظ
التقرير ان 1 في المئة من أغنياء العالم يمتلكون ضعف ما يمتلكه باقي سكان الأرض، وأن
أكثر هؤلاء الأغنياء استحوذوا على ثلثي إجمالي ثرواتهم الجديدة منذ 2020 (تقدر بـ42

تريليون دولار) وارتفعت ثروات المليارديرات 2،7 مليار دولار في اليوم فيما رافق ولادة كل
ملياردير جديد سقوط مليون شخص في الفقر. وبينما يضاعف عشرة من أغنى رجال الأعمال
ثرواتهم، تنخفض قيمة الدخل لدى 99 في المئة من أبناء البشر.

حصل كل ذلك خلال الأعوام الأخيرة منذ 2020. استفاد تجار الغذاء والدواء والطاقة من
أزمات كورونا والحروب لنهب مواطنيهم ومواطني العالم وللتهرب من الضرائب، ساعدهم
في ذلك فوضى الحكومات وصعود الشعبويين والدكتاتوريين إلى السلطة…

ورأت المنظمة ان فرض الضرائب على اصحاب الثراء الفاحش والشركات الكبرى هو السبيل
الى الخروج من الازمات المتداخلة اليوم. لقد حان الوقت لهدم النظرية القائلة ان التخفيضات
الضريبية للاغنياء تؤدي الى تقاطر ثرواتهم بطريقة او بأخرى إلى الأخرين.

حذرنا في اكثر من مقال سابق من ارتفاع مستويات الفقر، ودعونا الى تعزيز الجهود لتحقيق
نمو شامل ومستدام، لا سيما في ضوء التقارير التي تتحدث عن ازدياد معدلات الفقر. وتأكيد
برنامج الاغذية العالمي، ان عام 2022، كان عاما من الجوع غير المسبوق، حيث ارتفع عدد
الاشخاص الذين يواجهون انعدام الامن الغذائي الحاد من ١٣٥ مليوناً الى ٣٤٥ مليوناً منذ
العام ٢٠١٩.

يلاحق تغيّر المناخ قادة العالم في كل مؤتمراتهم، اذ بعد مؤتمر كوب ٢٧ – الذي خصصنا
مقالاً مفصّلاً عنه نهاية العام الماضي، انكبّ المجتمعون في دافوس على التذكير بأهمية هذا
الموضوع. في خضم ازمة اقتصادية عالمية وارتفاع اسعار الطاقة وحرب روسیا- اوکرانیا…
بما قد يؤدي الى تراجع جهود مكافحة المناخ، حيث من المهم جداً ان نظل مركزين على هذه
الازمة. كان العام الماضي من بين الاعوام الاكثر دفئاً على الاطلاق، وشهد احداثاً مناخية
قاسية على مستوى العالم، في الفيضانات في باکستان والحرائق في اوروبا وذوبان الصفائح
الجليدية في القطبين، ما يدفعنا الى وضع الصناعات الرئيسية خاصة تلك المتسببة في أعلى
المستويات من الانبعاثات ،على طريق الحياد الكربوني.

صحيح ان المنتدى اطلق العام ٢٠٢١ تحالفاً لخفض الانبعاثات الكربونية بالشراكة مع وزارة
الخارجية الاميركية، شمل ٦٥ شركة رائدة بقيمة سوقية اجمالية تقارب ٨ تريليونات دولار،
التزم خلال مؤتمر كوب 27 بتخصيص ١٢ مليار دولار من ميزانية التزامات الشراء لعام
٢٠٣٠ للتقنيات الخضراء… لكن الصحيح أيضاً ان التعاون العالمي المنسّق هو السبيل الوحيد
لمعالجة هذه الازمة غير المسبوقة التي تهدد الكرة الارضية باكملها.

أولى المشاركون في المنتدى هذا العام، اهتماماً واسعاً بالأمن السيبراني، وسبل تعزيز سرعة
التصدي لمحاولات الهجوم على البنى التحتية وعرقلة العمليات الامنية، ذلك ان الامن
السيبراني اصبح يؤثر بشكل متزايد في قرارات استثمار الشركات، كما أن عدم الاستقرار
الجيوسياسي يفاقم مخاطر الهجمات الالكترونية الكارثية.

ووفقاً لتقرير توقعات الأمن السيبراني العالمي لعام ۲۰۲۳، الذي أصدره المنتدى، يرجح أكثر
من ۹۳ في المائة من خبراء القطاع و٨٦ في المائة من قادة الأعمال احتمال وقوع حدث
سيبراني كارثي في العامين المقبلين، محذرين من أن شح المهارات السيبرانية يهدد أمن
المجتمعات والبنى التحتية الرئيسية.

وشهدت الأشهر الماضية عدداً من الهجمات السيبرانية المتطورة حول العالم، عرقلت خدمة
البريد في المملكة المتحدة قرابة أسبوعين، واستهدفت مستشفيات على نطاق واسع في الولايات
المتحدة، وكثفت الضغوط العسكرية على أوكرانيا.

وبينما تزيد قدرات المجرمين السيبرانيين تطوراً، حذّر المنتدى من افتقار الحكومات والقطاع
الخاص الى خبراء أمن البنى التحتية الرقمية، مما يجعل الاعمال والمجتمعات اكثر عرضة
للهجمات، داعياً الى العمل معاً لبناء الامن والمرونة والثقة وتضمين الامن السيبراني في ثقافة
المؤسسات وعمليات صنع القرار لمواكبة سرعة انتاج التقنيات الجديدة اضافة الى زيادة
الوعي بحجم التهديد وتحسين مستوى الاستعداد بما يساعد المؤسسات على تحقيق التوازن بين
الاستفادة من محاسن التقنيات الجديدة وتخفيض المخاطر السيبرانية التي ترافقها.

تعبیران اختصرا المشهد:

الاول صدر عن البروفيسور كلاوس شواب، مؤسّس المنتدى، وفيه “ان نقص التعاون الدولي
يؤدي الى سياسات قصيرة المدى وانانية، الامر الذي يعني الدوران في حلقة مفرغة، ومن
غير مقدرة على الخروج من الازمات”.

الثاني اوضحته كريستالينا جورجييغا، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، وفيه “ان الوضع
الاقتصادي اقل سوءاً مما كنا نخشاه قبل شهرين، لكن ذلك لا يعني انه جيد”.

بين التعبيرين، صورة معبّرة أيضاً، التقطها القمر الصناعي، وفيها ان الغطاء الثلجي، حيث
ينعقد المنتدى، انخفض بنسبة 10% في المتوسط مقارنة بعام ۱۹۷۱ عندما انعقد الاجتماع
السنوي الاول للمنتدى الاقتصادي العالمي.

رئيس مجلس إدارة

مجموعة شركات: Nest Investments

(Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة

مراكز التجارة العالمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى