ثقافة

حفلة شواء

فوز حمزة

تجاوزت الساعة الرابعة والنصف عصرًا عندما جاءني اتصال من رئيسي في العمل يطلب مني الحضور صباح الغد إلى مقر اللاجئين .. سيكون الغد حافلًا. رددت هذه الكلمات بصوت منخفض بعد غلقي الهاتف وأنا أسير نحو النافذة.
العتمة بدأت تنشر ثوبها على كل ما تحتها، فالظلام يهبط مبكرًا على مدينة صوفيا في فصل الشتاء والنهارات تقصر فيه مانحة الليل عذرًا للمكوث ولأحلامنا أن تكون طويلة.
الثلج فوق الأشجار وعلى البنايات والمنازل والأشكال الغريبة التي رسمها الدخان المتصاعد من المداخن والشوارع التي خلت من الناس، كل ذلك ولد في نفسي شعورًا غريبًا كأنني في سجن كبير دخلته بإرادتي ثم رميت بمفتاحه خارجًا ..
شعرت بالغضب من نفسي لأنها تنساق وراء كل ما يسبب لها الحزن والقلق، حاولت طرد أفكاري الغبية فوجدتني أغرق فيها أما قدح النسكافيه الساخن وسيجارتي الوفية لم يخففا من وطأة شعوري، بل تواطئا مع الذكريات في حملي إلى مكاني تحت شجرة التين في حديقة بيتي في بغداد قبل أن نقرر الهجرة نحمل مع متاعنا حقيبة الذكريات.
بعد مضي سنوات تحولت هذه الذكريات إلى مصدر للوجع.
تنهدت بعد أن نفثت دخان السيجارة متسائلة :كيف للزمن أن يعيد لي تلك اللحظات التي كنت أثرثر فيها مع جارتي أو وأنا استمع لماجدة الرومي بينما العصافير والحمام منظرها على الأغصان يشيع السلام؟ لكن السؤال الأصعب هو: هل بإمكاني العودة والبدء من جديد؟ ماذا عن أولادي الذين تعلموا لغة هذا البلد وتأقلموا معه بسرعة؟
تساءلت وعيني تراقب نتف الثلج المتساقطة: أيهما أحب إليّ، بلادي التي سرقت مني شعور الأمان وقتلت أحلامي أم هذه البلاد التي حفظت لي كرامتي وعاملتني كما تعامل أحد مواطنيها ؟! الجواب كان غامضًا ومبهمًا !
شعرت كأنني كائن منشق لنصفين، أحدهما يشد الآخر لعالمه!
حاولت إسكات ثرثرة العقل فقلت وأنا أفكر فيما ينتظرني صباح الغد: سأسمع قصص جديدة ربما تسبب الحزن لقلبي لكنها ستثري قلمي فأخرج بنصوص ربما تصلح لتكون عملًا أدبيًا.
في مقر اللاجئين دخلت غرفة كانت مكتظة بالفتيات والرجال وأطفال تشبثوا بأيدي أمهاتهم، التعب والخوف مرسوم بلونه الأسود على ملامحهم، عيونهم خائفة من المجهول، بعضهم اتخذ الصمت ملاذًا له والبعض الآخر كانوا يتهامسون فيما بينهم. صوت من آخر القاعة جعلني ألتفت لصاحبته وهي تسألني:

يبدو من هيئتك أنك عربية؟
كانت شابة وفي غاية الجمال، لكن غبار السفر أخفى الكثير منه.

نعم أنا عراقية، وظيفتي نقل قصصكم بعد ترجمتها إلى اللجنة.

إذن أنتِ المترجمة ؟ الآن شعرت بالراحة !

صوت سيدة حولها ثلاث فتيات سألتني بيأس:

هل سنحصل عليها؟ أقصد الموافقة، لقد تعبا كثيرًا وتعرضنا للمخاطر قبل الوصول إلى هنا.
سكتُ وابتسمت ابتسامة من لا تريد أن تمنح ما لا تملك. بعد لحظات تقدم شاب عشريني يحمل في يديه ملفًا قائلًا لي بلهجة فيها الكثير من التوسل:

لقد جلبت في هذا الملف كل ما يثبت من أنني كنت سجينًا في بلدي وقد تعرضت لأنواع العذاب، هل تعتقدين إن ذلك سيساعدني؟
العيون كانت تتطلع نحوي تنتظر ردي، قلت لهم لأنهي كل شيء لصالح الأمل:

استبشروا خيرًا!
اليأس في نظراتهم أخبرني إنهم بحاجة إلى شيء أكبر من الأمل والوعود.

عند الساعة العاشرة والنصف كان لقاء اللجنة مع أول اللاجئين.
سيدة هربت مع ولدها البالغ من العمر عشر سنوات بعد مقتل زوجها لتجد جثته في حاوية القمامة وأخرى تعرضت للاغتصاب بعد خطفها من قبل مسحلين وهي عائدة من جامعتها .. ورجل تعرض للتهديد لأنه يؤيد النظام السابق .. فتاة ليل هربت بعد أن توعدوها بالقتل .. شاذ إدعى أن بلاده لا تؤمن له حقوقه الإنسانية .. كل واحد لديه قصة أغرب من الأخرى .. بعد مضي ساعات ثلاث شعرت بالأرهاق ليس فقط لأنني كنت أترجم ما أسمع، بل لبشاعة ما سمعت.
نظرت إلى ساعة يدي .. الدوام كان على وشك الانتهاء حينما دخل آخر لاجئ، شاب في الثامنة عشرة من عمره، الخوف كان واضحًا في عينيه وهو يسرد ما تعرض له من تعذيب على يد متطرفين ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد أن دفع والده إلى الخاطفين مبلغ مالي كبير، كان يبدو مرتبكًا والحروف خرجت متلعثمة وهو يسرد حكايته.
قال لي حينما قابلته خارجًا عند باب البناية :

  • هذه هي المرة الأولى التي أنام فيها خارج البيت ولا أدري إن كنت سأعود إليه أم لا؟!
    سألته وأنا أرى الضياع متجسدًا في نظرات عينيه:
  • ما هي خططك إن منحت الإقامة هنا؟
  • ربما سأفكر في إكمال دراستي أو أبحث لي عن عمل.
    ثم تنهد قبل أن يستأنف:
  • لقد اشتقت لأمي كثيرًا .. أبي وأخوتي لا تفارق صورهم خيالي، ليتني الآن بينهم.
    كنت أود أخباره أن الغربة ستجعل منه إنسانًا قويًا وهذه إحدى محاسنها، لكني صمت وتركت ذلك للأيام
    انطلقت بسيارتي وأنا أفكر في أحلام هذا الفتى التي اقتلعت من أرضها لتزرع في أرض أخرى. هل يحالفه الحظ لتورق أحلامه أم ستموت من البرد والصقيع؟!
    عند الغروب، وأنا أنصت لصوت حبات المطر المنتحرة على نافذتي الصغيرة، شعرت كأني مسافرة تحمل حقيبتها بيد بينما في الأخرى تحاول إمساك طرف ثوبها المتطاير بفعل الهواء.
    أنقذتني من هواجسي رسالة من صديقتي تدعوني لحضور حفلة شواء كتلك التي كنا نقيمها في بغداد.
    كانت السماء تلك الليلة خالية من النجوم والقمر مختبىء خلف الغمام.
    تلك اللحظة وأنا أرى الثلج الذي عكس نور مصابيح الشارع عليها فبدا كل شيء ساحرًا، راودني الأمل في تناول قدح النسكافيه في بلادي ثانية بعد عودة المطر إليها من جديد .. فتساءلت:
    هل ما زلت أمتلك حق الحلم أم أكتفي بمراقبة تلك الأحلام من خلف النوافذ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى