دراسات و تحقيقاتفي الواجهة

جذور القوة الأمريكية: المجازر والعبودية

الطاهر المعز

الولايات المتحدة- من العبودية إلى الرأسمالية

كيف أصبحت الولايات المتحدة قُوّة عُظْمى رغم حداثة نُشُوئها، وكيف تطورت بها الرأسمالية بسرعة غريبة إلى درجة الهيمنة على أوروبا ذات التي نشأت بها الرأسمالية والثورة الصناعية والثورات ضد الإقطاع؟
لا تتوانى الرأسمالية في إظهار وحشيتها، خصوصًا عندما تكون مصالحها مُهَدَّدَة، لكن الرأسمالية الأمريكية أشَدّ تَجَبُّرًا ووحشية لأنها نبعت مُباشرة من إبادة السّكّان الأصليين والإستيلاء على أراضيهم ( فكان الأمريكيون قُدْوَةً للصهاينة)، ومن عرق السُّود المُسْتَعْبَدِين في المزارع، وفق مقال نشره مُلحق صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 18 نيسان/ابريل 2019، بعنوان “لِفِهْم الرأسمالية (الأمريكية) وجب الإنطلاق من المزارع”
“نحن نعيش في مجتمع رأسمالي، في نظام رأسمالي بقواعد رأسمالية،” وفقًا للملياردير وارن بافيت، وفي المجتمع الرأسمالي، تكون الأجور منخفضة لأن الشركات تكافح من أجل طرح السّلع في الأسواق بسعر “مُنافِس”، أي منخفض للتجار وليس للمستهلكين، وليس من أجل جودة المنتجات، كما تسود عدم المساواة وينتشر الفقر في هذه المجتمعات الرأسمالية المتطورة، ففي الولايات المتحدة، يمتلك 1% من الأمريكيين نحو 40% من ثروة البلاد، وهناك عدد قياسي من الأشخاص في سن العمل (18-65) يعيشون في فقر، يفوق عددهم ونسبتهم أي دولة أخرى وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD ) %10 فقط من الموظفين ولا ينتمي إلى النقابات سوى 10% من العاملين الأمريكيين، لأن معظم العاملين غير مثبتين، يعملون بعقود هشّة، أو لأن الشركات وأرباب العمل تُهدّد من يحاول تأسيس نقابة أو الإنتماء إلى نقابة (تسمح اتفاقيات العمل الجماعية للعمال المنتمين إلى نقابة بالتمتع ببعض المكاسب التي لا يتمتع بها غير المنتمين إلى نقابات)، كما انتشر العمل بدوام جزئي، وتمنح التشريعات الأمريكية لأصحاب العمل العديد من التسهيلات لفصل الموظف، بتعويض ضئيل للغاية أو بدون تعويض. ما أسباب هذا التّخلّف الإجتماعي والتشريعي؟
ولدت الرأسمالية الأمريكية من تراكم رأس المال الناتج عن عمل العبيد في حقول القطن في جورجيا وألاباما وغيرها حيث كانت العبودية مصدر ثروة هائلة، فقد كان عدد الأثرياء، عشية الحرب الأهلية، في وادي المسيسيبي أكثر من أي مكان آخر في الولايات المتحدة، وكان القطن الذي يزرعه ويقطفه العمال المستعْبَدُون هو يُشكل الصادرات الأكثر قيمة في البلاد، وتجاوزت القيمة الإجمالية للعبيد قيمة جميع خطوط السكك الحديدية وجميع المصانع في الدولة، واستفادت “نيو أورلينز”، مهد العبودية، من كثافة تركيز رأس المال المصرفي أكثر من نيويورك…
إن سبب ازدهار اقتصاد القطن في الولايات المتحدة، أكثر من أي جزء آخر من العالم، يتمتع بمناخ وتربة مناسبين لهذا المحصول، هو الإستغلال اللمجاني للأرض التي تمت مصادرتها من أهل البلاد الأصليين، واستغلالها بفضل القوة العاملة المجانية للعبيد السود، حيث ساعدت العبودية، خلال 80 عامًا، في تحويل بلد فقير وناشئ إلى عملاق اقتصادي ومالي، ولا يزال تأثير العبودية ظاهرًا في الاقتصاد الأمريكي، ف”العبودية هي بالتّأكيد في الحمض النووي للرأسمالية الأمريكية”، وفقًا للمؤرِّخَيْنِ “سفين بيكيرت” و “سيث روكمان”.
كان العبيد من الرجال والنساء والأطفال يقطفون القطن ويضعونه في كيس معلق حول أعناقهم، تحت مراقبة المشرفين على ظهور الخيل، ويتم تكليف الأطفال الصغار جدّا بجلب الماء، وتوزيعه على العاملين والعاملات، ويتم وزن محصول كل عامل بعد غروب الشمس “عندما يعجز الإنسان عن تمييز الأعشاب الضارة عن نباتات القطن”، فإذا كان الحصاد خفيفًا، يُعاقَبُ اللعبد بالجَلْد.
حتى نهاية القرن الثامن عشر، قبل تطور عملية تصنيع القطن، كان الناس يرتدون ملابس صوفية أو كتانية، وفي القرن التاسع عشر تم تعميم استخدام القطن في صُنع الملابس وفي المستشفيات وفي صناعة الصابون الخ، ليصبح القطن أحد أكثر المواد الخام تداولًا في العالم في القرن التاسع عشر، وهو مصدر للثروة والسلطة. أما الوجه الآخر لهذا الإزدهار فيتمثل في أن زراعة القطن تؤدي إلى إفقار الأرض التي حصل عليها المستوطنون البيض مجانًا بعد مصادرتها بالقوة وارتكاب المجازر ضد أصحابها وأصحاب البلاد الشرعيين، واحتلَّ المُستوطنون جورجيا وألاباما وتينيسي وفلوريدا، وغيرها، تم بيع الأراضي المصادرة بأسعار منخفضة للمستوطنين البيض فقط، ومن هنا تولّدت المضاربة بالأرض وأصبح المضاربون على الأرض من أكبر الأثرياء، واقتحمت الشركات العاملة في ولاية ميسيسيبي ميدان المُضاربة فاشترت الأرض وأعادتْ بيْعها بعد شرائها بفترة وجيزة، مقابل ضعف السعر تقريبًا.
أما الميزة السلبية الثانية فهي التالية: بعد قطف القطن يجب أن يتم حلج القطن (إزالة الحبوب) وتنظيفه، مما يُؤدى إلى إبطاء وتيرة عمليات الإستغلال، قبل اختراع (محلج القطن)، وهي آلة حلج القطن، أي نزع الحبوب، حوالي سنة 1790، ومكّنت هذه الآلات من تسريع وتيرة مُعالجة القطن، واحتاج المالكون إلى أراضي جديدة لم يتم استغلالها بعدُ ( لأن زراعة القطن تؤدي إلى إفقار الأرض كما ذكرنا آنفًا) ولتوسيع مساحة الحقول وإيجاد أراضٍ جديدة لم تكن تربتها قد أفقرت بعد بزراعة القطن، أمر الملاك العبيد بقطع الأشجار بالفأس، وحرق الشجيرات، وتسوية الأرض لزراعة محصول واحد هو القطن.
بعد تدمير للغابات، تعدّدت الفيضانات وأدى نقص التنوع البيولوجي إلى استنفاد التربة، ولكن أصبحت زراعة القطن واحدة من أكثر الزراعات رِبْحيةً في العالم، كما أصبحت الولايات المتحدة تعتمد في غذائها على الخارج، وفقًا للمؤرخ والتر جونسون.
أنْتَجَت البلاد، سنة 1831، حوالي نصف محصول القطن الخام في العالم، أي 160 مليون كيلوغرام وارتفع المحصول إلى 230 مليون كيلوغرام سنة 1835، وكان القطن مصدر ثروة كبيرة للنخب البيضاء في الجنوب، التي ترسل الإنتاج إلى نظرائها في الشمال ، الذين تزيد ثرواتهم بدورهم، بدورهم من خلال تصنيع القطن بمعامل النسيج، وبذلك أدت زراعة القطن على نطاق واسع إلى تسريع الثورة الصناعية وغيرت مجرى التاريخ، ففي سنة 1810، كان هناك 87 ألف مغزل للقطن في أمريكا وارتفع العدد سنة 1860 إلى خمسة ملايين، وبذلك كانت العبودية مصدر التطور الرأسمالي في الولايات المتحدة، إذ تتطلب زيادة الصادرات، إنتاج كميات كبيرة من القطن، ويتطلب تصنيع المنسوجات، تحرير حركة رأس المال والعمالة والسلع، كما يتطلب ذلك تطوير وسائل النقل، وخاصة السكك الحديدية والنقل البحري، وهو ما حصل بالولايات المتحدة، ليزيد من تَوَسُّع الاقتصاد الرأسمالي ليس بالولايات المتحدة لوحدها بل في مناطق أخرى من العالم ( انظر تطور رأس المال المالي البريطاني ضمن فقرة لاحقة) وهكذا تطورت القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، محليًا وعالميًا، بفضل العمل القسري لملايين العبيد السود في المزارع.
لتأكيد دَوْر هذه المزارع الكبرى في تطور الرأسمالية نُذَكِّرُ بِنَشْرِ العديد من كتيبات تقنيات المحاسبة الجديدة في بداية القرن التاسع عشر، لتعظيم العوائد، ولكن أيضًا لتكثيف الرقابة ومنع ثورات العبيد، حيث أراد المزارعون الأمريكيون تجنب تكرار ثورة العبيد بسان دومينغ (هايتي الحالية) الذين حملوا السلاح سنة 1791 وطردوا العديد من البيض، مالكي العبيد، الذين استقروا بعد ذلك في الولايات المتحدة.
كان المنطق الرأسمالي والانضباط والمراقبة الدائمة، سائدًا منذ القرن الثامن عشر في حقول القطن، إذْ تم وضع أسرع العبيد في رأس الصف، مما أجبر أولئك من كانوا وراءهم على قطف القطن بنفس الوتيرة، وسمح تنظيم عمل العبيد في صفوف طويلة جدًا، بتحديد أولئك الذين يتخلفون عن العمل بالسرعة المطلوبة، وعندما يمرض العبيد أو يتقدمون في السن أو أثناء فترات الحَمْل، يتم تغيير مواقع عملهم، ونظم أحد مالكي المزارع “فريق تغذية” للأمهات المرضعات لربح الوقت، بالإضافة إلى تكوين “فريق الحصبة” الذي يقوم على الفور بفرض الحجر الصحي على المرضى الذين يستمرون في العمل بعيدًا عن البقية…
تبادل المالكون التجارب والنصائح حول جميع جوانب أحسن الوسائل لإدارة المزارع، بما في ذلك الوجبات الغذائية وملابس العبيد واللّهجة التي يجب أن يستخدمها السيد لتوزيع الأوامر بشكل يترك انطباعًا بأن ما يقوله السّيّد هو نتيجة تفكير رزين، وهو قَطْعِي ونهائي، لا يمكن نقاشه.
أما عن أساليب الإدارة ( managment ) فقد سبق مزارع الرقيق المصانع في تطبيق أساليب المحاسبة (accounting ) العلمية، بهدف زيادة فعالية معسكرات العبيد الكبيرة، وكان العبيد السود أول عمال أمريكا المعاصرة، إذ أدّى تطبيق هذه الأساليب إلى زيادة إنتاجيتهم بمعدل مذهل، ولم تتبَنَّى مصانع الشمال هذه التقنيات إلا بعد عقود من تحرير العبيد، وقد زاد حجم الإنتاج اليومي لمحصول القطن للعبد الواحد، خلال العقود الستة التي سبقت الحرب الأهلية الأمريكية، بنسبة 2,3% سنويًا، وبذلك زاد متوسط حصاد الرقيق بنسبة 400% بين سَنَتَيْ 1801 و 1862.
كتب هنري واتسون، سنة 1848، وهو عبد سابق: “كان لكل عبد عدد ثابت من كمية القطن التي وجب عليه قطفها، وفي حال نقص الإنتاج يتم جلد العبد بما يتناسب مع النّقص، وكان المشرفون يعرفون جيدًا قدرات كل عبد، وقد خصصوا لكل عبد حصة معينة، فإذا لم يستوف العبد هذه الحصة، يتعرض للضرب، وإذا تجاوز الحصة، يتعين عليه إنتاج نفس الحجم في الأيام التالية … تزيد العقوبات وتنخفض وفقًا لتقلبات السوق العالمية، فعندما ينخفض الطلب العالمي تنخفض حصة كل عبد ويحصل العكس عندما يرتفع الطلب العالمي”، وفي سنة 1854، نشر العبد الهارب جون براون ذكرياته عن قطف القطن: “عندما ترتفع الأسعار في السوق الإنغليزية، يشعر العبيد على الفور بالآثار، يتشدد المشرفون ويزداد استخدام السوط الذي لا يتوقف عن ضربهم…”
كانت زراعة القطن أول عمل تجاري واسع النطاف في أمريكا، وكانت المراقبة اللّصيقة للعبيد هي “بيغ براذر” ذلك الزمن، حيث اعتمد الاقتصاد الأمريكي على وحشية وتعذيب العبيد، لكن العنف لم يكن تعسفياً ولا بلا مبرر، بل كان عُنْفًا عقلانيًّا، هادفا، تمامًا مثل عُنف الرأسمالية، فقد كان العُنف المستمر جزءًا من تنظيم المزرعة، ومن منظومة الإنتاج.
لقد أدّت العبودية إلى خفض أجور العمال، في الريف وفي المدن، لأن لدى أرباب العمل مجموعة كبيرة من العمالة المَرِنَة التي تتكون من العبيد والأشخاص الأحرار الذين كانوا عمال باليومية، كما حال العمال غير المستقرين أو بدوام جزئي، في أيامنا، وتتضاءل فُرَصُ المُساومة للعامل عندما يستطيع المُشَغِّلُون الاختيار بين العديد من شرائح العاملين، بمن فيهم العاملون بشكل شبه مجاني، كالسّجناء والأطفال والمتدربين، ويُعمّقُ هذا النظام عدم مساواة بين العمال (بين السود والبيض، بين المُثَبَّتين وغير المستقرين إلخ) بهدف تقسيمهم، فتَمَّ إقناع العمال البيض الفقراء الذين رأوا فظائع العبودية بأن وضعهم كان يمكن أن يكون أسوأ، لذلك فهم مَدْعُوّون للإستكانة.
أمولة (financialization ) الاقتصاد الأمريكي
ألغى الكونغرس، سنة 1980، اللوائح السارية منذ قانون غلاس ستيغال للعام 1933، مما سمح للمصارف بالاندماج وفرض أسعار فائدة أعلى على زبائنها، ومنذ ذلك الحين، لم تعد أكبر الأرباح تتحقق من خلال التجارة أو إنتاج السلع والخدمات، بل من خلال الأدوات المالية (المضاربة)، وتم، بين سَنَتَيْ 1980 و 2008، تحويل أكثر من 6600 مليار دولار ( 6,6 تريليون دولارًا ) إلى المصارف والمؤسسات المالية، وكان نجاح الأسواق المالية مثل وول ستريت هو الذي دفع الشركات غير المالية إلى استثمار الأموال في الأنشطة والمنتجات المالية، بموازاة تعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم، التي لم تبدأ سنة 1944 (بريتون وودز) أو سنة 1971 (نهاية الدولار المكافئ للذهب) أو سنة 1980، مع إلغاء غلاس-ستيغال، لكن هذه الهيمنة بدأت مع العبودية، عندما تم استخدام العبيد كضمان للرهون (mortgage)، قبل فترة طويلة من الرهن العقاري، فكانت معظم القروض تستند إلى ملكية البشر (العبيد) في أوائل القرن الثامن عشر، وكان العبيد هم الضمانات المهيمنة في ساوث كارولينا، وساهم امتداد الرهون العقارية إلى ملكية العبيد في تطور الرأسمالية الأمريكية والعالمية، بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر، وفقًا للمؤرخ جوشوا روثمان.
مع توسع صناعة القطن في الولايات المتحدة، ارتفعت قيمة العبيد، فارتفع متوسط السعر للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و 38 عامًا الذين تم بيعهم في نيو أورلينز من 450 دولارًا سنة 1804 إلى 1200 دولار سنة 1860…
تَطَلّبَ التوسع في المزارع شراء المزيد من العبيد، ثم بدأ “البنك الثاني للولايات المتحدة” (Second Bank of the United States )، الذي تم إنشاؤه سنة 1816، في الاستثمار بكثافة في القطن، وبحلول أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت ولايات الرقيق في الجنوب الغربي تستحوذ على ما يقرب من نصف معاملات المصرف، وتم إنشاء مصارف أخرى تُقْرِضُ أصحاب الحيازات الزراعية الذين يستخدمون العبيد كضمان للحصول على قروض، ويُحْكَى أن توماس جيفرسون ( الذي صاغ دستور الولايات المتحدة والذي كان يمتلك 200 عبدًا ويدعو في الكونغرس لإلغاء العبودية ) رَهَنَ 150 من عبيده لبناء مزرعته وعقاراته في مونتايسلو، ويعود رهن العبيد إلى إمكانية بيعهم بسهولة أكبر من بيع الأرض، وفي العديد من الولايات الجنوبية، كانت نسبة تفوق 80% من الرهون العقارية تستخدم العبيد كضمان كلِّي أو جزئي، وفقًا للمؤرخ بوني مارتن الذي كتب: شَغَّلَ المالكون عبيدهم ماليًا وجسديًا من حقبة العبودية حتى نهايتها، واشتروا المزيد من الأراضي ومن العبيد الذين تمت معاملتهم كأشياء يمتلكها البيض الأثرياء”
يمكن لمالك مزرعة قطن في العقد الأول من القرن التاسع عشر أن يدفع فائدة بنسبة 8% على عبيده الذين كان محصول إنتاجهم أعلى بثلاث مرات، لذلك تعاقد المزارعون على ديون ضخمة لتمويل عمليات التوسع الخاصة بهم، وأصدرت مصارف ميسيسيبي سنة 1833 نقودًا ورقية أكثر بعشرين ضعفًا من الذهب الموجود في خزائنها، في العديد من المقاطعات الجنوبية وضخت الرهون العقارية على العبيد حجما ضخما من رأس المال، يفوق قيمة مبيعات المحاصيل، ما يُشكل خطر انفجار هذه الفقاعة، يومًا ما.
شاركت الأسواق المالية العالمية في المعاملات المالية، فعندما رهن توماس جيفرسون عبيده، أقرضته شركة هولندية المال، وبلغت تكلفة شراء لويزيانا من فرنسا عام 1803 نحو 15 مليون دولار فقط أو 3 سنتات للفدان الواحد، لتتم إضافة عدة ملايين من الهكتارات إلى إنتاج القطن، وتم تمويل الصفقة من قبل المصرف التجاري البريطاني – Baring Brothers – وجاء معظم الائتمان الذي غذى اقتصاد العبيد الأمريكي من سوق المال في لندن، وللمفارقة فقد ألغت بريطانيا وجزء كبير من أوروبا تجارة الرقيق، لكنها استمرت في تمويل العبودية في الولايات المتحدة حتى القرن التاسع عشر، وخلال طفرة العبودية، قامت المصارف بنشر السندات بسرعة، من لندن حتى هامبورغ وأمستردام وبوسطن وفيلادلفيا، وبذلك استفادت الدول الأوروبية من العبودية دون أن تتسخ أيديها، أي بالوكالة، وفقًا للمؤرخ كالفن شيرمرهورن.
أصدرت المصارف قروضاً بقيمة عشرات الملايين من الدولارات على افتراض أن ارتفاع أسعار القطن سيستمر إلى أجل غير مسمى، ووصلت الرهانات إلى ذروتها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما تَوَهَّمَ المضاربون من رجال الأعمال والمزارعين والمحامين بأنهم يستطيعون جمع كنوز ضخمة من خلال المشاركة في معاملات مالية محفوفة بالمخاطر … أنتج الجنوب الأمريكي القطن في عجلة من أمره مع وفرة الأرض والائتمان والعمالة الرخيصة والمستهلكين ولكن لم يستطع الطلب الضعيف مواكبة العرض الكبير، فانخفضت الأسعار (وفق قانون العرض والطّلب)، وبدأت قيمة القطن في الانخفاض في بداية سنة 1834 قبل أن تنهار سنة 1837، وطالب المستثمرون والدائنون باستعادة أموالهم، لكن المالكين في ولاية ميسيسيبي، على سبيل المثال، مدينون بمبلغ 33 مليون دولار لمصارف نيو أورلينز، بينما بلغت قيمة محاصيلهم 10 ملايين دولار فقط، وعندما انخفض سعر القطن، تسبب في انخفاض قيمة العبيد والأراضي في نفس الوقت، حيث انخفضت قيمة العبد من أَلْفَيْ دولار إلى ستِّين دولارًا فقط، وأدّى عجز تجار الرقيق عن سداد قروضهم إلى عجز المصارف عن دفع الفائدة على السندات التي باعتها ورفضت الولايات المفلسة سداد ديونها وتسببت في حدوث أزمة 1837، على غرار الأزمة المالية لسنة 2008، وفي كلتا الحالتين تم إنقاذ المُقْرِضِين بالمال العام.
لقد رسّخت العبودية ثقافة اكتساب الثروة بدون عمل، والنمو بأي ثمن، والاستغلال الوقح للضعفاء، وكانت هذه الثقافة من أسباب أزمات 1837 و 1929 و 2008، ومن استفحال عدم المساواة وإفقار أولئك الذين يعملون في ظروف غير لائقة وبأجور منخفضة للغاية، ما جعل عدم الاستقرار وانعدام الأمن ليس استثناءً بل قاعدة هذه الرأسمالية العنصرية التي توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بين السود والبيض، بين شعوب البلدان المتقدمة وشعوب البلدان المتخلفة (اقتصاديا) …
كان عدد سكان الولايات المتحدة لا يتجاوز التسْعَة ملايين نسمة سنة “الإستقلال” المزعوم ( 1776) وكان المستوطنون البيض من أصل أوروبي أقلية مقارنة بعدد السكان الأصليين ( من تمت تسميتهم “الهنود الحمر”) وبعدد العبيد السود الذين تم استجلابهم غصبًا عنهم من إفريقيا، ولم يكن لإعلان الاستقلال الأمريكي أي تأثير على السكان الأصليين أو العبيد، حيث لم يتم اعتبارهم جزءًا من الجنس البشري، كما لم تكن النساء مَعْنِيّات بهذا الإعلان وكذلك الرجال البيض الفقراء أو الرجال من أصل اجتماعي متواضع، بما في ذلك العديد من الأيرلنديين الذين كانوا مُستعْبَدِين (نساءً ورجالاً وأطفالاً)، ولذا لم يستفد من هذا “الإستقلال” المزعوم سوى أقلية لا يتجاوز عدد أفرادها خمسين ألف من الرجال البيض الأثرياء، أو أقل من 1% من السكان الذين مَكّنهم هذا “الإستقلال من زيادة ثرواتهم الشخصية.
يوصف توماس جيفرسون في التاريخ الرسمي للولايات المتحدة بأنه “ملهم للديمقراطية الأمريكية وشخصية إنسانية وواحد من أكثر الشخصيات اللامعة والمحبوبة في “الثورة” الأمريكية، ورمز التنوير والإنفتاح والتقدم وما إلى ذلك، واشتهر بكتابته إعلان استقلال الولايات المتحدة في الرابع من تموز/ يوليو 1776، ومن ضمنه الفقرة الثانية التي تُؤَكِّدُ: “… كل الرجال يولدون متساوين، مَنَحَهُم الخالق بعض الحقوق غير القابلة للتصرف، ومنها: حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، كما اشتهر بحملته في الكونغرس من أجل إلغاء العبودية، وباختصار، يُعَدُّ توماس جيفرسون أحد الأبطال الرئيسيين للشعب الأمريكي، لكن صاحب هذه “الشخصية الإنسانية العميقة، شخصية التنوير والتقدم …”، كما وصَفُوهُ، المناضل في الكونغرس من أجل إلغاء العبودية كان مالكًا للعبيد، وفي العام 1784، بعد ثماني سنوات من صياغة إعلان الاستقلال، كان لا يزال يمتلك 200 عبد عملوا في مزرعته في فرجينيا وتمكّن بفضل استعبادهم واستغلالهم من زيادة ثروته، وكان “فَظًّا غليظ القلب” معهم، لذلك تكررت محاولات الفرار من مزرعته الضخمة، وتمكن 20 من العبيد من الفرار ولم يتم العثور عليهم، فيما تم القبض على آخرين وتعرضوا للتعذيب قبل عودتهم إلى العمل في ممتلكات السيد توماس جيفرسون الذي يعتبره التاريخ الرسمي للولايات المتحدة “تقدميًا”، لأنه لم يعد يعتبر العبيد السود قرودًا ولكن “كائنات وهبهم الخالق روحًا وانتماءًا إلى الجنس البشري، غير إن قدراتهم في المجالات العلمية وقدراتهم المعرفية للتعبير عن المشاعر والإيمان الديني بقيت بدائية ولا يمكن مقارنتها بقدرات الرجال البيض…” وتُعتبر هذه “الفتوى”، من قِبل السلطة السياسية والسلطة الدّينية (الكنيسة) سببًا وجيهًا مُوجِبًا لاستعبادهم…
لا تزال العبودية متجذرة في أيديولوجية الرأسمالية الأمريكية، وعلاوة على ذلك، فإن الورقة النّقدية الأمريكية من فئة دُولارَيْن تتضمن رسمًا للمنزل الذي وُلد فيه توماس جيفرسون، ضمن مزرعته المعروفة باسم ( Monticello ) حيث عَمِلَ 200 عبد، ولا يزال المواطنون السود يُعانون من الميز، فهم يمثلون حوالي 12,5% من المواطنين ونحو 43% من المساجين، وكذلك نسبتهم من الفقر ومن المُعطّلين عن العمل، فهي غير مناسبة مع عددهم أو نسبتهم من العدد الإجمالي للسكان، كما لا تزال مؤسسات الولايات المتحدة ( الحكومة ومجلس النواب ووسائل الإعلام والقضاء…) تعتبر الشعوب الأخرى عبيدًا في خدمتها، أو تستحق الفناء…
نشأت أمريكا الشمالية، والولايات المتحدة على جماجم الشعوب الأصلية لأمريكا التي تمت إبادتها والإستيلاء على أراضيها بالمجان، ثم جمع المستوطنون الأوروبيون ثروات طائلة بفعل استغلال هذه الأراضي المُصادَرَة بواسطة العمل القَسْرِي والمجاني لملايين المُسْتَعْبَدِين المُهَجَّرِين من إفريقيا، ما سَرَّعَ وضَخَّمَ عملية التّراكم الرأسمالي بشكل غير مسبوق في تاريخ الأُمَم، ولا تزال مواقع العمل الأمريكية جحيمًا للعاملين في مجالات الصناعة والفلاحة والخدمات، فضلاً عن الرّقابة الصّارمة في الفضاء العام وقَمْع “العَدُوّ الدّاخلي”، أي كل صوت يُعارض التّوجُّهات الرّسمية، مثلما حصل في كافة مراحل تاريخ الولايات المتحدة، منها فترة المكارثية وآل بوش (باتريُوت أَكْت)، ولا يزال قسم هام من السلع والتجهيزات المنزلية ومن الملابس العسكرية يُصنع في السُّجُون بتكلفة تقل عن الصين أو حتى بنغلادش… كما أن تطوير القوة العسكرية منذ نشأة الولايات المتحدة وخوض حروب ضد إسبانيا في مناطق بعيدة جدّا (الفلبين)، ساهم في تسريع عملية نهب الموارد من آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وفي تطوير القوة العسكرية البحرية…
برزت قوى أخرى تنافس الولايات المتحدة، من منطق رأسمالي بحت، وليس من منطق تَحَرُّرِي، أو من منطلقات تقدمية يمكن أن تُفيد الشعُوب المُضطَهَدَة والفئات الكادحة، وقد يتقلّصُ نفوذ الإمبريالية الأمريكية بِبُطْءٍ لكن من يستفيد من ذلك؟
لا يُمكن التعويل على الصين أو روسيا أو أي نظام، لتحرير أراضينا المحتلة، من الخليج إلى المحيط، ولتحرير قُوّة العمل وللإستفادة من مواردنا، لأن ذلك لن يتم إلاّ بواسطتنا كشُعُوب مُضْطَهَدَة وواقعة تحت الإستعمار، وكطبقات مُسْتَغَلَّة، من أجل إقامة مُجتمعات مُتحرّرة وعادلة…

يمكن العثور على معظم البيانات الواردة بهذا النّصّ في كتاب المؤرخ جوشوا روثمان ، “Flush Times and Fever Dreams” الذي نُشر سنة 2012.
+
مقال نشرته مجلة نيويورك تايمز بتاريخ 14 آب/أغسطس 2019 بعنوان: “الرأسمالية الأمريكية وحشية. يمكنك تتبع ذلك بالعودة إلى المزرعة ” + مقال آخر بعنوان:” لفهم الرأسمالية ، عليك أن تبدأ بالمزارع “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى