ثقافة

حرائق الروح الإنسانية

خالد جودة أحمد

(تأريخ الجذور اليابسة عبر بوابة المجاز الروائي)
مقدمة:
رواية “زاهبن” للروائية “حنان الهوارى” رواية ذات طابع إنساني عام، قدمت وجبات سردية مرة من رحاب الأرواح العربية الكسيرة، وهى على الحقيقة “وجبات مرة شهية التناول”، حيث تنتمي إلى لون من الكتابة التى تمتعنا وتوخز أرواحنا في نفس الوقت، ويدفعنا الطرح الروائي للتعاطف مع مأساة سحق الإنسانية أيا كان موطنها، وأيضا التحفيز للخروج من أسر الاهتمام والإنغلاق الذاتي حسب وصف الرواية في التعبير عن طبيعة المصريين.
ويعني الإمتاع تحقق فنية النص التي وصفها النقد الأدبي بالمكونات التى تضفى عليه الإشراق والديمومة مهما توالت عليه عمليات القراءة. ونبحث جانب من هذه المكونات المرغوبة.
حجاج التاريخ والتأريخ، ومراجع الرواية:
تتشكل الرواية من (18) كتلة سردية في (6) أقسام، مع تقديم مجموعة من النصوص الموازية (الإهداء ونصوص مختارة) التي تؤشر إلى البيئة الروائية الخاصة. يلتقي القارئ مع القسم الأول المعنون بعنوان الرواية “زاهين” الذى يوحى بأنها رواية السيرة الذاتية للشخصية الروائية الرئيسية “زاهين”، فنجد بدء تسريب المعلومات والتأسيس الروائي للزمكان كخلفية او بيئة روائية.
ومع التقدم فى القراءة نجدها رواية أصوات حيث يتم تقديم الحدث الروائي الواحد من أكثر من منظور للرؤية طبقا للرواة (زاهين / حجي / سيروان / سرو / الأرملة البيضاء / أبو أيمن). وقد يتداخل الحكي ويعاد المنظور، ففي قسم سيروان نجد إعادة لمنظور “زاهين” بحديثها إلى سيروان وزوجته.
ثم تلتقى الخيوط في الخاتمة في منحى تربوي توجيهي، وتقديم جزء توثيقي محض، وكأن الرواية تدرج مراجعها في المتن السردي، وتكرر ما قالته فنا، عبر استعراض مباشر لمحتوى عدد من الملفات المتلفزة حول مأساة عدوان “داعش” على الطائفة الأيزيدية في جبل “سنجار” فى منطقة “كوجو” سنة 2014. وهو قسم توثيقي تماما بلغته وحقائقه، ويعد إعادة وتكرار لما قدمته الرواية فنا،
ويطرح حجاج التاريخ والتأريخ، حيث تعددت وجهات النظر في التفرقة بين التاريخ والتأريخ، ففى رأى أن التاريخ يعنى الأحداث التى حصلت عبر الزمن، أما التأريخ فيعنى عملية توثيقها وتسجيلها. وفى رأى آخر، التاريخ يكتفى فقط بتدوين الأحداث، لكن فهمها فيكون متعلقا بالتأريخ ويعتمد عليه، وبعبارة أخرى ليس بإمكان أى شخص أن يقوم بتذكر الماضى ويقيس الحاضر عليه إلا إذا تم تأريخ التاريخ. وفى رأى أن التأريخ هو تاريخ الكتابة التاريخية. أما الفكرة التى أعجبتني فهى القول بأن التأريخ يعنى الطريقة التى يقدم بها التاريخ، أو بمعنى آخر السعي لردم الثغرات فى الرواية الرسمية للتاريخ، من خلال التنقيب في حياة الناس العاديين، ومن خلال السير والآداب عامة. يقول د. طريف الخالدى: “كتابة السير فى عالمنا الحاضر وفى الآداب العالمية المختلفة باتت تتجه نحو دراسة تأريخ سيرة لا تاريخها وذلك للثغرات العديدة الهامة جدا في حياة كل إنسان التى تواجه كاتب السيرة” . ويصل الحماس لدى البعض لفكرة ردم فجوات التاريخ إلى حدود مقولة الروائي “الطيب صالح”: “إن رواية واحدة قد تختصر أطنانا من الورق والحبر، يسطر فيها المؤرخ أو الأكاديمي علمه التاريخى والسياسى. وهى تفعل ذلك عبر الحدس الموجود عند الفنان، وعبر حوار مع الحاضر والماضى ومحاولة الإجابة على أسئلة المستقبل”، ثم يقول الطيب مقولة تعد توضيحا وكشفا للفكرة المهمة: “ثلاثية نجيب محفوظ أغنت الناس عن قراءة موسوعات تاريخية وسياسية كاملة .. وكذلك أرى فى قراءة بلزاك استغناء عن قراءة الكثير من كتب التاريخ، وبصراحة أنا لم أفهم فرنسا المعاصرة إلا بعد أن تعمقت فى قراءة بلزاك”.
علامة مهمة في خارطة طريق الإبداع:
والرواية مثيرة في تعريف القارئ العربي بمأساة تلك الأقلية المتآكلة “الإيزيديون” أو “اليزيدية” التى تسكن شمال غرب العراق وسوريا وجنوب غرب تركيا، وأيضا تعرض الرواية خفايا وتفاصيل محزنة حول “داعش” الطائفة السرطانية التى اجتاحتهم ومارست ضدهم أبشع صور العدوان والعنف. أو بتعبير الرواية: “قطفوهم من على شجرة خوفهم”، و”اجتثوهم من فوق أغصان البراءة” في موطن روائي آخر. وهناك ذكاء في الاختيار الروائي للجدة في الموضوع، كما أن قماشة الموضوع الروائي ثرية، فاليزيدية تسترفد طقوسها وعقيدتها من عدد من الأديان والأفكار، كما أنها قومية عرقية منعزلة تقطن أكثر من أرض، مما منح المذاق الموسوعي، وأعان على ادراج تفاصيل كثر صاخبة في الرواية، تشير نحو الكدح الثقافي في الرواية، وتحقيق أحدى العلامات المهمة في خارطة طريق الإبداع “إقرأ حول موضوع ابداعك”.
وحقق الإنتقاء أيضا فكرة تعارف القراء العرب على الآخر الثقافي، والتعاطف مع المظلوم أيا كانت ديانته، وكذا أرى أن الرواية معادل موضوعي للذات العربية والهوية الخاصة التى يجتاحها الآخر العداوني. كما أنها إدانة للعالم الصموت عن الظلم: “القبح الذي تنطوي عليه سريرة العالم الذى يدعى الفضيلة”
السرد من داخل السرد:
وذلك من خلال التقديم والتأخير في الزمن الروائي، فما يتم ذكره إجمالا في موضع، يتم تفصيله في موضع آخر عبر رحلة الذاكرة للرواه لاسترجاع الأحداث الماضية، نموذجا: استباق من الراوي “سيروان” بذكر استشهاد زوجته “سدن” ورحيله إلى مصر، ولم يكن هذا ضروريا حيث أنه ص 131 يكرر ما سبق ذكره إجملا، ثم في موضع ثالث لاحق يفصل من خلال الذكرى حادث التفجير والرحيل المؤلم.
الجذور اليابسة شرقا وغربا:
وتقدم الرواية الجذور اليابسة شرقا وغربا لظواهر تغذية الكراهية والتطرف والوحشية في السلوك البشري العدواني ضد الآمنين والمدنيين بقسوة غير مبررة، عبر حقل المجازات الروائية والفتنة بالبيان. ومن خلال التحقيق الروائي، ببحث فروض تناظر الأسئلة البحثية. خاصة في قسمي “الأرملة البيضاء” و “أبوأيمن” حيث التحقيق البوليسي.
فالبحث عن معني للحياة غربا يناظر ويفضي إلى التطرف والقسوة، جسدتها شخصية الأرملة البيضاء “أم حسين البريطانية”، وشرقا عبر شخصية “أبو أيمن” العراقي الذى رضع القسوة، وبتعبير الرواية: “نما جسده ليذيق العالم كله قسوته”، حيث فقد الأب في الحرب العراقية الإيرانية، ثم ألقي به زوج أمه إلى قسوة الشارع. لتخلص الرواية إلى النتيجة “أليست داعش هى صنيعتهم!”، حيث استغلال الضعف البشري والحاجة والحقد الذي يشتعل في الأرواح البائسة.
“روح” الرواية:
أما المفردة المركزية التي تحكم الرواية وحقلها الدلالي الرئيس فهى مفردة “الروح” ذاتها، التى تشغل المتن السردي بطول الرواية وعرضها، حيث يقدم هذا المتن خصائصها من النص الشريف في الإئتلاف والتنافر، فهناك روح تأخذ أرواحنا عنوة، وتتسلل إليها، وتقدم طرائقها في التعايش مع من تحب: “إذا توافقت الأرواح تلاشت المسافات وتعانقت الأقدار”. وأيضا: “أرواحنا تختار وأجسادنا تتبعها وليس العكس كما نتوقع”. والأرواح لا تموت في اليقين الروائي. كما أن أرواح الطيبين خضراء يانعة. كما أن العيون نوافذ الأرواح، والروح لا تكذب.
كما يقدم المتن السردي مأساة الروح الإنسانية في سحقها من خلال أنسنتها فهي تشيب من هول الطغيان، وهى مشعثة، موجوعة تئن، مشتتة، ترتعش، ومشوهة، وتغلي كالمرجل، والحريق يأكلها، والظلمة في أركانها، كما يجرى تكسير عظامها، وهى مقتولة ألف مرة دون أن تموت، حيث يشوى الإنسان على سفود الذل والمهانة حتى تفرغ روحه ويفقد وجوده معناه بتعبيرات الرواية.
الجوارح في البيان السردي:
والجوارح لها حضور في البيان السردي حيث العيون تبتلع، وشيوع ظاهرة بتر الأطراف دال القسوة، وقصد التشويه والتعذيب والعنف. ونجد أيضا ظاهرة “تراسل الحواس”: “ابتسامة لم أتذوق طعمها منذ زمن” ص 99، وفي موطن آخر: “ابتسم ابتسامة أزهرت أمامي حتى أنني شممت عبيرها” ص 47
ومن البيان اللطيف في الرواية شمول تعبير كوني وطبيعة زاخرة داخل الذات الإنسانية: “الصداع يمخر عباب الرأس ويرتطم بصخورها” والشاى يعمل على تهدئة موجه العانى.
وفي موطن مؤسف: “حاولت أن أخيط رموشي ببعضها لعلى أذوب في هذا الأتون المتقد داخلي فلا يبقي مني شيء” ص 33. وفي موطن روائي آخر شاهد نصي مشابه: “لعل هذا الدم الذى يغلى في عروقي يصهرني فلا يبقي منى شيء” ص 60
مؤشرات بلاغية لرحلة الذاكرة:
والفتنة بالمجاز إضافة إلى تجسيم الروح، تجلى في شيوع “كاف التشبيه”، وتغول تلك الفتنة في السرد، نموذجا استعمال مؤشر لفظي بلاغي لرحلة الذاكرة وتقنية الاسترجاع، نموذجا: “كثيرا ما تحملني طيور الذكري”، وفي موطن روائي آخر الراوي “أبو أيمن”: “انهالت على الذاكرة كجزء من جبل تردي فوقي”، واستعمال المؤشر البلاغي ذاته كاعلان سردي: “تعود إلى عصافير الذاكرة لتعشش علي أطلال رأسي الخرب، وقبل أن تلتهم رأسي يفتح الباب …” ص 151، وهنا إعلان سردي أن هناك قصة خلفية آتية في الطريق، كأن الرواية تقول: اصبر معي أيها القارئ، سأزيل الغموض، وأخبرك من هو أبوأيمن الذي نبت فجأة في المتن السردي في قبر مظلم.
القاموس اللغوى والقاموس النفسي المصاحب:
والرواية مفتونة بالقاموس اللغوي والمفردات الموحية في الطبيعة والجوارح جميعا، والتالي شواهد نصية معبرة: “تهدلت النجوم ثم تساقطت ليبتلعها فم النهار المخمور بلذة النوم” ص 29 / “تسقط رأسي علي صدري كزهرة فوق غصن كسيح” ص 30
كما جرى إبدال القاموس اللغوي ليطابق القاموس النفسي للشخصيات والموقف الروائي طبقا لتحريك الزمن الروائي، فالمفردات مبهجة، والتعبيرات مشرقة في رحلة الذاكرة، حتى يتجسد التضاد المفزع أمام القراء بعد الإبدال. نموذجا لقاء أشعة الشمس في الصباح (والشمس لها دور مركزي في العقيدة اليزيدية): “فشققت عيناى لتغتسل بنور الصباح الجديد الذى يصدح، معلنا رحيل الليل وذوبان نجومه”، ثم تمديد الصورة واستعمال ممكنات مجازية ملونة: خيط النهار يتسلل وزاهين تحاول كبحه والتغلب عليه وحجزه خارج الحجرة، لكنه طفل مشاكس يزيح الستائر المتهدلة ويمرق ليداعب عيناها. ص 35 “بتصرف”، وهكذا في مشهدية بيانية ممتعة أخرى حول عرس الشمس، وتحقيق التماثل السردي بين الذات والطبيعة، باقتراض بعض أشعة الشمس لتغسل الروح، وتبعث الدفء في الكيان الإنساني. وفي موطن روائي بهيج آخر-وسط بحار روائية مخيفة- “الشمس ترمق المحبين بعينيها الناعستين وهى تسير لمخدعها الليلي .. في دقائق مسروقة من نور السعادة نضيفها لحياتنا المعتمة بعيدا عن بعضنا”. ص 89 “بتصرف”
أما الصورة المقابلة طبقا للتلوين النفسي، نجد انتقال المفردات والتعبيرات بالكامل إلى طقس الكآبة: “الشمس ساطعة تنسل خيوطها من النافذة كألسنة اللهب، أيمم وجهى إليها. أستجديها دون صوت … تغطيها سحابة تحول بيني وبينها” ص 55
تجليات منوعة لظاهر “الخيمة الإنسانية”:
ومن النماذج الروائية الراقية نموذج صوبة الحماية، وفيها إلماح للعزلة الراضية، فنجد ظاهرة “الأب الخيمة”: حيث الرجل يحمي أسرته بسيوف الأحداق بتعبير الرواية، وفي بلاغة مدهشة يلقي بنفسه عليها فيتحول جسده لخيمة تتنفس.
والبيت: “البيت حضن أبي وطعام أمي، البيت وطني” ص 147، وحضور الوطن الذاتي عبر سكونه في الجوارح: “قد يكون الوطن عينين تؤمنان بك، أو قلبا يحبك، أو ذراعين تلملمان تبعثرك” ص 116
ويحضر لهذا سحر الأمكنة “سحر عجاب” بتعبير الرواية، وحديث حول معالم الأمكنة والآثار “تحت كل مكان بالعراق معلما أثريا لحضارة عريقة”، ووصف معالم بغداد وعراقتها، في فقرة ممتازة بالرواية، خاصة في حكي سيروان، فالمدخل الروائي في هذا القسم حضاري باعتبار الحضارة هى الثقافة المقتدمة المبدعة ذات الشأن الإنساني الكريم.
الخيط المشدود:
والرواية سارت على خيط مشدود، حيث الفتنة بالبيان، واستغراق الوصف للمشاعر والأماكن يصيب إيقاع السرد بالبطء، مما يؤثر أحيانا على حيوية المشهد والتصوير الحركي، وظهر هذا في مشهد هروب “زاهين” في رحلة مؤلمة، ربما التبرير يكون تحقيق هذا الزمن النفسي الثقيل.
رواية ثانية مدمجة:
كما أن القسم الروائي الأخير “سرو” الذي يشكل ثلث الرواية، فيبدو أنه رواية أخرى مدمجة في السياق السردي، صحيح أنها مشبكة بالحادث الروائي، لكن تحكمه صدفة الشبه بين سدن وسرو، وادراج الجزء التوثيقي للالحاح عن الصلة بالموضوع الروائي الرئيس، لكن الحكي الخاص بهذا القسم أبحر حول مأساة الإدمان والتصحر الأسري ومشكلة العنوسة في المجتمع المصري خاصة، وحشد تأسيس روائي جديد تماما بالتعريف بشخصيات روائية كثر نبتت في هذا الجزء من الرواية خاصة في صحيفة مصرية. وأعتقد أن التشبيك يحتاج إلي إحكام أكثر، واختصار لفقرات تربوية مباشرة، من أدب النصيحة، شاهد نصي: “يخطئ الكثير من الآباء …. نفسيا” ص 195. لكن هناك نصيحة موفقة من البوح الحكيم: “نحن من نصنع القيود باستسلامنا إما خوفا من المجتمع أو خوفا من التغيير”
عصير الرواية:
وقصدية الرواية في تأويلي تشير نحو التداوي بالحب ومشاعر التقدير ورعاية التنوع الثقافي، فهي دعوة لتقاسم الحب لا الطعام، حيث القلوب بدون أقفال: “حاجة الروح إلى وطن حتى لا تتحول إلى شوك إذا لم ترتوي الروح بالحب”. فالحب منجي، حب الحياة والسعادة والحرية بتعبير الرواية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى