أحوال عربيةأخبار العالم

جمال عبد الناصر .. والسنة العجيبة !

أحمد فاروق عباس

تمثل سنة ١٩٦٥ سنة صعبة وكاشفة في عصر عبد الناصر كله ، وما حدث خلال تلك السنة يلخص ويوضح لماذا حدث ما حدث فى ١٩٦٧ ..

دخل عبد الناصر سنة ١٩٦٥ ودخلت مصر معه وهناك تقارب متزايد بينها وبين الاتحاد السوفيتى ، تمثل فى زيارة نيكيتا خروشوف إلى مصر فى مايو ١٩٦٤ ، وإطلاق سراح الشيوعيين المصريين فى بداية ٦٤ ووصولهم إلى مناصب مهمة فى التنظيم السياسى وفى الجهاز الاعلامى ، وهو ما لفت نظر أمريكا وأزعجها ..

ومن ناحية اخرى كان وقوف مصر القوى ضد حلفاء واشنطن المقربين داعياً إلى زيادة غضب أمريكا :

أ – وقفت مصر لإسرائيل في تحويل مياه نهر الاردن ، ودعت إلى أكثر من مؤتمر قمة عربي لبحث الأمر جماعياً ( مؤتمر القمة العربية فى القاهرة في يناير ١٩٦٤ – ثم مؤتمر القمة فى الإسكندرية فى سبتمبر ١٩٦٤ – ومؤتمر القمة في الدار البيضاء فى سبتمبر ١٩٦٥ ) وخلصت تلك المؤتمرات إلى سبل مواجهة إسرائيل إذا استمرت فى تحويل مياه نهر الاردن..

ب – قطعت مصر ووراءها أغلب العالم العربي العلاقات مع ألمانيا الغربية بعد صفقة السلاح مع إسرائيل ..

ج – وقوف مصر بصلابة ضد بريطانيا واستعمارها للجنوب العربي ( عدن وعُمان ومشيخات الخليج ) ..

د – وكان تصميم عبد الناصر على دخول مصر عصر الذرة ، وإنشاء المفاعل الذرى المصرى فى انشاص قد أوصل الغرب إلى مرحلة لم يعد فيها قادرا على السكوت على عبد الناصر ..

.. ماذا فعل الغرب وأمريكا ؟
وماذا كان لديهم من وسائل ؟!

الغريب أن إستخدام الوسائل كلها جاء في فترة واحدة – لعل واحدة منها تستطيع إنهاء الأمر – وهى فترة النصف الأول من ١٩٦٥ ، مما يقطع أن الفاعل والمدبر وراءها كلها واحد !

وكانت الوسائل التي استخدمتها أمريكا كالأتى :

١ – مصطفى أمين ، كجامع للمعلومات عن الأحوال الاقتصادية والعسكرية ، وقصته معروفة ، وملخصها أنه تخابر مع بروس تايلور اوديل رجل المخابرات الأمريكية في القاهرة ، وأمده بأسرار سياسية واقتصادية وعسكرية هامة بحكم رئاسة لأخبار اليوم وقربه من مصادر صنع القرار في مصر ، وقبض عليه فى ٢١ يوليو ١٩٦٥ ..

٢ إيقاف شحنات القمح لمصر : قررت أمريكا فى يوليو ١٩٦٥ إيقاف ما كانت تقدمه من قمح لمصر بأسعار ميسرة ، مثلما كانت تفعل مع الهند وغيرها ، وكانت تلك ضربة موجعة لمصر ، أدت بها إلى مشاكل اقتصادية كبيرة فى النصف الثاني من ١٩٦٥ وطوال ١٩٦٦ ، وتقرر طبقاً لذلك تغيير حكومة على صبري فى أكتوبر ٦٥ بحكومة زكريا محى الدين ، ثم تغييرها بحكومة صدقى سليمان عام ١٩٦٦ !!

٣ – قضية التنظيم المسلح الذى يقوده حسين توفيق ، وهو رجل أُتهم في الأربعينات بقتل وزير المالية أمين عثمان ، وبعد القبض عليه هرب إلى سوريا ولم يرجع إلى مصر إلا عام ١٩٥٧ ، وكانت له ملاحظات على الوضع العام فى البلاد ، وفى عام ١٩٦٤ قرر تكوين تنظيم مسلح وقتل عبد الناصر وأعضاء حكومته ، وأنشأ صلة بالتنظيم السرى للإخوان المسلمين وقتها لتنسيق العمل ..

٤ – قضية الإخوان المسلمين : وهى قضية مشهورة أيضاً وملخصها ، أن عبد الناصر أفرج عام ١٩٦٤عن المتبقى من الإخوان المسلمين مما كانت لهم علاقة بحادثة اغتياله عام ١٩٥٤ ، وكعادة الإخوان سرعان ما أعادوا تكوين التنظيم السرى المسلح ، وكان سعيد رمضان – مدير المركز الإسلامى بجنيف وزوج بنت حسن البنا وأحد أقرب المقربين إليه قبل وفاته – هو الصلة بين تنظيم الإخوان فى الداخل وبين المخابرات الأمريكية ، وكانت للسيدة زينب الغزالى دورها المهم كصلة بين سعيد رمضان واقطاب التنظيم فى القاهرة والمحافظات ، والمحصلة أنهم قرروا إغتيال عبد الناصر والاستيلاء على الحكم ، وقبض على التنظيم واعدم منظره وقائده سيد قطب ..

٥ – مصطفى الأغا وتكوين الحزب الشيوعى العربى ، ومصطفى الأغا محامى شيوعى ، كانت له آراء معارضة، أسس الحزب الشيوعى العربى عام ١٩٦٤ واستطاع أن يضم إليه عقيد في الجيش ورجل شرطة سابق وصحفيين وغيرهم ، وكان تخطيطه أيضاً عمل انقلاب عسكري ، وعمل محاكمة لعبد الناصر وأركان حكمه ، وعدد الأهرام يوم الأربعاء ٨ ديسمبر ١٩٦٥ به تفاصيل كثيرة ووافية عن قضية حسين توفيق وتنظيمه وقضية مصطفى الأغا وحزبه الشيوعى العربى …

وكانت قضية الحزب الشيوعى الجديد تعيد بصورة غريبة ما كان يحدث وقتها فى إندونيسيا ، وفى نفس التوقيت !!

كان أحمد سوكارنو أحد قادة العالم الثالث وبطل الاستقلال فى إندونيسيا ، وكان مناهضاً بشدة للسياسة الأمريكية والبريطانية في آسيا ، وفى منتصف عام ١٩٦٥ أعلن أن إندونيسيا – حفاظا على أمنها – ستنتج القنبلة الذرية خلال شهور ، وتنبهت حواس الغرب فوراً لما أعلنه سوكارنو وما ينوى فعله ، ولم يمضى شهرين حتى تعرض سوكارنو لمحاولة اغتيال نجا منها ..
وفى اواخر سبتمبر ١٩٦٥ حدثت محاولة انقلاب فى إندونيسيا هدفها إزاحة سوكارنو والاستيلاء على الحكم ..

وكانت المفاجأة الكبرى أن الحزب الشيوعى الإندونيسي – وهو أكبر حزب شيوعى فى آسيا من خارج الكتلة الشيوعية – هو من كان وراء محاولة الانقلاب !!
وضد من ؟ ضد أقوى المناهضين للسياسة الأمريكية في آسيا وبطل التحرير في إندونيسيا ، وبسبب ما حدث حصلت اضطرابات كبرى في إندونيسيا تحولت إلى حرب أهلية ، إنتهت – كما أراد الغرب – بازاحة سوكارنو من حكم إندونيسيا !!

نجا عبد الناصر من كل تلك الفخاخ ، نجا من الإخوان وتنظيمهم الارهابى ، ومن الحرب الاقتصادية وإيقاف مساعدات القمح ، ونجا من حسين توفيق وتنظيمه المسلح ، ومن الحزب الشيوعى العربى وقائده مصطفى الأغا ورجاله في الجيش ، ولكن لم يستطع النجاة من فخ إسرائيل ، ولأن القاصد غالب ، وقع فيما حذر منه هو شخصيا فى عام ١٩٦٥ أيضا من أننا لا يجب أن ننساق وراء إسرائيل فى معركة تختار هى زمانها ومكانها !!
ولكن – كما يقولون – ساعة القدر يعمى البصر !!

لا يبرر ذلك اطلاقا أخطاء وقع فيها عبد الناصر فى إدارة أزمة ١٩٦٧ ، وعلى اية حال فالرجل بنفسه اعترف بأخطاءه علنا ..

دراسة ما حدث فى عامى ١٩٦٤ و ١٩٦٥ واجبة لفهم طبيعة دور عبد الناصر ، وكيف ولماذا ذهبنا إلى هزيمة ٦٧ ..
وبدون فهم ما حدث خلال ذلك العامين من المستحيل فهم شئ حقيقي عن طبيعة ذلك العصر وطبيعة دور عبد الناصر ودور مصر فى عهده ..

وسنظل نردد الاكليشيهات المعتادة والمضحكة من أن سبب ما حدث فى عام ٦٧ هو نقص الديموقراطية ( كأن هزيمة فرنسا أمام بسمارك عام ١٨٧٠ ، وهزيمتها مرة ثانية أمام هتلر عام ١٩٤٠ كان بسبب نقص الديموقراطية ؟! وقد كانت فرنسا دولة ديموقراطية في الحالتين وتحارب دولة استبدادية !! )
أو كأن أمريكا – وهى دولة عظمى- عندما هُزمت من فيتنام كانت تعانى نقصا في الديموقراطية !!

أو سنظل نردد ما يقوله الإخوان من أن ما حدث عام ٦٧ سببه البعد عن الله ، وكأن من كنا نحاربه عام ٦٧ – وهى إسرائيل – صلتها بالله لم يكن دونها حجاب !!

القصة ان مصر وقفت أمام الغرب وأمريكا ، وجربت أمريكا وسائل كثيرة للعقاب ، وفى النهاية نجحت واحدة من تلك الوسائل ، وانتهت تجربة من أعظم تجارب النمو والعزيمة في تاريخ مصر وتاريخ العالم الثالث .
تلك هى القصة ببساطة …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى