تداول الأفكار
صالح حبيب
عندما شرعت بكتابة هذا الموضوع فإنني كنت واثقا كل الثقة بان كل من سيطلع عليه سيظن بانه هو المقصود بالتحديد و أنني كتبت الموضوع من اجله أو بسببه بشكل خاص. ولكن صدقوني ان ما سأتحدث عنه هو حالة عامة تحصل معي كل يوم كما انها تحصل كل ثانية في كل البلدان التي بدأت مجتمعاتها تستخدم الانترنيت و البريد الالكتروني حديثا كما في حالة شعبنا العراقي و أخواتي واخواني العراقيين الذين نشئوا تحت وطأة انظمة قمعية لا تؤمن إلا بالرأي الأحادي و مصادرة أي رأي آخر، للأسف تبنوا و بشكل لا ارادي نفس السياسة البغيضة وهي سياسة مناوأة الرأي الآخر واعتبروها حالة طبيعية و عادية جدا لا بديل لها و راحوا يتبعون نفس النهج و هو التزمت بالرأي و عدم تقبل أي رأي مخالف أو نقيض على قاعدة الناس على دين ملوكها، و لا تعلم تلك الشعوب المسكينة بان هناك مبادئ حضارية جديدة قد بزغت مع فجر التطور الحضاري و اعادة بناء الانسان الجديد وصياغة أفكاره وفقا للفكر الانساني الحر و التقدمي و الذي بدأ بانتشال المجتمع الانساني من هوة الظلام الى عالم النور و المعرفة والتواصل مخلصا اياه من عهود الظلام و الطغيان التي عاشتها معظم شعوب العالم لدهور طويلة أهم شيء فيها و هو احترام الرأي الآخر و حرية التعبير و المعتقد و الأفكار.
ان ما اتحدث عنه يحصل كل يوم وحصل معي كثيرا من قبل قائمة ارسالي اليومي للبريد الالكتروني – كهواية تشبه هواية المراسلة التي كانت سائدة قبل عقدين من الزمان – و البالغ عدد الاسماء فيها اكثر من أربعين اسما من الذكور و الاناث. و يحصل مع كل من اعرفهم ممن يتبادلون الرسائل الالكترونية العامة الحاوية على تبادل المعلومات و الموضوعات العامة والأخبار والصور و المقالات و الطرائف، ويحصل معكم انتم ايضا اذا كنتم من تلك الفئة التي تحب التراسل و التخاطب الالكتروني الاجتماعي اليومي.
ان مسالة طرح الأفكار و الآراء و المواضيع صارت في عصر الانترنيت اسهل و اسرع و اعمق بكثير من اي ممارسة اعلامية أخرى على مر العصور فحرية طرحها اندرجت تحت تصنيفات من الصعوبة احصائها بدءا من الأفكار البناءة العظيمة الى الافكار الهدامة الضحلة و تنوعت حسب المعتقدات و الآراء و صنفت في حقول عدة مثل الفنون و الآداب و العلوم و الفقه و الفلسفة بحيث انك تجد الأفكار الدينية جنبا الى جنب مع الفكر الإلحادي أو الدعوات الى اديان جديدة و انبياء كذابين و علماء مزيفين و فنانين و ادباء و علماء عظام، كما انك تجد المقالات و الصور التي تتحدث عن العفة و الفضيلة و الحب جنبا الى جنب مع المواقع الاباحية التي يعتبرها البعض مخدشه للحياء و الذوق العام في حين يعتبرها آخرون مفيدة و لذيذة و عادية و ممتعة. وكذلك يمكنك وبضغطة زر وانت جالس في بيتك ان تفعل الكثير؛ أن تقرأ ، أن تلهو، ان تشاهد أحدث أو أقدم الافلام او تستمع الى مقطوعة موسيقية او أغنية لمطربك المفضل، بل انك يمكن ان تدير عملك من خلال حاسبتك الشخصية او تتعارف أو تعقد الاجتماعات الوظيفية وجها لوجه او تتواصل مع العالم و تعرف آخر مستجداته و أخباره أو تشتري السلعة التي تريد أو حتى أن تقود ثورة عارمة تعمل على تغيير أنظمة متجبرة كانت تهيمن على دول و شعوب.
هذا كله سيضع مستخدم هذه الوسيلة العظيمة ( الشبكة العنكبوتية) أمام خيارين لا ثالث لهما:
أما ان يكيف نفسه و يتأقلم مع هذا الكم الهائل من التباين في الافكار والمعلومات و الاستخدامات فيعيد صياغة معادلة أفكاره التي تتحكم في مقدار تقبله للرأي و الرأي الآخر بحيث انه يصبح مسيطرا على غضبه و يحدَّ من عدوانيته او شعوره بالـ”أنا” العليا حينما يواجه أفكارا تتناقض تماما مع ما يحمله أو ما يؤمن به و شبَّ عليه و أن يبدأ بالنقاش الهادئ الموضوعي أو على الاقل يبقى متفرجا يقلب بالأفكار و الآراء لمجرد الاطلاع.
و أما ان … ينصرف.
لكن الذي يحصل و حسب خبرتي منذ أن بدأت بالتعامل مع الانترنيت و البريد الالكتروني منذ اواخر التسعينات وجدت انني كدت افقد الكثير من الاصدقاء الذين احبهم و الذين تربطني بهم علاقات وثيقة وحميمية و الذين يحملون افكارا معينة أو تربية بيتية أو ثقافية معينة مثلما أنا ايضا حملت أفكاري الخاصة التي نشأت عليها، انني كثيرا ما كدت أفقد بعضهم بسبب ايميل لا يتلاءم و أفكارهم او اتجاهاتهم قد يكون سياسيا او وطنيا أو دينيا او تربويا او تحرريا. و طبعا أجد هذا الأمر قد بدأ ينتشر مع انتشار استخدام الانترنيت في تلك الدول، لأن طرح الافكار بحرية لم يكن متاحا في السابق بسبب القمع الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة بحيث إن أي طرح لأفكار مناقضة يعتبرونه إهانة أو تجريح للمشاعر دون اعطاء الفرصة لمناقشة الافكار و الآراء والسبب لأن رأي الأكثرية في قطاع معين يجب ان لا يناقش وان كل نقيض له يعتبر محظورا.
ولكن في واقع الأمر ان طرح الرأي و فسح المجال للآراء والافكار الأخرى للتعبير عن نفسها صار اليوم متيسرا للجميع في أي لحظة من عصرنا الراهن عصر المعلوماتية و حتى في الدول ذات الانظمة الغاشمة التي اسقط في يديها إثر التطور التكنلوجي الذي شهده و يشهده العالم فلم يعد بإمكانها السيطرة على التدفق العظيم لمحتويات الانترنيت وفقدوا كل امكانية لهم في حجب هذا المواقع أو ذاك او منع استخدام اي وسيلة من الوسائل المتاحة من الشبكة العالمية و تحت أي ذريعة أو حجة سواء كانت سياسية أو دينية أو اخلاقية و غير ذلك، تسونامي لا يمكن الصمود امامه، ولكن هذا التسونامي ليس مدمرا أو سيئا برمته وانما فائدته اكبر بكثير من مساوئه كما يلمس العالم اجمع.
و على سبيل المثال لا الحصر ؛ تتراوح نسبة تقبل الفتاة أو المرأة العربية أو العراقية (المستخدمة للأنترنيت بشكل منتظم) لمواقع اباحية، نكات قذرة، مواضيع جنسية في مواقع طبية أو علمية أو حتى تبادل الحديث المثير للشهوة الجنسية عبر الماسنجر ما بين الرفض القاطع الشديد اللهجة او الإهمال الكلي لتلك المواضيع و بدون اثارة اي نوع من النقاش نظرا لتميز المرأة العراقية او العربية بقيم تربوية خاصة غرزتها فيها التربية الاجتماعية و الدينية في البلاد العربية والاسلامية و الذي كان من ثماره تلك القيمة الرائعة للمرأة في مجتمعنا ألا وهي الحياء و بين التقبل ولكن بصمت بالنسبة لجزء قليل من المستخدمات للشبكة العنكبوتية.
و هذا ينطبق على المواضيع الفكرية السياسية او الدينية او الاجتماعية العامة بالنسبة لكلا الجنسين، ويكفي ان تطلع على تعليقات القراء على مقال معين في اي موقع الكتروني في مجالات مختلفة كالدين والسياسة و المجتمع لتعرف مقدار التباين بالآراء بين مختلف القراء و المعلقين.
ما اريد الوصول اليه بعد كل هذا هو “ردة الفعل” على طروحات معينة عبر البريد الالكتروني او مواقع الانترنيت اتلقاها كل يوم ، فهناك من يحتج بشدة و هناك من يتقبل و هناك من يناقش و هناك من يزعل و هذا هو الطريف في الموضوع. المصيبة انني عندما أقدم Forward)) رسالة فيها موضوع ما ( لست كاتبه) عبر البريد الالكتروني الى مجموعتي فإنني أحيانا اواجه بردود افعال مختلفة ومتباينة و غريبة في أحيان اخرى، فالبعض يؤيد و يعقب بإيجابية و لكن الغريب ان البعض ينصحني ان أبتعد عن تلك الافكار او المواضيع، و صديق آخر يحذرني من الترويج لها، الآخر يحذرني من أن ارسل له مثل تلك الافكار بعد الآن، و هناك من يكيل لي كلاما قاسيا لمجرد انني ارسلت مقالا لكاتب معين لأنه ليس على وفاق مع افكار ذلك الكاتب، و البعض يلومني بودّ لأنني ارسل له معلومات قديمة او نكتة قديمة أو خبر بايت أحيانا، سيدات و آنسات في مجموعة الارسال يتهمنني بقلة الحشمة لأنني اخطئ بعض الاحيان و ارسل نكتة أو صورة او كاريكاتير يفتقر الى الحشمة – في الحقيقة انه يتم يتبادل هذه المواد بين النساء مثلما يتبادلها الرجال تماما– و المفروض أن ارسلها لعدد محدود و خاص من قائمتي و لكنني و من دون قصد نسيت رفع اسمائهن من حقل العناوين، أصدقاء من طائفة معينة يعتبروني طائفيا أو مناوئا لأنني ارسلت ايميلا ينتقد احد المعممين الذين يضحكون على ذقون البسطاء بقصص غريبة عجيبة تستهزئ بعقلي و عقول الآخرين و تهين ذكائهم و تمعن في تخلف المجتمع ولا يتقبلون ان يتصدى أحد لتلك الافكار الشاذة لمجرد انهم يؤمنون بها و يقدسوها ( يعني علي أن اؤمن بها و أحترمها واقدسها رغم أنفي) و وأصدقاء من طائفة أخرى يتهمونني بأنني لست عراقيا ولا عربيا لأنني أرسلت موضوعا ينتقد أحد دهاقنة الفتاوي المضحكة كالذي يدعو الى رضاعة الكبير او الارض المسطحة او طرحت موضوعا يمجد آل البيت، صديق آخر (يأمرني) نعم يأمرني و بلهجة تشبه لهجة مديري في المدرسة الابتدائية بعدم ارسال ايميلات فيها نظريات محسوبة على الملحدين في المستقبل و كأنني استلم منه راتبا شهريا مقابل الايميلات التي ارسلها له يوميا و صديق آخر قد يكون متدينا او يشعر الحياء الزائد عن اللزوم يرفض إيميلا فيه صور نساء غير محتشمات لأنها بنظره صورا لا أخلاقية و يحذرني من ان ارسل له مثل تلك الايميلات لئلا أخدش حيائه لأنه يعتقد حسب ظني باننا لسنا من نفس المستوى الأخلاقي بسبب ذلك الايميل و هكذا هلم جرا.
وهنا يطلب أصدقائي مني المستحيل، يطلبون مني ان امحص رسائلي التي ابعثها و أحلل شخصية كل صديق و ان لا اخطئ أو انسى حذف صديقة أو صديق لا يتقبلون هذا المستوى من الكلام او المواضيع و أن اقوم ببعض الحسابات الدقيقة قبل الارسال، هذا يناسب زيدا و لكن مهلا فهذا لا يناسب عبيد و هذا يجب ان يذهب الى عمر ولكن مع بعض التعديلات لكي لا يزعل، و لكن زينب سوف تزعل من ذلك السطر في هذا الايميل رغم ان الموضوع مهم نوعا ما بالنسبة لها و ستخجل منه أو لا تتقبله و كأنني قد نصبت مجسا انتقائيا للرسائل حسب الشخصيات و الأهواء في بريدي الالكتروني و على هذا فسأحتاج الى ساعتين او ثلاث لكل أيميل أبعثه بعد تلك الدراسات التي يجب ان اجريها عن الموضوع و علاقته الجدلية بتقبل الموجودين في القائمة من الاصدقاء لمحتوياته.
و المصيبة ان الكل يعلم علم اليقين بان محتويات الرسائل التي ارسلها لهم لا تعدو ان تكون أكثر من ذرة معلوماتية صغيرة في محيط الانترنيت المتلاطم بالأفكار و المواضيع والصور التي تعد بالمليارات و مما يشيب لها الطفل الرضيع و فيها من الافكار الأكثر تطرفا اذا كان ايميلي متطرفا و الاكثر مجونا اذا كان ايميلي ماجنا بملايين المرات و السعرات الحرارية، و ان ما ارسله لهم في ايميلي انما هو من الانترنيت نفسها و موجود تحت اصابعهم و يمكن ان ينطلق امام اعينهم بمجرد كبسة زر و انهم في لحظتها – و أنا واثق مما أقول- سيمعنون النظر اليها رجالا كانوا أم نساء و سيطيلون البحلقة في الصور وبكل تفاصيلها و يقرأون المواضيع بحذافيرها دون ان ينبسوا ببنت شفة أو يناقشوا أحد في الأمر أو يعترضوا لا على كاتب المقال ولا على الموقع ولا على الناشر.
و لكن عندما أنا أرسل لهم الموضوع الذي لست أنا كاتبه او لست انا من قام بإعداده أو وضع مفرداته عندها سوف ينهال علي اللوم والتأنيب و الاحتجاجات و كافة انواع و مستويات الاستنكار و النقاش.
لماذا تغضب علي و تأمرني بعدم النشر؟ فهو منشور اصلا على ملايين الصفحات في الانترنيت ولست اول من ينشره فلماذا تنصب نفسك رقيبا على مالا رقابة عليه؟
لماذا تحتسب رأي الكاتب علي أنا و تأخذني بجريرته؟ فلربما أنني قدمته لك و لأصدقائي لأن لي به رأيا خاصا قد يكون معارضا له و أريد ان استأنس برأيك وآراء الاخرين، أو ربما لكي اثير نقاشا حوله او أنه اعجبني و رغبت ان اطلعك عليه ولم اعرف انك لا تتفق معه، وهذا شانك انت فلماذا تريدني ان اتطابق مع رأيك؟ أنا أرسلت لك هذه الرسالة لأنني أحبك و أحترمك و اهتم بك و أنت دائما في خاطري و ذاكرتي ويهمني رأيك ويهمني أن تقرأ ما اقرأ، فلماذا تحتج علي و تؤنبني؟
ولكن ، هناك الكثير ممن لا يعجبهم محتوى الرسائل التي تأتيهم من الاصدقاء و لكنهم يتناسون دائما مسألة بسيطة جدا – بسبب حبهم للنقد و توجيه اللوم للآخرين من الذين لا يتطابقون مع آرائهم و معتقداتهم لأنهم يعتقدون ان العالم سيؤول الى الخراب بدون رأيهم السديد- ألا و هي انه يتوفر في الكومبيوتر شيء اسمه “سلة المهملات” او ” سلة التكرير” هذه السلة النافعة و الرائعة التي تريح الرأس و القلب وقرص الحاسبة الصلب و التي تمسح الاشياء مع مؤثر صوتي لطيف يذكرنا بتكوير الورقة ورميها في سلة المهملات، فالايميل سواء كان قديما أو لا أخلاقيا أو يتعارض مع معتقداتي و لا ارغب بمناقشته مع احد أو الذي فيه ما لا ارغب برؤيته لأنه سوف يخدش حيائي أو ذوقي، يمكن أن اتخلص منه بكل سهولة و بصمت لا يمزقه إلا صوت تكويره و كبسه و رميه في سلة المهملات و بذلك سوف أبقي على صداقتي مع الآخرين و أحفظ ودّي لهم دون ان العب دور الحكيم الناصح و الموجّه العارف بخبايا الأمور والآراء أو الملاك الأبيض البريء أو أن أُعلِّم الآخرين كيف وماذا يكتبون وماذا يجب أن ينشروا و ما لا ينشرون.