ثقافة

حكمة نابليون..هل يمكننا جعل التعليم ممتعاً؟

عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

ذكرى نافعة
تَخيَّل نفسك وأنتَ في قاعة امتحان، حيث الفضاء مليء بالتوتر، وبالهدوء المريب، إلا من صوت خطوات الأساتذة المراقبين، يرصدون أية حركة، وهم يذرعون القاعة جيئة وذهاباً، بين صفوف الكراسي التي أعيد ترتيبها. أكف ترتجف وهي تكتب الإجابات، وحبات عرق تتساقط، ودقات قلوب تكاد أن تَسمعَ صوت رعبها وابتهالاتها في آن واحد.
دعوني أحدثكم عن ذكرى قديمة، فربما ستجعل موضوعنا هذا أكثر فائدة. لا أعرف بالضبط من الذي أوصل إلينا يوم كنا طلبة في المرحلة الابتدائية تلك الجملة المثيرة التي تقول: (إن خوض معركة أهون عندي من الدخول إلى قاعة امتحان)، وكنا ننسبها لنابليون بونابرت. لاحقاً، حين تأسس الوجود المهيمن لوسائل التواصل الاجتماعي سأجد الجملة ذاتها تتردد بكثرة، آخذة تنويعات أسلوبية أخرى، لا تخرجها عن معناها الذي عرفناه قبل عقود، بل تجعلها أكثر مبالغة، تنويعات من قبيل: (ألف معركة ولا امتحان واحد)، (ألف ساحة معركة ولا قاعة امتحان)، منسوبة لنابليون دائماً، إلا في تغريدة في تويتر، فضل صاحبها زعيماً آخر، ربما لأنه يفوق الأول في رغبته بإشعال الحروب، أو في عدد ضحاياه. نعم. إنه أدولف هتلر.
شخصياً، وعلى امتداد سنوات دراستي الطويلة، من الابتدائية حتى مرحلة الدكتوراه، لم تكن قاعة الامتحان تعني شيئاً سوى كونها قاعة امتحان، وهذا حال نسبة طيبة من طلاب العلم. غير أن تلك الجملة كان لها سحرها الخاص. كانت تمنح النسبة الأكبر من زملاء الدراسة نوعاً من العزاء، وتبريراً استباقياً لرسوب محتمل. لقد وجدوا فيها تميمة ضد خوفهم الطافح. والمفارقة أنه خوف آتٍ ممن يفترض أن يكونوا مصدر أمنهم وطمأنينتهم. ولا أصعب من أن يجتمع عليك (الخوف من الفشل، ومن تأنيب الوالدين، ومن عصا المعلم، ومن النظرة السلبية للمجتمع…)، فليس من المستغرب أن يسقط (ساقط تعني الطالب الراسب في الامتحان، كما تعني عديم الأخلاق في العامية العراقية) بعض الطلبة فرائس للتوتر والإعياء، أن ينسوا تماماً ما كانوا متأكدين من حفظه من مقرراتهم الدراسية قبيل لحظات قليلة من دخولهم القاعة. بعد ذلك، أي وصف سيختارونه لقاعة الامتحان إن لم يكن ميداناً لمعركة؟ من اليسير القول إن جميع أشكال الخوف المتقدمة لم تكن لتهيمن على نفوس صبية صغار لو كنا قد أحسنا فهم أسس التربية الأسرية والتعليمية. لكن كيف نفعل ذلك؟ من سيفعل ذلك؟
التعلم عبر اللعب
أفكر في سياق استذكاري لمقولة نابليون في المستشارين والخبراء، وهيئات الرأي التابعة لوزارات التربية والتعليم في عالمنا العربي، فأتذكر في الحال حكاية تنابلة السلطان. وأفكر أيضاً في المشتغلين بحقول الدراسات الاجتماعية والتربوية، وإعداد المناهج، وطرائق التدريس، في ابتعادهم غير المفهوم عن الحياة المدهشة للفئات العمرية الصغيرة. فبينما تبدو الحاجة ملحة لإيجاد مقاربات علمية شجاعة تعتمد المنهجيات الحديثة، ظلوا يراوحون عند آليات وموضوعات مستهلكة تماماً. وما رهاب الامتحان -لاسيما الامتحان النهائي- إلا محصلة لفشل الخطط التعليمية، ولعجز المعلمين عن تقديم محتوى جاذب طوال العام الدراسي.
يلف الملل كل شيء، وتُغلِّف الرتابة عالم المدرسة والدارسين. وإن كانت للمعلم سلطة أن يحاسب الطلبة “الكسالى”، فمن الذي سيحاسب المعلمين الكسالى؟ أولئك الذين يدأبون طوال سنوات عملهم على تكرار الأساليب نفسها بإصرار لا يتزحزح. هم أساتذة، لكنهم طلبة أيضاً، طلبة أوفياء لما تربوا عليه، للطريقة الإملائية التي تتعالى على المحاورة، ولا تؤمن إلا بالتلقين.
سرعان ما سينسى الطلبة أغلب ما تم تلقينهم إياه من مواد مملة. الأكثر حضوراً في ذاكرتهم هي اللحظات الجميلة للعب مع الأصدقاء. الأستاذ المعلم لا يلعب. هو جاد وعقلاني، وربما يكون شديداً أحياناً. ولا أحد يحب أن يتذكر شيئاً من ذلك. ما نتذكره من حديثه طوال عام كامل مجرد معلومات قليلة، ربما لأنه قدمها على شكل حكاية مشوقة من غير أن يكون قاصداً، أو وجد لها صلة بالواقع اليومي لحياة تلاميذه فشدتهم إليها. بهجة معرفية مرت مثل صدفة.
اليومَ، يتقدم مصطلح التلعيب/ اللوعبة/ اللعبنة (Gamification) الذي دخل إلى المعجم الإنجليزي مع بداية القرن الحادي والعشرين ليمثل الخيار الأفضل من بين طرق التعليم. فالتلعيب يستعير من اللعبة بعضاً من عناصرها “التحدي، النقاط أو المستوى، المكافأة” ليحرر المحتوى التعليمي من الرتابة، ويزيد من تفاعل الطلبة مع ما يُقدم لهم. إنه فرصة مثالية لتعزيز روح المشاركة والتعاون، وتحفيز القدرات، بما ينمي الرغبة لا في التعلم فحسب، وإنما في التفوق أيضاً. تلك اللمسة الساحرة تتجاوز الدرس التقليدي، مستندة لكم هائل من الإمكانات التي أتاحتها تكنولوجيا الوسائط الذكية، وأثراها الفضاء الرحب لعالم الإنترنت. يكفي أن نتذكر آلاف الألعاب التي يمكن توظيفها في هذا السياق، وهي متوفرة بشكل مجاني. فضلاً عن ألوف الروابط والفيديوهات، والملفات الصوتية، والصور الثابتة والمتحركة. أقول ذلك، بعد أسبوع واحد من بدء العام الدراسي الجديد، في الوقت الذي بدأ فيه أكثر المعلمين يغلقون صفوفهم الإلكترونية، ومعها كل سبل الإفادة من تلك الإمكانات المجانية المفيدة. ما إن تراجع وباء كورونا حتى فضلوا العودة لطريقة التلقين المباشر. وهو ما كنت قد توقعت حصوله، وحذرت من تبعاته في مقال سابق نشر قبل عامين. بينما تفكر الدول المتقدمة باستثمار الشوارع والمتنزهات، ومجمل الفضاء العام لتنمية سلوك الأطفال، عبر محفزات تعليمية مثيرة وغير مكلفة، لا شك في أنها ستسهم بتأسيس اللبنة الأولى لوعي مستقبلي أصيل.
عالم بطراز خاص
حياة طلبة المدارس الصغار حياة مدهشة حقاً. لن يكون بمقدور أحد أن يفهمها ما لم يسترجع روح الطفل الذي يسكنه، براءته وطيبته، قلقه ومخاوفه، رغباته الساذجة، وخياله غير المُدجَّن بعد. إنها فضاء خاص، له مصطلحات ومرويات وشائعات تهم الأطفال وحدهم، وتستجيب لطبيعة اهتماماتهم. وليس بالضرورة أن تكون لمروياتهم وثائق إثبات صحيحة، حين ينسبونها لشخصية ما. يكفي أن يجدوا فيها شيئاً من أنفسهم.
لقد تأكدت من ذلك، حين صرت في مرحلة الدراسة الإعدادية، وبدأت أقرأ نمطاً مختلفاً من الكتب. وكم كانت المفاجأة كبيرة حين اكتشفت أن ذلك الذي فضل ميادين المعارك على قاعة الامتحان لا يبدو هو الأصلح لنسبة الجملة التي أغرت بسحرها زملاء الدراسة، إلا لجهة كثرة الحروب التي تسبب بها. لقد كان نابليون تلميذاً ذكياً متفوقاً، وبفضل ولادته لأسرة أرستقراطية واسعة الثراء، ذات أصول كورسيكية إيطالية، درس وتخرج في أفضل معاهد التعليم بلا مشاكل.
حتى سيرة زعيم النازية نفسه لا تكاد تتفق مع حكاية الحروب الامتحانية، فتعثره الدراسي كانت له أسباب لا تعود إليه بالأساس، بل إلى كم القسوة المفرطة، وحجم العقاب العنيف الذي استمر يتلقاه من زوج والدته، أيام كان تلميذاً صغيراً. ومن يدري؟ فربما كان التاريخ سيأخذ مساراً مختلفاً لو أن ذلك الفتى الألماني ذا الأصول النمساوية، المعجب كثيراً بفن الرسم قد تهيأت له فرصة القبول في المعهد الفني الذي طمح لإكمال دراسته فيه، فالمهتمون بتتبع مسار حياته أكدوا أنه استمر يمارس هوايته الفنية بشغف، حتى وهو محشور في الخنادق الجهنمية للحرب العالمية الأولى.
نعم. يمكننا أن نجعل التعليم ممتعاً، حين نكسب ثقة المتعلمين، وحين نعزز الثقة في أنفسهم فلا تنتابهم المخاوف لا من الامتحان ولا من غيره. لحظتها أيضاً، لن يتوقفوا طويلاً عند أقوال “الإمبراطور” أو “الفوهرر”، سيفضلون أن يأخذوا في اعتبارهم مثال “المهاتما”، فهو أكثر نفعاً في إزجاء الصالح من جمل الحكمة، الحكمة الإيجابية التي تعزز الأمل في نفوس سامعيها، وتبشر العالم بمزيد من الطمأنينة والسلام، لا بحروب الخراب والكراهية. ولا شك عندي في أن “غاندي” قد وصل إلى أوج تجلّيه حين قال: “الفرق بين ما نفعله وما نحن قادرون على فعله يكفي لحلِّ جميع مشاكل العالم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى