إقتصادالجزائر من الداخل

خطورة طبع النقود على اقتصاد الدولة و توازنها المالي

 
المهدي مداني
تعد النقود بمثابة الدم في جسد الاقتصاد القائم على نظام السوق، حيث أضحت الوسيط في كل المعاملات التجارية في كل دول العالم. وساهم تطور وتوحيد النظام المالي بالإضافة الى التطور التكنلوجي في تيسير تبادل السلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال على نطاق عابر للقارات بشكل سلس وسريع. طبعا، لم تكن للنقود كل هذه القوة المتجسدة في قدرتها الشرائية في ذاتها كـ “أوراق ملونة” على مر العصور، بل جاء نتيجة سيرورة بطيئة توازت مع تطور النشاط الاقتصادي الإنساني خصوصا التجارة والعمل المأجور. طبعا كل هذا معلوم للجميع صغارا وكبارا، دكاترة في الاقتصاد ام أميين. لكن ما لا يعلمه الكل، وما لا يتبادر لذهن العامة -وأصحاب الاختصاص كذلك- هو مصدر كل هذه النقود؟ من يتحكم بإصدارها؟ وعلى أي أساس تتم طباعتها وطرحها للتداول في الاقتصادات؟ يتبادر الى الذهن هنا ذلك السؤال المشهور: لماذا لا تطبع الدولة كمية كبيرة من النقود وتوزعها على الجميع، وبهذا نقضي على الفقر؟ لتتهافت الأجوبة الجاهزة الأكثر شهرة من السؤال: لأنه طبعا سيحدث تضخم، ستترفع الأسعار ولن يعمل أحد. لهذا لا يمكن بأي حال من الأحول “طباعة” النقود وتوزيعها. طبعا تحمل هذه الأجوبة بعضا من الحقيقة، لكنها تمنع العقل من المضي قدما في طرح الأسئلة حول كيفية عمل النظام المالي-النقدي وعلاقته المباشرة بالحياة الاقتصادية، وكيف أن أحدهما يمكن أن يلعب دور المساهم أو المعيق في تطور الآخر. ونقصد هنا بالأساس الدور الذي تلعبه النقود ومن يتحكم في إصدارها في تطور وازدهار الاقتصاد، أو في عرقلة سيره ولي ذراعه خدمة لمصالح أخرى لا تتجلى في التطور الاقتصادي.
من يطبع النقود وكيف؟
تقوم مؤسسات تسمى بالبنوك المركزية بمهمة سك وطباعة النقود، طبعا هي مؤسسات تابعة للدولة في أغلب البلدان لكنها تبقى مستقلة عن الحكومات والأحزاب الحاكمة، أي ضمنيا هي مؤسسات عمومية لكن ليس للدولة أي نفوذ عليها. بالإضافة الى مهمتها الرئيسية تقوم البنوك المركزية بمراقبة أنشطة البنوك التجارية والحرص على نزاهة ونظافة المنظومة المالية القابعة تحت مراقبتها. والمهمة الرئيسية للبنوك المركزية هي السهر على استقرار النظام المالي والمساهمة في مواجهة الازمات الاقتصادية والمالية عبر توفير السيولة (المقصود بالسيولة هو وسائل الدفع بصفة عامة والنقود بصفة خاصة) المناسبة لحجم الاقتصاد والمعاملات، في حال نقص السيولة يقوم البنك المركزي بضخ السيولة في الاقتصاد عبر وساطة الابناك التجارية على شكل قروض، تقوم هذه الأخيرة بمنح القروض لعموم الناس والمقاولات لدفع عجلة الاقتصاد والإنتاج. تشكل الولايات المتحدة الأمريكية الاستثناء فيما يخص البنوك المركزية كمؤسسات تابعة للدولة، حيث ان الاحتياطي الفدرالي الأمريكي الذي يقوم بمهمة البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية يتكون من أبناك تجارية خاصة، لا تخضع للتحكم من طرف الحكومة أو الكونغرس الأمريكي. لكن المهمات المنوطة به تبقى مماثلة للأبناك المركزية في البلدان الأخرى.
لشرح الطريقة التي تطبع بها النقود وتضخ في الاقتصاد، نستدل بمحتوى كتاب قيم للكاتب الأمريكي ايمري شيلدون يتناول الموضوع؛ عملية الطبع هنا كما في السؤال المشهور “لماذا لا نطبع النقود؟” تعني حرفيا عملية “خلق” للنقود، أي إخراجها للوجود حيث لم يكن لها وجود من قبل. يستخدم الاقتصاديون هذا المصطلح لشرح ظهور النقود من العدم، مع التفرقة الواجبة مع “التحويل” الذي يحدث في عمليات الإنتاج. فالنجار حين يصنع طاولة، ومصنع السيارات حين ينتج سيارة من الحديد والبلاستيك والزجاج ومواد أخرى بالإضافة إلى مختلف الصناعات المنتجة. هذه الصناعات لا تقوم بعملية الـ”الخلق”، لأنه المواد الأولية كانت موجودة بالفعل قبل المنتوج وكل ما جرى هو تحويلها إلى منتوج ذو منفعة أكبر وبالتالي قيمة أكبر. لكن الأمر مغاير عندما يتعلق الامر بالنقود، فالنقود يتم حرفيا “خلقها” من العدم. قطعة ورق عديمة القيمة تدخل ماكينة الطباعة لتخرج منها بقيمة تساوي الطاولة، أو السيارة أو الاثنتين معا -الأمر يعتمد على الأرقام المكتوبة على الورقة النقدية-. هنا، وهنا فقط تم “خلق” قيمة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة.
طباعة النقود عمل مربح بشكل جنوني
بما أن عملية طباعة النقود أمر غير مكلف، أي فعليا لا يحتاج أكثر من ماكينة طباعة إضافة إلى الورق والحبر، فمن يقوم بطباعته يستطيع جني أرباح طائلة. تعمل شركات البناء من أجل الحصول على ربح بنسبة 1 أو 2 بالمئة من التكاليف، أما بالنسبة لمصانع السيارات فمعدل ربح بنسبة 5 بالمئة يعتبر عملا مزدهرا. لكن خالقوا النقود يستطيعون جني أضعاف هذا المبلغ بتكاليف أقل بكثير، حيث أن الورقة النقدية تكلف بضع سنتيمات لطباعتها، وقد تخرج من فئة دولار واحد أو 10 آلاف دولار حسب الرغبة.
طرح النقود للتداول في الاقتصاد
النقود ضرورية إذا للمجتمع المتحضر، ولهذا يعتبر طرح كمية من النقود ملائمة لحاجيات الاقتصاد أمرا بالغ الأهمية لهذا الأخير. يمكن الاستغناء عن أشياء كثيرة في المجتمع الرأسمالي، لكن من دون نقود لن يكون هناك صناعات كبيرة، المزارع الكبرى ستصبح مجرد مجتمعات صغيرة مكتفية ذاتيا وفائض الطعام المنتج سيختفي تدريجيا، العمل المأجور سيضمحل وستختفي معه خدمات الشحن والنقل على نطاق عالمي، الناس المتضورون جوعا سيتقاتلون بينهم من اجل البقاء، أما الحكومات والمؤسسات العمومية ستختفي كليا باستثناء ربما نظام العائلة أو القبيلة. قد يبدو لوهلة ان الأمر مبالغ فيه الى حد ما، لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فالنقود هي وسيلة جميع المبادلات التجارية، هي المقياس والمعيار التي تباع بها سلعة ما، وتشترى أخرى. في حالة اختفاء النقود من الاقتصاد، أو في حالة لم تكن كمية النقود المطروحة للتداول كافية لحجم الاقتصاد تحصل كارثة حقيقية. ولنا في التاريخ عبر من أحد أشهر الأزمات الاقتصادية “الكساد العظيم”.
كساد البنوك العظيم بالولايات المتحدة الأمريكية 1930
في عز أزمة 1930 لم تكن تنقص أمريكا القدرات الصناعية، لا الأراضي الزراعية ولا اليد العاملة أو الاستثمارات الصناعية. البنى التحتية المخصصة لنقل السلع كانت جيدة خصوصا خطوط السكك الحديدية التي كانت الأفضل في العالم آنذاك، شبكات الطرق البرية والبحرية إلخ… نظام الاتصالات والبريد الحكومي كان يعمل بشكل فعال جدا وكان استعمال الهاتف الأرضي والراديو شائعا. لم تكن هناك حرب لتنهك المعمار ولا كانت هناك أمراض أو مجاعات تنهك السكان. لكن كان هناك شيء واحد ينقص الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة: كمية مناسبة من النقود لتداول السلع والخدمات.
في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الأبناك -باعتبارها المصدر الوحيد للنقود الجديدة والقروض- في الولايات المتحدة الأمريكية ترفض إعطاء قروض جديدة للمصانع والمزارع والمقاولات الصغرى. ومع استمرار دفع القروض القديمة، أخذت النقود تنتقل شيئا فشيئا من الاقتصاد بمختلف قطاعاته إلى القطاع البنكي حيث أخذت الأبناك تراكم النقود في الخزائن دون منح قروض جديدة. الامر الذي جعل النقود تختفي من حقل التداول. كانت السلع المكدسة في المخازن جاهزة للبيع، أوراش الاعمال بحاجة الى يد عاملة لكن نقص النقود أدى بكل هذه الأشياء إلى الشلل التام. بهذه اللعبة البسيطة، تم وضع الولايات المتحدة الأمريكية برمتها في حالة الكساد العظيم. وهي الحالة التي سمحت لأصحاب الأبناك بالاستحواذ على ملكية آلاف المصانع، المزارع، المنازل والممتلكات. كان يتم اخبار الناس في المذياع والجرائد أن البلاد تمر بأوقات عصيبة وأن النقود قليلة، لكن عامة الناس لم تكن تفهم عمل النظام النقدي آنذاك وتمت “سرقة” مستحقاتهم، مدخراتهم وممتلكاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى