أمن وإستراتيجية

حديث عن الإنسانية والبربرية

فهد المضحكي

من يتأمل أحوال العالم يجد أن أعمال العنف تزداد كمًا ونوعًا، بأشكالها المختلفة وأدواتها الفعالة، ما يكشف هشاشة الدعوات القديمة والحديثة إلى احترام المبادئ والقيم المتعلقة بالعدالة والمساواة والحرية والسلام وحقوق الإنسان. فمع الدخول في القرن الواحد والعشرين، مارست البشرية عنفًا لا نظير له من قبل.

وها نحن نعيش في هذه اللحظة في أجواء التهديد بشن حرب لو وقعت سوف تستخدم فيها أسلحة لا سابق لها من حيث قدرتها الفعالة على إحداث الدمار والهلاك. في كتابه «أزمنة الحداثة الفائقة» الصادر قبل عقدين من الزمان، يتحدث الباحث اللبناني علي حرب عن هذه المسألة الخطيرة، ولعل من المفيد هنا أن نتوقف عند بعض الافكار التي نادى بها، فهو يرى أن هذا الواقع الذي يفاجئ ويصدم، بعد عصور من التباهي بالعقل والتنوير والتقدم، يدعونا إلى إعادة التفكير فيما نحن عليه، وبصورة جذرية تطال بالمساءلة والفحص نظرتنا إلى أنفسنا وإلى سوانا من بقية الأنواع.

فطالما عرف الإنسان نفسه بوصفه عاقلاً مقابل الحيوانات التي يصفها بأنها عجماء وغير عاقلة. كذلك قدم الإنسان الحالي نفسه بوصفه متحضرًا أو مدنيًا أو متقدمًا، قياسًا على أسلافه البدائيين الذين يطردهم من مملكة العقل ويخلع عليهم صفات التوحش والهمجية.

والبشر إذ يفعلون ذلك، إنما يخدعون أنفسهم، وهنا يتساءل، فأين وحشية الحيوان من شراستنا الفتاكة وعدوانيتنا المدمرة؟! وأين همجية البدائيين من همجيتنا الحديثة والمعاصرة، حيث القتل يتم بأعصاب باردة أو باسلحة الدمار الشامل؟! اين نذهب، نحن الذين ندعي العقلانية والمدنية والتقدم، بكل هذا الطيش والحمق والجنون الذي يلغم عقولنا ويشهد على غبائنا ؟! لنعترف، إذا لم نشأ الاختباء وراء أقنعتنا المزيفة، بأن البربرية التي نستفظعها هي بالذات ثمرة إنسانيتنا التي نتباكى عليها، كما تتجسد في شهوة الجشع والتكالب أو في الاستيلاء والتفوق أو في إستراتيجية الرفض والإقصاء.

وإلا كيف نفهم أننا لا نحسن سوى انتهاك القيم التي نرفع لواءها؟ أو إساءة استعمال القوانين التي ندعو إلى احترامها؟ كيف نفسر هذا الإخفاق المتواصل في ترجمة قيم التعايش والتعارف والتواصل؟ لم تعد تجدي التفسيرات المثالية السائدة التي تقول لنا إن ما نمارسه من عنف وإرهاب وبربرية، إنما هو إنحراف عن الصراط المستقيم أو طعن للقيم الإنسانية الخلقية أو الدينية.

مثل هذا التفسير يحجب ويموه أكثر مما يكشف ويفسر. الأجدى أن نفكر بطريقة مختلفة، من أجل تشخيص الآفة وفهم العلة، بحيث نقتحم ما نستبعده من مجال السؤال والكشف. فما نتمسك به أو نعمل على إنقاذه، هو الذي يصنع الأزمة والكارثة، بقدر ما يجعلنا نبرئ الذات والداخل لكي نرمي التهمة على الغير والخارج، بإخراج أنفسنا من عالم الحيوان، أو بالتستر على أصولنا البدائية، أو بالنظر إلى الٱخر من أبناء جنسنا بوصفه الأدنى الذي يستدعي الإدانة.

فالمشكلة، في رأيه تكمن في وجهها المثلث: أولاً في مركزيتنا البشرية التي تبيح لنا تسخير الحيوان وتعذيبه وقتله، ثانيًا في تصنيفنا الحضارية التي تجعلنا نتهم البدائيين بما نمارسه أضعافًا مضاعفة من الفظائع والمظالم، ثالثًا في نرجستنا الثقافية التي تتجسد في أحادية التفكير وديكتاتورية الحقيقة وأرهاب الأصل وصفاء الهوية، وكما نترجم ذلك على سبيل القهر للٱخر أو استتباعه أو نبذه واستئصاله بعد وصمه بالكفر والشر أو التخلف والرجعية أو الإرهاب والبربرية.

وهكذا فما نحاربه ونستبعده، والذي يحتاج أساسًا إلى تشريح وتفكيك أو إلى كشف وتعرية، إنما هو حصيلة لقيمنا الإنسانية ومعاييرنا الخلقية، أو لأصولنا العقائدية ونماذجنا الثقافية او لمسابقاتنا الفكرية ومؤسساتنا العقلية والرمزية. على هذا المستوى من النظر والمكاشفة، لا يخشى المرء القول بأن من نرهبهم ونبرئ ساحتنا بالتهجم عليهم أمثال نيرون والحجاج وغوبلز، إنما هم وجوهنا الخفية والغائرة، لأنهم يشكلون الهوامات والصور والنماذج المسجلة في شيفرتنا الثقافية المتحكمة في مشاريعنا واقوالنا وافعالنا، وعلى النحو الذي يجعل الواحد يقول بغير ما يفكر فيه، أو يقوض ما يصرح به، أو ينتهك ما يدعو إليه، أو يدعي ما لا يفكر فيه، أو يستنكر ما هو ما بنات فكره وصنع عقله.

وتلك مخاتلة الرغبات وعتمة الممارسات وحجب المقولات والتباس الخطابات. فهي التي تفسر لنا كيف أن إرادة التأله والتفرد تعمل من وراء الدعوات والمشاربع التحررية والمساواتية والعقلانية، لكي تقود الواحد إلى أن يتصرف بوصفه حاكمًا إذا كان سياسيًا، أو لكي تحمله على أن يفكر بوصفه وحيد عصره وفريد مجاله الذي لا ند له على ساحته، إذا كان مثقفًا، شاعرًا أوفنانًا أو فيلسوفًا أو كاهنًا…

وما يأخذه المثقفون من دعاة الحرية والعدالة، على الساسة، يمارسونه أكثر منهم، ولكن بأدواتهم الرمزية وأسلحتهم الفكرية. ولعلهم الأكثر مبكرًا وخداعًا وتمويهًا، لأنهم الأكثر أدعاء في ما يعلنونه ويطرحونه، كما هو الحال لدى الذي يدعي بأن الله اختاره، من بين الناس، وفضله من أجل إنقاذهم وتنويرهم وهدايتهم وتحريرهم من العبودية. أو الذي يدعي بأنه قدر البشرية الذي اكتشف الطريق السوي الذي لم يكتشفه أحد من قبل، كما ادعى نيتشه، وتلك هي المفارقة الفاضحة. والساحة الثقافية أبلغ شاهد، عند من يتأمل الممارسات، على إرادة التأله والانفراد أو بالعكس على إرادة التهميش والاستبعاد.

يتجلى ذلك لدى البعض في التهافت على الألقاب والجوائز وحفلات التكريم، كما يتجلى في سلوك التعبد لدى البعض الٱخر تجاه من يعتبرونه المؤسس أو القطب والمرجع في حقله ومجاله. هذا في حين أن من يصنعون لنا الحياة بعرقهم وجهدهم وإنتاجهم لما نحتاج اليه أمس الحاجة، لا ينالون الأدنى من الحق والرعاية والكرامة وسد الحاجة، بقدر ما تبقى حياتهم مغمورة في الظل وفي العالم الخلفي أو السفلي. فيا لها من بربرية نمارسها ولا نراها وسط الرؤية.

في المقابل، يرى أن البربرية المعاصرة تتجسد في العنف الأعمى، الذي يضرب في غير مكانه من القرية الكونية، هي الوجه الآخر للكوارث الناجمة عن التطور الحضاري والتقني. كما تحقق على نحو لا سباق له من قبل. وإذا كان العنف يزداد وينتشر بانتشار وسائل الاتصال وإتقان أدوات الدمار، فإن الاختراعات الخطيرة والتقنيات الفائقة باتت مصدرًا للمخاطر التي تهدد الحياة والارض معًا، الأمر الذي يجعلنا ننتظر الكوارث بقدر ما نتعايش مع الأزمات.

وهكذا فالإنسان يكاد يعيش على الحافة، بانتظار أن تقع الكارثة، ليس فقط من جانب عملاء الإرهاب الذين يحصدون الأبرياء، بل أيضًا وخاصة جراء المشاريع العلمية والمجالات الاقتصادية أو الانمائية. هذا ما تشهد به الوقائع، على سبيل المثال لا الحصر، كارثة تشرنوبيل النووية. بهذا المعنى لا تنتج الكوارث عن التعصب والحقد أو عن الحمق والجنون وحسب، وأنما هي أيضا ثمرة سيئة للتطور الهائل في العلوم والتقنيات، تشهد التداعيات الخطيرة والٱثار المدمرة لعلوم كالذرة والجرثومة الوراثية، سواء منها ما جرب وظهرت نتائجه، أما ما هو قيد التجربة والتحقق.

ولا عجب فالإنسان، العالم والصانع، يجهل بقدر ما يعرف، ويدمر ما يصنع ويعمر. صحيح أن لهذه العلوم مردودها الإيجابي والبناء النافع في مجالات كثيرة كالطاقة والصناعة والصحة، ولكنها ذات نتائج خطيرة ومفزعة، كما ينذرنا تلويث البيئة والمجال الجوي، وكما تؤكد لنا أسلحة الدمار الشامل النووية أو الجرثومية والكيميائية. هذا فضلاً عن إمكانية التلاعب بخارطة الكائنات الحية وتغير لوحة الأنواع كما تشهد عمليات التهجين والاستنساخ. الأمر الذي يدفع المعنيين من الساسة وعلماء اللاهوت والفلاسفة إلى مناقشة هذه المسألة المرعبة، من حيث تأثيرها الكارثي على مصير الإنسان ومستقبل الحياة.

وإذا كانت هذه مفاعيل الهندسة الوراثية، ومن قبلها القنبلة النووية والأسلحة الجرثومية، فهذا أيضًا واقع القنبلة المعلوماتية التي هي ثمرة الأرقام والاتصالات، فلها بدورها جراثيمها وكوارثها التي تهدد شبكات الاتصال ومجتمع المعلومات بأسوأ العواقب. وهكذا فإن إعادة النظر في مفهومنا للكوارث لا تقوم، في رأيه، على استبعادها من خلال لعبة الذهن المجردة، أو من خلال رسم سيناريوهات الحتمية، بل التعامل معها كمعطى وجودي، ليس هو سوى ما يمكن أن نصنعه به.

فمنطق الاستبعاد مآله تفاقم المشكلات.الأجدى قراءة الأحداث والمعطيات بفكر تركيبي من أجل تشخيصها وتدبرها بلغاتها المفهومية وصيغها العقلانية. فأين نحن في العالم العربي من الكوارث التي تحدق بنا، سواء منها الطبيعة أو البشرية التي هي من صنع عقولنا وأيدينا أو ثمرة تقنياتنا وأجهزتنا؟ الأغلب والأعم أننا نتعامل مع هذه المسألة بعقلية المؤامرة الٱتية بالخارج، أو بلغة التبربر الأيديولوجي والتهويل الديني أو التشبيح القومي، بحيث نتعامى عن المشكلة ونتهرب من المسؤولية، لكي نصحد المزيد من الكوارث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى