الحدث الجزائري

تسابيح من حنايا الجزائر

مهند طلال الاخرس

في اول يوم لي في الجزائر رن جرس هاتفي مطولا لكني لم ارد، كنت منهكا من عناء السفر وزاد من انهاكي سهرة مطولة مع ضيف جزائري جميل اسمه بلعيد، اطال بلعيد من سهرته لدينا، كان مفعما بحب فلسطين، تركناه على سجيته ليعبر كيفما شاء عن هذا الحب، ابدع واجاد ضيفنا بلعيد في الحديث عن ذلك التاريخ من العلاقات الاخوية بين الجزائر وفلسطين…

لم ينقطع بلعيد عن الحديث المتواصل والمتدفق وكذلك الحال مع جرس هاتفي الذي لم يتوقف، لكني لم ارد…لم اشأ ان اقطع حديث بلعيد، ورغم طول وقت السهرة وامتدادها لما بعد منتصف الليل إلا ان رنين جرس هاتفي لم ينقطع…وبعد ان منتصف الليل بقليل استأذن بلعيد بالمغادرة فأذنا له طبعا وبكل سرور، في الجزائر ما ان يعرف محدثك انك فلسطيني حتى تغرق واياه في بحر واسع ومديد ويبقى يتسع ويتمدد طالما ان هناك متسعا في الليل ليحتمل المزيد…

غادرنا بلعيد على امل اللقاء مجددا، لكننا لم نلتقي بعدها، لكنه بقي عالقا في الذاكرة، ويعود مرد هذا التعلق لتلك الانطباعات الاولى التي تتشكل في ذهن اي انسان عند زيارته لاي بلد، كان بلعيد ومن قبله نبيلة عياد اجمل انطباع ممكن ان تتمناه حين تزور بلدا اخر غير بلدك، هذه البلد الاخر لن يغدو كذلك ولن يبقى آخر سيصبح جزء منك تشتاق له كلما ابتعدت عنه طالما ان ابنائه يمتثلون لحكمة التاريخ القائلة: “بأن على الابناء ان يحافظوا على ميراث الاجداد، وان ينقلوه للاجيال القادمة بكل امانة واخلاص، ليس هذا وحسب، بل تطويره وتأصيله وتسليم الراية للاجيال اللاحقة بأجمل صورة من البهاء والبقاء…”.

في الجزائر يبدأ الصباح باكرا او هكذا هو الحب دائما، اذ يستفيق مع اول خيوط الشمس لينثر حروفه الذهبية على عشاق الكلمات ويستقبل اول امانيهم مع كل طلعة صباح…

استفقنا باكرا على صوت جرس الباب والهاتف معا، على الباب كانت نبيلة ومعها ابنتها اية ترسم اول خيوط الفرح.استقبلناهن بكثير من الفرح، وعاجلا اغتسلنا ولبسنا وبدأنا نعد الخطة لبرنامج اليوم، بدأت نبيلة بطرح البرنامج وبدا سيل الرغبات من قِبلنا، كانت نبيلة ودودة ومتفهمة لطبيعة زيارتنا، كان البرنامج غنيا جدا ساهم في اثرائه اخوة واصدقاء واحباء ما زلت مدينا لهم بالكثير.

بدأ برنامج ذلك اليوم باكرا، ومعه بدأنا برفقة نبيلة بخطوات صغيرة في بلاد كبيرة …

ركبنا السيارة وبدأنا جولة عامة في العاصمة الجزائر نتحسس الشوارع ونتعرف على الاماكن ونتلمس المعرفة والمشي ما استطعنا في كثير من الطرقات…

ذكرني مالك بأني لم ارد على مكالمات الامس، فهززت له رأسي متجاهلا تنبيهه لي، فعاد والح علي بضرورة معاودة الاتصال والكف عن تلك العادة السيئة في تطنيش المكالمات. قلت له لا عليك، فنحن في الجزائر وليس لي اي نوع من العلاقات هنا ولم يمضي على مكوثي في الجزائر ليلة واحدة بعد حتى تأتيني كل تلك المكالمات، ومع ذلك وانصياعا لنصيحة مالك استجبت وامسكت بالهاتف وعاودت الاتصال بالرقم المتصل، واذا بالصوت القادم عبر سماعة الهاتف يخبرني بأن الهاتف مغلق، عاودت الاتصال مرارا وتكرارا على نفس الرقم الذي ملأ شاشة هاتفي بكثرة اتصاله الا اني لم افلح في ذلك وكان الرد نفسه يأتيني عبر ايام عدة حتى تناسيت الموضوع…

بعد اسبوعين من ذلك التاريخ عاود ذلك الرقم الاتصال بي مجددا، لم افوت الفرصة هذه المرة، رددت سريعا، جائني الصوت بلهجة جزائرية تقول: “على سلامة اخويا، وينك اخويا، عيطلك بزاف بزاف” ادركت سريعا انه صديق اخي حمزة المحامي احمد ادهيم والذي كنت قد التقيته سابقا في العاصمة الاردنية عمان اثناء فعاليات مؤتمر المحامين الشباب العرب.

تواعدنا سريعا، اوصلتني نبيلة لنقطة الالتقاء مع احمد وصديق عند باب قصر المعارض. عند قصر المعارض ودعت نبيلة ومالك ورافقت احمد وصديق في جولة تسمح لنا بالتعرف على معالم واسرار وتاريخ الجزائر، واثناء تجوالنا لاحظ احمد وصديق ذلك الشغف والمتعلق بمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن تاريخ الجزائر.

عند محطة العناصر والتي كانت تشكل اول محطة من محطات القطار الكهربائي كان اول مسيرنا لنتذوق طعم المكان، كانت ارضية المحطة رغم ازدحامها بالبشر مليئة بطيور الحمام، لم افوت الفرصة، اغتنمتها سريعا والتقطت لنفسي عديدا من الصور مع طيور الحمام ومع اسراب الفرح المنبعث من كل دروب الجزائر والمنطلق ابتدأء من هضبة العناصر وصولا الى باب الزوار حيث اقطن انا ومالك.

كان احمد ادهيم وصديق عطيري ينتظرون صديقا اخر ليرافقنا في تجوالنا، وكان حسب رأيهم بأنه هذا هو الدواء الذي يشفيك والذي يروي عطشك ويشفي غليلك، لم افتهم عليهم كثيرا، لكني استجبت لهم.

طال الانتظار للصديق القادم، فاغتنمت الفرصة مجددا لاداعب اسراب الحمام، بينما حجز احمد وصديق طاولة في المقهى المقابل في انتظار وصول الصديق الجديد.

في ساحة محطة العناصر تنبهت لوجود مسجد، اذ كانت تهبط بجانبه عربة خط التلفريك القادمة من اعلى الجبل، في تلك اللحظة راودتني نفسي ان اصعد على متن التلفريك وان اكتشف ذلك الجمال الذي يقطن في الاعلى ويطل على كل ذلك البحر، وحده صوت المؤذن الصادح بإقامة الصلاة منعني من ذلك او اجل مبتغاي الى حين…

اغتنمت الوقت لاداء صلاة العصر وحين فرغت منها كانت اخر عربة من خط التلفريك تهم بالمغادرة، استأذنت المسؤولين بالانتظار دقيقة ريثما اقطع التذكرة، وسريعا التحقت بهم وانضممت لركب الصاعدين الى اعلى، وما ان بدأت العربة بالصعود حتى بدأ معها الجمال يزداد اتساعا ومعه تزداد مساحة النظر وتكتمل روعة المشهد البانورامي المطل على البحر ، تتصاعد الانفاس ويحملها الجمال حتى تبلغ اعلى الجبل، فترى كل ما كنت تسير فيه، لكن هذه المرة سترى الجزائر من علو وبأحلى واجمل صور الالق والبهاء، ستفرح كثيرا وانت تشاهد ذلك المنظر من علو، وستتذكر اشياء وستنسى اخرى، لكن حتما لن تنسى ان تلتقط لذلك المكان مجموعة من الصور التي تحفظ تاريخ تلك الزيارة وجمال ذلك المكان.

في الاعلى وعند نقطة الوصول، تكتشف ان ليس كل ركاب التلفريك هم هواة للجمال او من محبي رؤية تلك المناظر من اعلى، لن تتكلف كثيرا من العناء لترى ان خطوات معظم رواد التلفريك تاخذهم الى مبنى ضخم يتسرب جماله ومعالمه من بين سيقان اشجار السرو الباسقة والتي تغطي الجبل، من بين تلك السيقان تأخذ عيونك باستطلاع المبنى جيدا، لتكتشف سريعا انه مبنى وزارة الثقافة وقصر الثقافة “مفدي زكريا”.

لحقت خطواتي بمن سبقني لاكتشف ان معظم من رافقتهم كانوا من موظفي او مرجعي وزارة الثقافة او قصر الثقافة، وهذا ما فسر لي سرعة خطواتهم بينما انا تصغر خطواتي وتتباطأ رغبة في ان تأخذ العين حقها من كل ذلك الجمال الذي يصنعه التقاء البحر بالجبل ومن كل ذلك الفرح الذي يسببه التلفريك، كان التلفريك مصدرا لكثير من الفرح الغامر بالنسبة لي، لكنه كان للآخرين وسيلة نقل لا اكثر ولا اقل.

في أول نوفمبر 1984 وبمناسبة الذكـرى الثلاثين لاندلاع الثورة التحريريــة افتتح قصر الثقافة، وهو مؤسسة عموميـة ذات طابــع إداري وصبغـة ثقافيـة تحت وصايــة وزارة الإتصال والثقافـــة، ويقع في أعالي هضبـة العناصر (130 م فوق سطح البحر) بالجزائر العاصمة .

وقد سمي القصر باسم مفدي زكريا، الشاعر الجزائري الشهير مؤلف النشيد الوطني الجزائري قسما ومؤلف إلياذة الجزائر.

وإلياذة الجزائر”، ديوان شعري كبير بلغ ألف بيت وبيت، دوّن فيه مفدي زكريا قصة الجزائر منذ فجر التاريخ إلى ما بعد الاستقلال.

والإلياذة أحسن سجلّ لتاريخ الجزائر حتى اليوم.. أحسن كِتاب فيه وعنه وله، وحتّى إذا ما كُتب هذا التاريخ يوما ما بصفة كاملة شاملة، فستبقى إلياذة الجزائر أروع تاريخ للجزائر وأكثره وقعا في النفوس وأسهله على الحفظ والتذكّر والاستشهاد في معرض الاستشهاد والاحتجاج”.

بهذه الكلمات وصف مولود قاسم نايت بلقاسم “إلياذة الجزائر” وقدّم لها عندما نُشرت سنة 1972، وهي أطول قصيدة كُتبت عن الجزائر، ألّفها “شاعر الثورة الجزائرية” الراحل مفدي زكريا.​

عندما ألقى مفدي زكريا “الإلياذة” في الجزائر سنة 1972 بحضور الرئيس هواري بومدين، لم تكن تحوي سوى 610 أبيات، ثم أكملها فيما بعد لتستوي عند ألف بيت وبيت.

لم تكن “إلياذة الجزائر” من بنات أفكار مفدي زكريا بل هي اقتراحٌ من وزير التعليم الأصلي الجزائري السابق مولود قاسم، ووجد هذا الاقتراح طريقه إلى التجسيد بقلم “شاعر الثورة”.

ويروي نايت بلقاسم قصة ولادة “الإلياذة”، قائلا “طلبنا من المناضل الكبير، الشاعر الملهم، شاعر الكفاح الثوري السياسي، وشاعر الكفاح الثوري المسلح، الأستاذ مفدي زكريا، صاحب الأناشيد الوطنية.. أن يضع لنا نشيدا جديدا يجمع هذه الأناشيد”.

ويضيف “وقد تحمّس مفدي لفكرة نظْم هذه الإلياذة بمجرد أن تلقّى رسالتي في بدء 1972م، وعبّر عن استعداده المطلق لتنفيذها”.​

​​​لم يكن سهلا على مفدي زكريا أن يؤلّف “الإلياذة” بمفرده، بالنظر لما حوته من مخزون تاريخي كثيف جدّا ومعلومات غزيرة ضاربة في قعر التاريخ، فوجد نفسه بحاجة إلى مَددٍ معرفي من رجلين هما مولود قاسم نايت بلقاسم، والباحث التونسي في التاريخ عثمان الكعّاك.

وعن مساهمتهما في “الإلياذة”، كتب نايت بلقاسم “وتعاونا نحن الثلاثة: المرحوميْن مفدي زكريا وعثمان الكعاك وكاتب وانا، في وضع المقاطع التاريخية، فكنا نتهافت ليلا، وكانت البادرة في هذا الهتاف الليلي تعود غالبا إلى مفدي، الذي كان ينظم الإلياذة ليلا”.

روى مفدي على طول “الإلياذة” استبسال الملوك الأمازيغ من ماسينيسا ويوغرطة ويوبا الأول وغيرهم في الدفاع عن بلدهم ضد الغزو الروماني، وبعدها الغزو البيزنطي والوندالي.

ينتقل زكريا خلال “الإلياذة” في سرد تاريخي منتظم، فيحكي قصة دخول المسلمين إلى الجزائر ويتحدّث عن قبول الأمازيغ الإسلامَ وتعايشهم مع العرب.

ويمضي مفدي قاصًّا أيام الجزائر في فترات الحماديين والزيانيين والرستميين والحفصيين وما عرفته من نهضة علمية وأدبية دون أن ينسى ذكر أعلام تلك النهضة، ثم يخلُص إلى الفترة العثمانية وكيف تسيّدت الجزائر البحر الأبيض المتوسّط بأسطولها.

​​وبين ثنايا “الإلياذة” يتغزّل مفدي بالجمال الأخّاذ للجزائر في مدنها وجبالها وطبيعتها.

بعدها تأخذ الإلياذة نفَسا مأساويّا عند الحديث عن انقضاض الاستعمار الفرنسي على الجزائر وما عاناه الشعب من تقتيل وتجهيل واستعباد، ثم خاض في مقاومة الأبطال من الأمير عبد القادر وصولا إلى ثورة نوفمبر التي تظفّرت بالاستقلال، وكان الختام بالحديث عن الاستقلال ومنجزاته وبناء الدولة.

تبنّى مولود قاسم نايت بلقاسم “الإلياذة” كونها من بنات أفكاره، وذكر في تقديمه لها “سمينا نشيد الأناشيد هذا: إلياذة الجزائر!”، وتحدّى نايت بلقاسم “إلياذة هوميروس” الشهيرة” قائلا “.. وإن كانت تمتاز عن إلياذة هوميروس بالفارق العملاق، فبينما هذه الأخيرة، أي الإلياذة اليونانية، تروي الأساطير، نجد الإلياذة الجزائرية قد خلّدت أمجادا حقيقية وسطرت تاريخ ووقائع وأحداثا هي من روائع الدهر لا من خلقِ الجنّ ولا من اصطِناع شاعر، ولكن من صنع الإنسان الجزائري في الميدان”.

سرني ذلك المبنى وسرني اكثر ذلك الوفاء لشاعر الثورة الجزائرية الكبير مفدي زكريا، وكنت اتمنى سرقة المزيد من الوقت لاتجول في اروقة قصر الثقافة، لكن اكتفيت بتلك الاطلالة خاصة حين سمعت صوت صفارات انذار قادم من حيث محطة التلفريك، حينها علمت من المراجعين والذين بدأوا بالهرولة ان ذلك الصوت هو من عربة التلفريك والذي ينذر ببقاء دقائق معدودة لهبوطه مجددا، قلت وليكن، لا داعي للعجلة امام هذا الجمال، لكني عدت ادراجي واسرعت مثلهم حين علمت انني استطيع بواسطة التذكرة التي معي ان اعود الى الاسفل بدون ان ادفع اي مبالغ اضافية، اغتنمت التوفير المالي الذي وفرته لي تلك المعلومة وهرولت مثلهم باتجاه التلفريك.

في التلفريك اختبرت جمال المنظر من اعلى مجددا واغتنمت اكثر فرصة ان اسمع قصيدة الياذة الجزائر بصوت ناظمها ومبدعها مفدي زكريا، فتحت اليوتيوب وبحثت عن مفدي زكريا والالياذة، وجدتها سريعا، كان مفدي زكريا يتلوها في مجلس النواب الجزائري وعلى مسامع اعضائه من ممثلي الشعب والرئيس، سرني صوته واسرتني كلماته واخذتني طريقة القائه.

كنت فرحا وانا اشاهد تلك الامسية الشعرية في مجلس النواب الجزائري والتي اعادتني بالذاكرة الى قصيدة مديح الظل العالي لمحمود درويش والتي القاها على مسامع اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد على ارض الجزائر ايضا. فهذه ملحمة وتلك ملحمة، لكن الاولى القيت كخطاب نصر في صباحات يوم انهزم به الطغيان وانتصرت فيه الثورة، اما الثانية فكانت سيرة ثورة مغدورة لم تبلغ النصر، تكالبت عليها كل اشكال الغدر والخيانة قبل النصر بساعة فحالت دون انتصاره، فجائت تلك القصيدة لتقوم مقام النصر ان عزّ النصر او غاب.

تلك الامسيات في هكذا مناسبات وعلى اعلى المستويات لا تنعقد إلا لمثل هكذا شعراء، ومن حينها بدأت اعتقد ان تلك الامسيات ابداع حصري لا يمكن ان تأتي من مدن الملح او من الدول اللقيطة او من ابراج السراب وناطحات السحاب، انما تأتي فقط من بلد يدين له التاريخ بالكثير، وليس اعظم من ذلك الدين دين المليون ونصف المليون شهيد.

لمثل هؤلاء الشعراء افرح، فمثلهم قام مقام المعلم حين عزّ المعلم وغاب، مثلهم بنى اول مداميك الوعي في الانسان العربي، مثلهم حرك فينا باكرا ذلك الاحساس وتلك القيمة في معنى ان تكون صاحب نهج وقضية، امثال مفدي زكريا ومحمود درويش من جعلونا نبتسم حين توقع الجميع منا ان نبكي. امثالهم من رفع راية النصر حين طالبنا الجميع بالاستسلام.

في ذلك الفيديو الخاص بالالياذة والموجود على اليوتيوب كنت سعيدا وانا ارقب ذلك المشهد في مجلس النواب الجزائري، شاعر الثورة يصدح ويغني ويرتل ويبدع ويصول ويجول في تاريخ الجزائر ويصوغ سيرته في قصيدة ملحمية تحمي وتصون كل تلك الدماء التي شكلت حدود الجزائر.

في تلك الامسية بدأت اسمع صدى كلمات مكررة:
“شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر”

كانت تلك الكلمات كغيرها نابعة من اعماق القلب توقظ النائم وتستفز الخائن، لكنها كانت كتكبيرة الاحرام في كل صلاة، كانت لازمة لابد منها، لا اعرف ماذا يسمونها في اللغة، لكنها كانت كافية بالنسبة لي لكي اسمع قسم كبير من القصيدة كانت كافية لاهيم اكثر في حب الجزائر …

سبّح لله ما في السماوات والأرض ملء شفائف شفا
كأنك تصغي بها للخليل وموسى الكليم يرتل صحفا
كأنّ مشارفها الحالمات الضواحك ألف يغازل ألفا
كأن البليدة للورود تفشي حديث الغرام فيزداد لهفا
وتهفو المدية شوقا إليه تطارحه صفوة الكأس صرفا
ويهتز قصر البخاري هياما ويصبو البخاري فتحجل جلفا
أبا لغوطتين يباهي الشام وأغواطنا بالشآم استخفا
كأن حدائقه العابقا نوافج مسك تضوعن عرفا
وفي رحب ِتلْغَمْت تاه الغز ال على الشمس يختال لطفا وظرفا
ويحفظ ميزاب لوح الجلا ل فيصبح ميزاب في اللوح حرفا

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

ألا ما لهذا الحساب ومالي؟ وصحراؤنا نبع هذا الجمال
هنا مهبط الوحي للكائنات حيال النخيل وبين الرمال
ومهد الرسالات للعالمين ونور الهدى ومصب الكمال
هنا العبقريات والمعجزات وصرح الشموخ وعرش الجلال
تبادلنا الشمس إشعاعها ويلهمنا الصفو نور الهلال
ونعدو فنسبق أحلامنا ونهزأ من وثبات الغزال
وجنبنا الغدر ماء الغدير وحذرنا الظل نهج الضلال
وعوّدنا الصدق راعي المواشي وعلمنا الصّبر صبر الجمال
وأخرجت الأرض أثقالها فطار بها العلم فوق الخيال
توفّر للشعب أقداره وتكفي الجزائر ذل السؤال

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

وجلت بطولات أرض الجزائر مهد الأسود وربع الكرام
وقفنا نحيي بها ألف عام ونقري زيري العظيم السلام
فقام بولوغين في عيدنا يهزّ الدّنا ويروع الأنام
وسيبوس فاض فتاه دلالا يعانق زيري المليك الهمام
بولوغين إن صانها فيرموس وحازت إكوسيوم أقصى المرام
وهب ّ الأمازيغ من دوناطوس تصول وتزجي الخميس الهمام
فأبناء مازيغ قادوا الفدا وخاضوا المعامع يوم الصدام
وساقوا المقادير طوع خطاهم وشادوا البناء وأقروا النظام
رعى الله عشرا تنافس عشرا وصان ذماما تراعي الذماما
وبورك يوليوز في حالتيه فما الفجر إلا وليد الظلام

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

دعوا ماسينيسا يردد صدانا ذروه يخلد زكيَّ دمانا
وخلوا سفاكس يحكي لروما مدى الدّهر كيف كسبنا الرهانا
وكيف غدا ظافرا ماسينيسا بزامة لم يرض فيها الهوانا
و كم ساوموه فثار إباء وأقسم ألا يعيش جبانا
و ألهمه الحب نيل المعالي وقد كان -مثلي- يهوى الحسانا
و من صنعت روحه سوفينيزبا جدير بأن يتحدى الزمانا
تغذيه حبا وفنا وعلما وتنبيه ما قد يكون وكانا
فجاء يغورطا على هديه بحكم الجماهير يفشي الأمانا
و قال :مدينة روما تباع، لمن يشتريها !فهزّ الكيانا
و وحّد سيرتا بأعطاف كاف وأولى الأمازيغ عزاّ وشأنا

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

صمود الأمازيغ عبر القرون غزا النيرات وراع النجوما
فكم أزعجوا نائبات الليالي وكم دوخوا المستبد الظلوما
سلوا طبرية يذكر تبيريوس تيكفرناس يوالي الهجوما
ثمان سنوات يصارع روما فدق المسامير في نعش روما
وأوحى له الأطلس الوحدوي فوحدنا فانطلقنا رجوما
سلوا بربروس يجيبكم فراكسن من جرجرا كيف أجلى الغيوما
وقالوا : أراديون بالكاف أودىهل الموت عيسى ؟ يداوي الكلوما
و هذا أغوستنس بالاعترافات حير – عبر الزمان – الفهوما
و أسقف بونة أصبح قديس قرطاج مذ بث فيها العلوما
و كان أغستنس فجر البلاد وكان بها الفيلسوف العظيما

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

أشرشال !هلاّ تذكرت يوبا ؟ ومن لقبوا عرشك القيصريه ؟
و من مصروك فنافست روما؟ وشرفت أقطارنا المغربيه
لماذا يُلقب يوبا بثان؟ أما حقق السبق في المدنيه ؟
و باهى بشرشال جنة عدن وزان حدائقها السندسيه
أما كان أول من خطّ رسما لوجه جزيرتنا العربيه ؟
أما شاد يوبا بشرشال للعلم أوّل جامعة أثريه ؟
و هذا أبولوس كان طبيبا يدين له العلم بالعبقريه
و أبدع في قصص الحيوان، فأثر في القصص الأمويه
و كان الأفارق في منتداهم بروما يخصونه بالتحية
و كان أبولوس قاضي روما ليمناه ترفع كلّ قضيه

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

أولئك آباؤنا منذ عيسى وكان محمد صهرا لعيسى
و لاح الصباح فهز السكارى وأجلى الندامى، ورض الكؤوسا
و أيقظ حلم الليالي الحبالى وأسرج في الكائنات الشموسا
وأهوى على البغي يذرو الجذوع ويغرس في الجبروت النفوسا
و حذر آدم ظلم أخيه وسوى الحظوظ وأعلى الرؤوسا
و أخرج حواء من رمسها فألهمت الروح هذي الرموسا
لئن حارب الدين خبث النفوس فلم يغمط الدين هذي النفوسا
و لم نك ننكر آباءنا أكانوا نصارى !!أكانوا مجوسا !!
و هل كان بربر إلا شقيقا لجرهم ؟ هلا نسينا الدروسا ؟
إذا عرّب الدين أصلابنا فما زال أحمد صهرا لعيسى !

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

وهِبنا العروبة جنسا ودينا وإناّ بما قد وُهبنا رضينا
إذا كان هذا يوحّد صفاّ ويجمع شملا رفعنا الجبينا
و إن كان يعرب يرضى الهوان، ويلبس عارا…أسأنا لظنونا
و قلنا : كسيلة كان مصيبا وكاهنة الحيّ أعلم منّا!
فأهلا وسهلا بأبناء عمّ نزلتم جزائرنا فاتحينا
و مرحى لعقبة في أرضنا ينير الحجى ويشيع اليقينا
و يعلي الصوامع في القيروان، ويرفعها للدفاع حصونا
يبث المراحل في كلّ فجّ فراعت أساليبه العالمينا
و بادره السمر تبرا بملح وما كان فزّان عنه ضنينا
و ما كان جوهر إلاّ مدينا لعقبة..يوم استقلّ السفينا

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

و إن تسألوا عن بني الأغلب سلوا الزاب عن جاره الأقرب
و طبنة هل تذكرين ابن الحسين التميمي وتاريخه القرطبي
و عند مسيلة.. علم اليقين، بمن حققوا وحدة المغرب
يرى الفاطميون شعر ابن هارون كما يخلق اللحن للمطرب
و أبدع حتى تنبأ مثلي ولم يتقوّل…و لم أكذب
علام يُلقب أندلسيا فتى مغربي، أصيل الأب؟؟
فكم حسدونا على مجدنا وجاروا على البلد الطيب !
و كم بالجزائر من معجزات وإن جحدوها ولم تُكتب !
وقالوا : الرسالات من مشرق الشمس لكن يخالفهم مذهبي
ولو أرسل الله من مغرب نبيا…إذن كذّبوا بالنبي!!

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

و في قدس جناتنا الناضرة وجوه إلى ربها ناظره
تمدّ المعزّ لدين الإله فيصنع جوهر والقاهره!
و يستلهم النيل من أرضنا صفانا، وأخلاقنا الطاهره
و يجري رخاء على هدينا يواكب أفضالنا الزاخره
وتُفهم رمسيس معنى انعتاق الشعوب، جزائرنا الثائره
هو النيل خلد عشر قرون، وباركنا السنة العاشرة
و كم شابه النيل بحر دمانا، تمور به المهج الفائره!!
و كم ضارعت في الفداكيلوبترا جميلات ثورتنا الهادره !
و نحن الأمازيغ نرعى الذمام، ولا نجحد الفضل والآصره
و نكبر مصرَ وأحرارها ومن آزروا حربنا الظافره !

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

أيا ومضة من جلال الشريعه ويا هبة من هبات الطبيعه
أشاع ابن يوسف فيك الصلاح ووشى الجمالُ رباك البديعه
أزكار أم أنت عش العقاب ؟ أم الصقر منك استمد ضلوعه؟
أم العاشق المستهام المعنى بنبع العناصر أجرى دموعه ؟
أم الحب رقّ لمجنون ليلى؟ فرش بعين النسور صريعه
أشادك بومبي مقوقس روما؟ أم أن بولوغين رب الصنيعه؟
فأغرى بمليانة الطامعين وما كنت للطامعين وديعه!
فما ارتاح فيك بنو هندل وولىّ ابن عائشة بالفجيعه
جرى مثل واديك ناديك علما فبوأ أحمد فيك الطليعه
وأقطع يعقوب أحمد أغمات، والنبل في ابن مرين طيعه

شغلنا الورى وملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

نوفمـــبر جلّ جلالك فينا ألست الذي بث فينا اليقينا؟
سبحنا على لجج من دمانا و للنصر رحنا نسوق السفينا
وثرنا ، نفجر نارا و نورا و نصنع من صلبنا الثائرينا
و نلهم ثورتنا مبتغانا فتلهم ثورتنا العالمينا
و تسخر جبهتنا بالبلايا فنسخر بالظلم و الظالمينا
وتعنو السياسة، طوعا وكرها لشعب أراد .. فأعلى الجبينا
جمعنا لحرب الخلاص شتاتا سلكنا به المنهج المستبينا
ولولا التحام الصفوف وقانا لكنا سماسرة مجرمينا
فليت فلسطين…تقفو خطانا وتطوي-كما قد طوينا– السنينا
و بالقدس تهتم..لا بالكراسي تميل يسارا بها و يمينا

شغلنا الورى و ملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر

تلك الامسية وتلك القصيدة اصبحت جزء من تاريخ شعب عريق وبلد عظيم تسابيحه من حنايا الجزائر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى