تعاليقرأي

حب بين أحضان الموت

ضياء محسن الاسدي


(( نشأ الطفل أحمد المدلل في ظل رعاية والده يتيما من الأم التي تركت بعد رحيلها فراغا
مؤلما للعائلة وصدمة خصوصا أحمد الذي لم يحضا بحنانها إلا قليلا ولم يذكر منها شيئا إلا
صورها المعلقة بين أرجاء البيت في مدينة صغيرة حيث كان ذكيا منذ الصغر متفوقا في حياته
مستقيما ذو أخلاق عالية من التربية وحسن المعشر كما أراد له أباه أن يكون زرع فيه البذرة
الطيبة والخير والصلاح بتعب وكد وقد حصد منها ما زرع وهو يشاهد ولده ينمو ويكبر ويتسلق
سلم النجاح في حياته درجة بعد أخرى وفي يوم من الأيام أراد الأب الاستعداد للسفر مع أحمد
إلى عمه الذي لا يعرف عنه شيئا ولم يشاهده يوما ما من قبل وبالفعل وصلا بيت عمه إلا أنه
تفاجأ بعمه وطريقة معاملته الغليظة لوالده والتصرف الغير لائق لكلاهما وقف أحمد بلا حراك
من الصدمة والدهشة التي لم يتوقعها وخصوصا أنها كانت الزيارة الأولى له كان يتوقع منها
الحنان والعطف ومشهد الذل لوالده والتوسل لعمه في سبيل الرضا عنه وتجاوز الماضي لكن
بدون جدوى قفل والده راجعا والخيبة بادية على وجههما ولم يتجرأ أحمد سؤال والده والتحري
عن الأمر وكتمه في صدره الذي يغلي كالبركان ومرت الأيام والسر مدفون في صدر والده
حتى وافته المنية وأنتقل إلى جوار ربه وظل أحمد وحيدا لا يعرف من يلجأ إليه ويستقر عنده إلا
أن يحاول ثانية في استرضاء عمه عسى أن ينسى الماضي مع والده ويستفاد من إمكاناته المادية
وثروته ويتزوج من أبنت عمه معتمدا على ذكائه وسمعته الذي يشهد لها القاصي والداني ليكون
أسرة جديدة تحمل أسم العائلة تُبنى على الحب والتفاهم والسعادة بعيدا عن الخلافات التي
عصفت بين العائلتين كان كله أملا في عمه وخصوصا أنه قد عرف أبن أخيه جيدا وسيكون
سعيدا إذا أختاره زوجا لأبنته لخلقه وقرابته أستطاع أن يلتقي بعمه ويطرح عليه الفكرة فكان
الرد قاسيا جدا ومعنف وبدون رحمة في الرفض على العكس من موقف أبنته التي رحبت
بالأمر وقد كادت أن تطير فرحا حيث أحست أنه سيكون زوجا مثاليا ومناسبا لها كانت
متمسكة بهذا العرض وبشدة على خلاف والدها لما عرفت عنه من المواصفات الزوجية التي
تتمناها كل فتاة وليس كمثله ممن تقدموا لها طمعا بثروتها ومكانة أبيها وقد شغفها حبا وتعلقا
بهذا الحب لكن سرعان ما تبددت آمالها وتحطمت على صخرة كبرياء وجبروت أبيها الذي لم
يستطع مغادرة صفحة وسطوت الماضي مع أخيه أبو أحمد وحال بين قلب العاشقين وشاءت
الأقدار عكس مجريات حبهما وهبت ريح الفراق ثانية من خلال باب آخر فُتح لهما حين اكتشفت
أنها مصابة بمرض خطير وخبيث أرقدها الفراش وبمرور الزمن ثقُل عليها الحال كل ذلك أمام
أحمد الذي وقف عاجزا أمام هذه الأحداث المصيرية قرر عمه نقل أبنته إلى أحدى المستشفيات
في الخارج حينها زادت معانات أحمد وحبيبته غادرت ساحة حياته ومرتع روحه وزهرة عمره
وأحس بغربة قاسية في غيابها فقرر السفر إليها ليكون بجانبها في معضلتها ولن يتخلى عنها في

محنتها هذه عرفانا منه بحبها وتأكيدا عليه فكان بجوار سريرها معظم الأوقات يرعاها ويسلي
غربتها وآلامها وهي تجد معه السلوى والطمأنينة والمرض يُثقل كاهلها يوميا وأن قواها تخور
كانت منذ أيام الجدار والحصن الذي فكر في اللجوء إليه وأملا أن يكون قلبها البيت الحنون
الذي يختبأ فيه من غدر الزمان إلا أن حلمه تبدد قد سرقته الأيام على حين غرة . نظر من حوله
رأى نفسه وحيدا في هذه الدنيا التي غادرها أبيه وأمه من قبل وخسر عمه والآن حبيبته يخطفها
المرض وفي ذات يوم وهو بجوار سريرها يمتع نظره بوجهها الملائكي وكفه ماسكة كفها شعر
ببرودة جسدها الذي أزداد سحبت كفه برقتها المعهودة وابتسامتها التي لم تفارق وجهها العريض
الأبيض المكفهر وضمتها إلى صدرها المتسارع في الضربات ويدور الصمت المخيف بينهما
وتوقف الكلام وبلغت القلوب الحناجر وبدأت لغة العيون والقلوب تتكلم وتتحاور وهي تسطر
أروع العبارات بحبر من الدموع المتساقطة على خديهما بعدما خفت دقات قلبها وخارت قواها
أشارت إليه بعيون دامعة تدور في محاجرها تخالطها نظرات على من حولها كأنها مودعة
الحياة قريبا أنحنى إلى فمها فقالت بصوت دافئ حنين أحمد تعرف أني كم أحببتك وأنا أعلم كم
تحبني لكن الموت مفرق الأحبة ولا يستأذن أحدا أوصيك أن تبقى تحبني وتتزوج من بعدي
وتسمي أبنتك على أسمي كي تبقى ذكراي في أرجاء البيت وفي روحك وعلى مسامعك وما هي
إلا لحظات من الصمت حتى فارقت روحها جسدها تاركة الدنيا بين أحضان الموت الذي
أنتظرها لتضع خاتمة حياتها حزنا عميقا في قلب أحمد ))

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى