تعاليقرأي

حقيقة التطور

فارس التميمي
كاتب

حقيقة التطور البيولوجي للكائنات الحية، مازالت وربما ستبقى لعقود طويلة موضع جدل، ليس بين من لديهم تخصص ومعرفة بعلم البايولوجي، ولكن بين من لا علاقة لهم بالعلوم التطبيقية بكل أقسامها، وليست لديهم أدنى فكرة عن:
• ما هي عملية التطور وكيف يتسنى لها أن تحدث؟
• ما هي العوامل التي دفعت لحدوثها؟؟
• هل هي منتظمة ومطلوب منها أن تصل لهذا الوضع الذي هي عليه اليوم؟
• كم استغرقت من ملايين السنين لكي تصل لما هي عليه اليوم؟

لقد جعلت التكنولوجيا الحديثة من حقول الإنترنت والتواصل الاجتماعي ساحات للألعاب المختلفة ولمختلف مستويات اللاعبين!
أو ربما بعبارة أكثر دقة، للعبث والخروج عن ضوابط وضرورة معرفة اللعبة قبل اللعب، خصوصا في مجالات العلوم التطبيقية، فأصبح يصول ويجول فيها كل على هواه، سواء كان مؤهلا للعب أم لم يكن لديه أدنى تأهيل! وذلك لانعدام المعرفة بأهم قواعد اللعب المفترضة في حقول وساحات الإنترنت!!
يُذكرني هذا الأمر بما سمعته أو قرأته أنه قول للإمام علي بن أبي طالب الذي يقول فيه:
ما جادلت عالما إلا وأفحمته،،،
وما جادلت جاهلا إلا وأفحمني!!!
ويجب أن أذكر هنا أنني لا أقصد بهذا القول أنني أنا الذي يجادل العالِم ومن ثم يجادل الجاهل،، وذلك لأنني أنا نفسي كنت قبل حوالي أربعين عاما متجحفلا وبحماسة شديدة، مع حشود من الناس الذين لا يعلمون شيئا له قيمة علمية عن (حقيقة التطور)،، ولكنهم يجادلون فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب فيه شيئ من المعرفة!!! وكنت أستخف وأستهزئ بحقيقة التطور لجهلي بها، (ذلك الجهل المخجل) الذي مازال يُحرج أنانيتي فعلا كلما تذكرته!! حتى جاء عام 1985عندما التقيت برجل باحث مختص في علم البايولوجي اسمه Jonathan Kingdon، وهو بريطاني جاء للدوحة في زيارة لمزرعة (الوبرة) الخاصة بالظباء البرية. وأنا إذ أذكر اسمه هنا لكي يتابع من يرغب بمعلومات عن الرجل وعن مؤلفاته في ميدان دراسات التطور البايولوجي. ومزرعة الوبرة كانت تضم عددا من أنواع الظباء antelopes البرية الأفريقية والآسيوية النادرة الوجود في الأسر، والبعض منها كان محدود الوجود حتى في مناطق معيشتها البرية الصغيرة جدا في أفريقيا. وكنت أنا المشرف على رعاية هذه الظباء. ومن هذا الوضع كان لقائي بالرجل، وقد علم من حديثي معه بأنني هاوي تربية أنواع الطيور ومنها وأهمها الحمام. ولأن الرجل كان بالفعل يدرس ويبحث الصلة التطورية والعلاقة الوراثية بين أنواع الظباء، التي كانت تعيش في أفريقيا أصلا، وبعد أن انفصلت جزيرة العرب عن أفريقيا بأخدود البحر الأحمر قبل حوالي خمسين مليون سنة، انفصلت الظباء للجانبين من البحر، ومع مرور ملايين السنين تولدت أنواع وسلالات من الظباء، مختلفة الشكل نوعا ما عن بعضها على جانبي البحر في أفريقيا وفي الجزيرة العربية.

لقد سألني جوناثان عن الحمام الذي أربيه ولأي غرض؟
وكان جوابي له أنني أحب شكله وسلوكه وأحب مراقبة تصرفاته، كما أنني أحاول القيام بتجارب تضريب بين سلالاته المختلفة لإنتاج سلالات جديدة،
دار الحديث طويلا ودخلنا في تفاصيل كثيرة،،،، ولم يكن الحديث بيننا متوازنا علميا، فقد كان واضحا بأن جوناثان يتحدث كلاما علميا موزونا وعن معرفة ومعايشة، أما أنا،،، فقد كانت ردودي بائسة منتهى البؤس! ولم تكن أكثر من عبارات متناثرة لا وزن لها ولا قيمة، ولا تدل على شيئ أكثر من أنني فقط أرفض (نفسيا) أن أصدق أن التطور قد حصل فعلا وعبر ملايين السنين! وأصرّ على أن كل الأحياء التي أراها أمامي قد وجدت على الأرض هكذا! لقد كنت بالفعل بائسا وكان اعتقادي ذلك أكثر بؤسا مني!!!
وبعد أن علم من خلال حديثنا أنني لم أكن مقتنعا بأن سلالات الحمام الجميلة الأشكال والألوان والتي أعشقها، كلها منحدرة من الحمام البري الذي نعرفه باسمه العام والعلمي Rock Pigeon- Columba livia،، لم يتخلى عن الفرصة لسحب الموضوع إلى “دارون” وتنظيره (حقيقة التطور)، وأراد أن يذكر لي أن دارون استخدم الحمام في تجاربه لتتبع الكثير من الصفات التي تنتقل وراثيا عبر الأجيال.
والحقيقة أنني كنت أعرف ذلك، وعن قرب شديد، فقد سبق لي في عام 1981 أن دخلت إلى متحف الطيور في مدينة Tring قرب لندن والتابع للمتحف البريطاني، وكان دخولي للمتحف بصفة باحث لدراسة وتصوير النماذج المحنطة لسلالات وأشكال الصقر الحر Saker Falcon المحفوظة في المتحف، ومنها مررت بدافع الفضول على عينات الحمام المحنطة والتي كان يربيها ويحتفظ بها دارون لتجاربه، حيث كانت أيضا محفوظة في المتحف في أدراج وخزانات مغلقة. وكانت لي معها دقائق لها نكهة خاصة، عندما تحسّست الحمامات المحفوظة داخل أكياس بلاستيك شفافة، زيادة في الحيطة والمحافظة عليها. لم تكن تلك الحمامات غير سلالات ليست واضحة الأصول، لكنها كلها كانت من سلالات الحمام الداجن.

عدت للبيت في الليل بعد نهاية لقائي الأول بجوناثان، وبعد أن وعدته أنني سوف أصحبه لمزرعة الوبرة صباح اليوم التالي لمشاهدة الغزلان بأنواعها المختلفة، التي كانت الوبرة تتميز باحتفاظها بها، وكانت تعتبر الموقع الوحيد في العالم الذي يحتفظ بالعديد من هذه الغزلان في الأسر، وهذا بالمناسبة أيضا لم يكن يصدّقه من يسمعون عنه، عندما نتحدث للعموم عن ندرة هذه الأنواع من الغزلان! وكان غالبية الناس يتصورون أنها مجرد غزلان لا تختلف الواحدة عن الأخرى، وأننا نبالغ في حديثنا عنها!

دارت في رأسي الكثير من المشاهدات التي مرّت عليّ من صور للوحات فنية، رسمها فنانون من مختلف بلدان أوربا منذ القرن الخامس عشر وربما قبل ذلك، والتي تصور الأجواء الريفية ويظهر فيها الدجاج والبط والحمام، ولم أستطع أن أرى في أي لوحة صورا للعديد من سلالات الحمام التي أعرفها والتي أصبحت شائعة الوجود في معظم بلدان العالم، وهذا مما دفعني للبحث في أصول تلك السلالات وأين ظهرت أول مرة وكيف كانت أشكالها. وبالفعل فقد أثبت التوثيق التصويري من خلال اللوحات المرسومة ومن بعدها التصوير الفوتوغرافي، أن كل تلك السلالات التي في بالي وموضع تساؤلي لم يكن لها وجود قبل ثلاثمئة سنة أو أكثر أو أقل بقليل. وبهذا وبفعل مساعدة الرسوم والتصوير قصيريّ العمر والمعاصرين نسبيا، فقد أثبتت أن هذه السلالات قد تشكلت خلال فترة وجيزة لا تكاد تكون لها قيمة من عمر الكون. صحيح أن “الحمام” قد بقي “حمام” كنوع من الطيور، ولكن لا أحد يستطيع أن يضمن أنه لن يتحول لنوع آخر من الطيور بعد مليون أو عدة ملايين من السنين، عندما نراه وقد اكتسب هذه التفاصيل من الاختلاف في شكل الجسم، والقدرات والصفات والميزات فقط خلال فترة قصيرة لا تزيد على ثلاثمئة سنة أو أقل.
وهكذا شعرت بأن تشبثي برفض فكرة أو نظرية التطور، أو عدم التفكير الجدّي في أن هنالك احتمال كبير أنها فعلا تستحق إعادة النظر وأخذها بعين الاعتبار، لمعرفة مدى احتمالية أن تكون واقعية ولها مدلولاتها وما يسندها كحقيقة وليست نظرية. هنا أعتقد أنني بلغت حد الحيادية بين من هو مقتنع بنظرية التطور، قناعة مبنية على أسس علمية لا يمكن دحضها والجدال فيها، وبين من هو رافض لها على أساس من عدم المعرفة ورفض لمجرد الرفض، زيادة على قناعته المسبقة بالموروث من المعتقدات اللاهوتية التي لا يمكن مناقشتها أو إعادة النظر فيها!

لم تكن تلك الفترة التي مررت بها من عام 1985 حتى عام 1987 سهلة أبدا، عندما أصبحت خلالها وبعد اطلاعي على الكثير من المعلومات والمنشورات والأفلام الوثائقية والعلمية المتعلقة بالتطور. فقد أصبحت أعيش في جو مشحون من المراقبة والتركيز على كل أنواع الطيور التي تحيط بي والتي أتعامل معها يوميا وليس فقط الحمام! فالصقور التي أعيش معها أكثر من الحمام، والتي تشكل نسبة مئة بالمئة من زبائن العيادة البيطرية التي أعمل فيها، وأتابع سلوكها الذي له علاقة وطيدة بصحتها التي أنا مسؤول عن علاج إشكالاتها، أصبحت أنظر لها وفي ذهني صورة الديناصور الذي تطورت منه، كما أثبتت ذلك البحوث والحفريات والتركيب البايولوجي لأجسام الطيور، ومقارنتها بأجسام الديناصورات والزواحف!
لم يكن ذلك سهل علي تقبله، فقد تحول جمال الطيور وبهاء وأناقة أجسامها وألوان ريشها، إلى ما لا يمكن وصفه متمثلا ببشاعة الزواحف التي بطبعنا وثقافتنا التي تربينا عليها، لا نحب التقرب منها، وأصبحت الزواحف والديناصورات كظل أو خلفية ملازمة لأجمل ما كنت أستمتع به من أشكال وألوان الطيور،، وأصبحت كلما نظرت لأرجل الطيور، أرى خشونة الحراشف والأصابع التي تنتهي بالمخالب، فلا أستطيع أن أنكر أن هذا الجمال الهيكلي لجسم الطير والألوان الزاهية، أو تلك الألوان الأنيقة التي تظهر بها الصقور، إنما هي جمال لا يتناسب مع خشونة الأرجل والمخالب التي تمثل نشازاً وسط الجمال العام للطير.
لقد كانت بصورة عامة خيبة أمل كبيرة استمرت تطاردني لسنتين أو أكثر، حتى توصلت لتسوية مع نفسي في أن أعتبر ما توصلت إليه من تغير في قناعتي، إنما هو في أسوأ الأحوال نعمة كبيرة كان من الممكن أنني لا ألتقيها، لولا أن الصدفة وطبيعة عملي قد هيأت لي اللقاء برجل عالم مختص، عرف كيف يثير موضوعا مهما لي من كثير من النواحي، منها العلمية والفكرية والتوجه العام في رفض الأمور أو قبولها، واللذان يجب أن يكونا دائما مبنيان على علم ومعرفة بيّنة وليس على ما نرثه من معتقدات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى