إقتصاددراسات و تحقيقات

تحول النقد إلى رأس مال

تحول النقد إلى رأس مال د. خليل إندراوس

كتب ماركس في كتابه رأس المال: “إذا تركنا جانبًا المضمون المادي للتداول البضاعي، تبادل شتى القيم الاستعمالية، وأخذنا ننظر فقط في الأشكال الاقتصادية التي تولدها هذه العملية، لرأينا ان النقد هو الناتج الأخير لها. وهذا الناتج الأخير للتداول البضاعي هو الشكل الأول لتجلي رأس المال.   تعتبر التجارة المقدمة التاريخية لنشوء رأس المال. فالتداول البضاعي هو نقطة انطلاق رأس المال. والمقدمات التاريخية لنشوء رأس المال هي الإنتاج البضاعي والتداول البضاعي المتطور أي التجارة. وعندما تحولت التجارة إلى تجارة عالمية وتكون السوق العالمي للتجارة في بداية القرن السادس عشر، افتتح، أو كانت نقطة البداية للتاريخ الجديد لرأس المال. كتب ماركس في كتابه رأس المال: “إذا تركنا جانبًا المضمون المادي للتداول البضاعي، تبادل شتى القيم الاستعمالية، وأخذنا ننظر فقط في الأشكال الاقتصادية التي تولدها هذه العملية، لرأينا ان النقد هو الناتج الأخير لها. وهذا الناتج الأخير للتداول البضاعي هو الشكل الأول لتجلي رأس المال. وتاريخيًا يقف رأس المال في كل مكان في مواجهة الملكية العقارية. في البداية بشكل النقد، كممتلكات نقدية، كرأسمال تجاري وربوي (ثمة مثلان فرنسيان شائعان يعبران جيدًا عن التضاد بين سلطة الملكية العقارية القائمة على علاقات الخضوع والسيطرة الشخصيين وبين السلطة عديمة الشخصية للنقد. لا ارض بدون سيد” – “ليس للنقد صاحب”. ولكن لا حاجة للرجوع إلى تاريخ نشوء رأس المال للاقتناع بان النقد هو الشكل الأول لتجليه. فهذا التاريخ ماثل أمام نظرنا يوميًا. وكل رأس مال جديد عندما يظهر للمرة الأولى في الحلبة، أي في سوق البضائع، سوق العمل أو السوق النقدية، إنما يظهر دائمًا بصورة النقد، النقد الذي يجب عليه ان يتحول بواسطة عمليات معينة إلى رأس مال”. لذلك عندما يدخل النقد سوق التداول البضاعي، سوق العمل أو السوق النقدية يتحول إلى رأس مال. فكما كتب ماركس: “في البداية لا يتميز النقد كنقد والنقد كرأس مال عن بعضهما البعض سوى باختلاف شكل التداول”. “فالشكل المباشر للتداول البضاعي هو ب – ن –  ب، أي تحول البضاعة إلى نقد والتحول العكسي للنقد إلى بضاعة، أي البيع من اجل الشراء. بيد اننا نجد إلى جانب هذه الشكل شكلا آخر يتميز نوعيًا عنه وهو ن – ب- ن، أي تحول النقد إلى بضاعة والتحول العكسي للبضاعة إلى نقد، أي الشراء من اجل البيع. وان النقد الذي يقوم في حركته بهذه الدورة الأخيرة يتحول إلى رأسمال ويصبح رأسمالا ويمثل من حيث غايته رأس مال. لنمعن النظر عن كثب في تداول ن – ب – ن. انه يمر على غرار التداول البضاعي البسيط بطورين متضادين. الطور الأول ن – ب، الشراء، هو تحول النقد إلى بضاعة. والطور الثاني ب – ن – أو البيع، هو التحول العكسي للبضاعة إلى نقد . وتشكل وحدة الطورين كليهما حركة موحدة يبادل فيها النقد بالبضاعة ومن ثم تبادل هذه البضاعة نفسها بالنقد من جديد، أي ان البضاعة تشترى من اجل البيع، أو إذا تركنا جانبًا الفوارق الشكلية بين الشراء والبيع، فبالنقد تشترى البضاعة وبالبضاعة يشترى النقد. (يشترون بالنقد البضاعة ويشترون بالبضاعة النقد). وان النتيجة التي تتلاشى فيها العملية كلها هي مبادلة النقد بالنقد، ن – ن فإذا اشتريت بـ 100 جنيه إسترليني 2000 رطل من القطن وبعت من ثم هذه الـ2000 رطل من القطن بـ110 جنيهات استرلينية فانني أكون قد بادلت في نهاية المطاف 100 جنيه إسترليني بـ110 جنيهات إسترليني، أي بادلت النقد بالنقد”. ويستمر ماركس ويقول: “فلننظر في البداية ما هو مشترك بين هذين الشكلين: ان الدورتين كلتيهما تنقسمان إلى الطورين المتضادين نفسيهما: ب – ن البيع، و ن – ب الشراء. وفي كل من هذين الطورين يقف نفس العنصرين الماديين في مواجهة بعضهما البعض، أي البضاعة والنقد، وكذلك شخصان يظهران بنفس القناعين الاقتصاديين المميزين لهما، أي الشاري والبائع. كما ان كلتا الدورتين تعتبر وحدة الطورين المتضادين نفسيهما، وفي كلتا الحالتين تتحقق هذه الوحدة بواسطة ثلاثة أطراف، الواحد منهم يبيع فقط والثاني يشتري فقط، أما الثالث فهو يشتري ويبيع بصورة متناوبة.                                                               *** ولكن ما يقسم منذ البداية الدورتين ب – ن – ب و ن – ب – ن هو ذلك التركيب العكسي لطوري التداول المتضادين نفسيهما، فالتداول البضاعي البسيط يبتدئ بالبيع وينتهي بالشراء، بينما يبتدئ تداول النقد كرأسمال بالشراء وينتهي بالبيع. فالبضاعة هناك والنقد هنا يشكلان نقطة انطلاق الحركة ونقطة نهايتها. وفي الشكل الأول يضطلع النقد بدور الوسيط في العملية بأسرها وعلى العكس ففي الشكل الثاني تضطلع البضاعة بهذا الدور”. وفي تداول ب – ن – ب يتحول النقد في نهاية المطاف إلى بضاعة تستخدم كقيمة استعمالية. فإذًا، يجري إنفاق النقد هنا نهائيًا، وعلى العكس ففي الشكل المضاد ن – ب- ن لا ينفق الشاري النقد إلا ليحصل على النقد بصفته بائعًا. وعندما يشتري البضاعة يلقي النقد في التداول بغية استخلاصه من هناك مجددًا عن طريق بيع البضاعة ذاتها. ولا يطلق النقد من يديه إلا بقصد خفي هو الاستحواذ عليه من جديد. وعلى ذلك، فالنقد إنما يجري تسليفه وحسب هنا” (عندما يشترون شيئًا ما بهدف بيعه من جديد، فان المبلغ المستخدم في هذه الحالة يسمى بالنقد المسلف، أما إذا كان الشيء يشترى ليس لبيعه من جديد، فيمكن القول ان النقد قد أنفق –  Games Stuart. Works etc, Edited by General Sir James Stuart, his Son. London 1805, v. 1, p. 274). وفي الشكل ب – ن – ب يغير النقد نفسه مكانه مرتين. فالبائع يتسلمه من  الشاري ويدفعه لبائع آخر. والعملية كلها بوجه عام التي تبتدئ بتسلم النقد مقابل البضاعةـ تنتهي بتسلم النقد مقابل البضاعة. أما العملية في الشكل ن – ب – ن، فتجري بصورة معكوسة. فليس النقد نفسه، بل البضاعة نفسها تغير هنا مكانها مرتين. فالشاري يتسلمها من يدي البائع ويسلمها من جديد إلى يدي شار آخر. وكما هو الأمر في التداول البضاعي البسيط حيث ان تنقل النقد نفسه مرتين يؤدي إلى انتقاله النهائي من أيد إلى أخرى، كذلك يرجع هنا تغيير البضاعة نفسها للمكان مرتين بالنقد إلى نقطة انطلاقه”. ولا تتوقف عودة النقد إلى نقطة انطلاقه على ما إذا كانت البضاعة تباع بثمن أغلى مما اشتريت به، أم لا. فهذا لا يؤثر إلا على مقدار المبلغ النقدي العائد. وان ظاهرة العودة تحدث لان البضاعة المشتراة تباع من جديد، أي لأنه تحدث الدورة ن – ب – ن بكاملها. إذًا نجد هنا فرقًا يُدرك بالإحساس بين تداول النقد كرأسمال وبين تداوله كمجرد نقد. “إن نقطة انطلاق الدورة ب – ن – ب بضاعة، ونقطة نهايتها بضاعة أخرى تخرج من التداول وتدخل في الاستهلاك. وبذلك، فإن الاستهلاك، الاستعمال، تلبية الحاجات، وبكلمة: القيمة الاستعمالية هي الهدف النهائي لهذه الدورة. وعلى العكس، فان نقطة انطلاق الدورة ن – ب – ن هي القطب النقدي، وهذه الدورة تعود في نهاية المطاف إلى القطب نفسه (القطب النقدي). ولذا فالقيمة التبادلية بالذات هي الباعث المحرك للدورة وهدفها الرئيسي. في التداول البضاعي البسيط يتخذ القطبان كلاهما شكلا اقتصاديًا واحدًا. فهما كلاهما بضاعتان. علمًا بأنهما بضاعتان متعادلتا القيمة. ولكنهما بالمقابل قيمتان استعماليتان مختلفتان كيفيًا مثل القمح والثوب (مثلا إذا بعت كوارترًا من القمح مقابل 3 جنيهات إسترلينية واشتريت بهذه الجنيهات الإسترلينية الثلاث ثوبًا ، فان هذه الجنيهات الإسترلينية الثلاث قد أنفقت نهائيًا بالنسبة لي، وليس لي بعد ذلك أية علاقة بها. فهي تعود لتاجر الثياب. وإذا بعت كوارترًا ثانيًا من الحنطة فان النقد سيعود إليّ، ولكن ليس بنتيجة الصفقة الأولى، بل بسبب تكرارها فقط. ويبتعد النقد عني من جديد إذا أنجزت هذه الصفقة حيث قمت بشراء جديد – وعلى ذلك، فان إنفاق النقد في التداول ب – ن – ب لا علاقة له إطلاقا بعودة النقد، بل على العكس فعودة النقد في التداول ن – ب – ن تنجم عن طابع إنفاقه بالذات. وبدون هذه العودة يجب الاعتراف بان العملية بأسرها فشلت أو انها عملية قطع جريانها ولم تكتمل بعد نظرًا لانعدام طورها الثاني: البيع الذي يكمل وينهي الشراء. إن نقطة انطلاق الدورة ب – ن – ب بضاعة، ونقطة نهايتها بضاعة أخرى تخرج من التداول وتدخل في الاستهلاك. وبذلك، فان الاستهلاك، الاستعمال، تلبية الحاجات، وبكلمة: القيمة الاستعمالية، هي الهدف النهائي لهذه الدورة. وعلى العكس فان نقطة انطلاق الدورة ن – ب – ن هي القطب النقدي، وهذه الدورة تعود في نهاية المطاف إلى القطب نفسه (أي النقد) ولذا فالقيمة التبادلية بالذات هي الباعث المحرك للدورة وهدفها الرئيسي.  وفي التداول البضاعي البسيط يتخذ القطبان كلاهما شكلا اقتصاديًا واحدًا، فهما كلاهما بضاعتان، علمًا بأنهما بضاعتان متعادلتا القيمة، ولكنهما بالمقابل قيمتان استعماليتان مختلفتان كيفيًا، مثلا القمح والثوب. وان تبادل المنتجات، تبادل المواد المختلفة التي يتجسد فيها العمل الاجتماعي، يشكل هنا مضمون الحركة. والأمر مغاير لذلك في التداول ن – ب – ن. فهو يبدو للوهلة الأولى عديم المضمون نظرًا لطابعه المتكرر. فللقطبين شكل اقتصادي واحد. فهما كلاهما نقد وبالتالي لا يعتبران قيمتين استعماليتين مختلفتين كيفيًا لان النقد هو ذلك المظهر المحوَّل للبضائع الذي تلاشت فيه جميع القيم الاستعمالية المتميزة لهذه البضائع. فالعملية التي تجري خلالها أولا مبادلة 100 جنيه إسترليني بالقطن، ومن ثم مبادلة هذا القطن من جديد بـ100 جنيه إسترليني، أي مبادلة النقد بالنقد بطريق غير مباشر، مبادلة الشيء بالشيء نفسه، ان هذه العملية تبدو عديمة الهدف وخرقاء على حد سواء. • بتصرف عن كتاب كارل ماركس، رأس المال – المجلد الأول، الجزء الأول. صفحة 212-255. –  

حول النقد إلى رأس مال (2)  

(الحلقة الثانية)

د. خليل إندراوس 

القيمة تصبح في واقع الأمر ذاتًا لعملية ما تغير فيها على الدوام الشكل النقدي بالشكل البضاعي وبالعكس، وتغير هي نفسها مقدارها، وتدفع نفسها بوصفها القيمة الزائدة عن نفسها بوصفها القيمة الأولية، أي أنها تزداد تلقائيًا.

ولا يمكن لمبلغ نقدي ان يتميز بوجه عام عن مبلغ نقدي آخر إلا من حيثُ الحجم. ولذا فعملية ن – ب – ن مدينة بمحتواها ليس للفرق الكيفي بين نقطتيها المتطرفتين – حيث إن كلتيهما نقد – بل فقط للفرق الكمي بينهما. ونتيجة هذه العملية يستخرج من التداول نقد أكثر مما القي فيه في البداية. فالقطن الذي تم شراؤه مثلا بـ 100 جنيه إسترليني يباع من جديد بـ 100 + 10 جنيهات إسترلينية أو بـ  110 جنيهات إسترلينية. ولذلك يعبر عن الشكل الكامل لهذه العملية على النحو التالي: ن – ب- ن’، حيث ن’ = ن + Δن، أي يساوي المبلغ الموظف في البداية زائدًا بعض الزيادة. واني اسمي هذه الزيادة، أو الفائض على القيمة الأولية بالقيمة الزائدة (Surplus Value). فالقيمة الموظفة في البداية لا تقتصر على بقائها في التداول وحسب، بل أنها تغير حجمها أيضًا، وتضم لنفسها القيمة الزائدة، أو أنها تزداد، وهذه الحركة بالذات هي التي تحولها إلى رأسمال.

إن تكرار أو تجدد البيع بقصد الشراء، شأنهما شأن هذه العملية ذاتها، يجدان المقياس والمغزى في الهدف النهائي القائم خارج هذه العملية، أي في الاستهلاك، في تلبية حاجات معينة. وعلى العكس فعند الشراء بقصد البيع تمثل البداية والنهاية شيئًا واحدًا هو النقد و القيمة التبادلية، ولهذا السبب وحده تصبح هذه الحركة بلا نهاية. 

ومهما يكن الأمر فمن: ن نتج ن + Δن، من 100 جنيه إسترليني نتجت 100 + 10 جنيهات إسترلينية، بيد أن الـ 110 جنيهات استرلينية إذا تناولناها من الناحية الكيفية وحسب هي نفس الـ 100 جنيه إسترليني أي النقد. ومن الناحية الكمية أيضًا فان الـ  110 جنيهات إسترلينية هي مبلغ محدد من القيمة مثل الـ 100 جنيه إسترليني.

وإذا أنفقت هذه الـ 110 جنيهات إسترلينية كنقد لكفّت عن أداء دورها. ولكفت آنذاك عن ان تكون رأسمالا. فإنها إذا ما سحبت من التداول تجمدت على هيئة كنز ولن تزيد قرشًا واحدًا ولو بقيت مخزّنة إلى يوم القيامة.

إذًا، بما ان الأمر يتعلق بازدياد القيمة فان الحاجة إلى هذا الازدياد تلازم الـ 110 جنيهات إسترلينية كما تلازم الـ 100 جنيه إسترليني لان هذين المبلغين كليهما هما تعبيران محددان عن القيمة التبادلية، فلهما، بالتالي، ميل واحد هو الاقتراب من الثراء المطلق عن طريق زيادة حجمهما. صحيح ان القيمة الموظفة في البداية بمبلغ 100 جنيه إسترليني تختلف للحظة واحدة عن 10 جنيهات إسترلينية من القيمة الزائدة التي نمت على القيمة الموظفة في سياق التداول، إلا ان هذا الاختلاف لا يلبث ان يتلاشى على الفور من جديد. ولا تسفر العملية عن ان نجد في احد الجانبين القيمة الأولية بمبلغ 100 جنيه إسترليني وفي الجانب الآخر القيمة الزائدة بمبلغ 10 جنيهات إسترلينية. بل تنجم قيمة واحدة بـ 110 جنيهات إسترلينية.

ولهذه القيمة شكل صالح لبدء عملية الازدياد من جديد كما للـ 100 جنيه إسترليني الأولية. وما ان ينهي النقد الحركة حتى يشكل بداية جديدة لها (الرأسمال..

ينقسم إلى الرأسمال الأولي والربح، أي زيادة الرأسمال.. غير ان الواقع العملي يضم على الفور هذا الربح إلى الرأسمال من جديد ويدفعه وإياه إلى الدوران – ف. انجلز “مسودات مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” في مجلة: Deutsch Franzo Sische Jahrhucher  التي يصدرها ارنولد روغة وكارل ماركس، باريس 1844).

وبالتالي، فان نهاية كل دورة منفردة يتحقق فيها الشراء بقصد البيع، تشكل بحد ذاتها بداية دورة جديدة. وان التداول البضاعي البسيط – أي البيع بقصد الشراء – إنما هو وسيلة لإحراز الهدف النهائي القائم خارج التداول، أي لامتلاك القيم الاستعمالية، لتلبية الحاجات. وعلى العكس فتداول النقد بمثابة رأس مال هو هدف بحد ذاته نظرًا لان ازدياد القيمة لا يتحقق إلا في حدود هذه الحركة المتجددة على الدوام. ولذا لا تعرف حركة الرأسمال الحدود.

وهنا لا بد من ان نذكر ما قاله أرسطو، حيث يضع أرسطو الاقتصاد في مواجهة فن تكوين الثروة. وهو ينطلق من الاقتصاد. وبما ان الاقتصاد يمثل فن الاقتناء فهو ينحصر في اقتناء الخيرات الضرورية للمعيشة أو النافعة للبيت والدولة. “ان الثروة الحقيقية تتألف من مثل هذه القيم الاستعمالية، لان كمية الملكية من هذا النوع الضرورية للمعيشة الجيدة ليست غير محدودة. إلا انه ثمة فن اقتناء من نوع آخر يسمونه عادة وبصورة صحيحة تمامًا فن تكوين الثروة، ليس لهذا الأخير على ما يبدو حدود للثراء والملكية. وإن “التجارة البضاعية” تعني حرفيًا تجارة المفرق، وأرسطو يستخدم هذا الشكل لان الدور الحاسم فيه تلعبه القيمة الاستعمالية “لا تعود من حيث طبيعتها إلى فن تكوين الثروة، نظرًا لان التبادل لا يشمل هنا سوى المواد الضرورية لهم أنفسهم” (الشارين والبائعين).

ويضيف قائلا: لذلك كل الشكل الأولي للتجارة البضاعية هو التجارة التبادلية، ولكن مع اتساعها ينشأ النقد بالضرورة، ومع اختراع النقد كان على التجارة التبادلية ان تتطور حتمًا إلى التجارة البضاعية، وهذه الأخيرة انقلبت، خلافًا لميلها الأولي، إلى فن تكوين الثروة. ثم ان فن تكوين الثروة يتميز عن الاقتصاد بان “التداول هو مصدر الثراء بالنسبة له، وهو بمجمله مبني على النقد، لان النقد هو بداية ونهاية هذا النوع من التبادل، ولذا فالثراء الذي يسعى فن تكوين الثروة إليه هو غير محدود أيضًا.

وكما انه غير محدود في سعيه ذلك الفن الذي لا يعني هدفه الوسيلة، بل الهدف النهائي الأخير، لان مثل هذا الفن يسعى للاقتراب أكثر فأكثر من هذا الهدف – بينما ان تلك الفنون التي لا تهدف إلا إيجاد وسيلة من اجل هدف معين ليست غير محدودة لان الهدف ذاته يضع حدودًا لها – كذلك فان فن تكوين الثروة لا يعرف حدودًا لهدفه، حيث ان هدفه هو الإثراء المطلق.

وإن للاقتصاد، وليس لفن تكوين الثروة، حدًا.. فالأول يهدف إلى شيء ما يتميز عن النقد، بينما لا يسعى الثاني إلا لزيادة النقد.. وإن الخلط بين هذين الشكلين اللذين يتحول احدهما إلى آخر قد أتاح لبعضهم ذريعة اعتبار الحفاظ على النقد وزيادة كميته إلى ما لا نهاية بمثابة الهدف النهائي للاقتصاد

“. (Aristo Teles “De – Republic” الكتاب الأول الفصلان 8-9 في مواضع مختلفة).

وبما ان حركة رأس المال لا تعرف الحدود “فان مالك النقد، بوصفه حاملا واعيًا لهذه الحركة يصبح رأسماليًا. وان شخصه أو بالأحرى جيبه، هو تلك النقطة التي ينطلق النقد منها واليها يعود”. والمضمون الموضوعي لهذا التداول – ازدياد القيمة – إنما هو هدفه الذاتي، وبما ان الاستملاك المتزايد للشراء المجرد هو الباعث المحرك الوحيد لعملياته فلذلك – ولذلك فقط – يعمل كرأسمالي، أي كرأسمال مشخص يتمتع بالإرادة والوعي، ولذا، لا يجوز اعتبار القيمة الاستعمالية أبدًا الهدف المباشر للرأسمالي. (“ليست البضاعة” (بمعنى القيمة الاستعمالية هنا) “هي التي تتسم بالأهمية الحاسمة بالنسبة للرأسمالي الصناعي.. بل إن النقد هو هدفه النهائي”). والأمر كذلك أيضًا حيث ان الحصول على الربح المنفرد لا يعتبر هدفه، بل ان هدفه هو حركة هذا الربح الدائمة، وهذا السعي نحو الإثراء المطلق، وهذا الركض المتحمس وراء القيمة (إن الرغبة  الجامحة في الربح Auri Sacra Fames (العطش المقدس للذهب) تحكم نشاط الرأسماليين على الدوام) هما من الأمور المشتركة للرأسمالي وللمكتنز على السواء، ولكن بينما لم يكن المكتنز سوى رأسمالي متهوس، فإن الرأسمالي هو مكتنز، وإن ازدياد القيمة المتواصل الذي يسعى المكتنز لإجرائه عن طريق إنقاذ النقد من التداول، يحققه الرأسمالي الأكثر فطنة بواسطة إلقاء النقد في التداول المرة تلو المرة. (إن تلك اللانهائية التي لا تبلغها الأشياء عندما تتحرك في اتجاه واحد، تبلغها عن طريق الدوران”).

ففي تداول ن – ب – ن لا تعمل البضاعة والنقد إلا كأسلوبين مختلفين لوجود القيمة بالذات: النقد كأسلوب عام، والبضاعة كأسلوب خاص، أسلوب مموّه، إذا جاز القول، لوجودها (ليست المادة المعنية هي التي تؤلف الرأسمال، بل قيمة هذه المادة). وتنتقل القيمة على  الدوام من شكل إلى آخر، إلا أنها لا تضيع أبدًا في الحركة، وتتحول على هذا النحو إلى ذات يفعل بصورة آلية. وإذا سجلنا أشكال التجلي المنفردة التي تتخذها القيمة المتزايدة بالتناوب في ذروة حياتها لحصلنا على التعريفين التاليين: الرأسمال نقد والرأسمال بضاعة (” ان النقد المتداول المستخدم لهدف إنتاجي، هو رأسمال) James Mill “Elements of Falitial Economy”, بضائع الرأسمال London 1821, 1. P.55).

ولكن القيمة تصبح هنا في واقع الأمر ذاتًا لعملية ما تغير فيها على الدوام الشكل النقدي بالشكل البضاعي وبالعكس، وتغير هي نفسها مقدارها، وتدفع نفسها

بوصفها القيمة الزائدة عن نفسها بوصفها القيمة الأولية، أي أنها تزداد تلقائيًا.

ذلك لان الحركة التي تضم فيها إلى نفسها القيمة الزائدة هي حركتها هي، وبالتالي فان ازديادها هو ازدياد تلقائي. فهي قد حصلت على مقدرة سحرية على خلق القيمة نظرًا لأنها هي نفسها قيمة. إنها تلد انسالاَ حية، أو تضع بيوضًا من ذهب على اقل تقدير.

إن القيمة بوصفها ذاتًا فعالة لهذه العملية، التي تتخذ فيها الشكل النقدي والشكل البضاعي طورًا وتخلعهما طورًا آخر، وفي الوقت نفسه تبقي دائمًا وتزداد هذه التحولات تحتاج قبل كل شيء إلى شكل مستقل يمكن ان يعبر عن تطابقها مع نفسها. وليس لهذا الشكل إلا في صورة النقد.

ولذا، يشكل النقد نقطة انطلاق ونقطة الاختتام لعملية ازدياد القيمة أيًا كانت. فهي كانت تساوي 100 جنيه إسترليني بينما أصبحت الآن تساوي 110 جنيهات إسترلينية الخ. ولكن النقد ذاته لا يضطلع هنا سوى بدور احد شكلي القيمة، حيث انه يوجد شكلان اثنان ههنا، فإذا لم يتخذ النقد الشكل البضاعي لن يستطيع ان يصبح رأسمالا. وهكذا، لا يعارض النقد هنا البضائع جدليًا كما هو الحال عند الاكتناز. فالرأسمالي يعرف ان سائر البضائع، مهما يكن مظهرها رثًا ومهما تكن رائحتها كريهة، هي نقد من حيث الروح والحقيقة، وهي يهود ذوو ختان داخلي، يضاف إلى ذلك أنها وسيلة عجيبة تتيح ان تصنع من النقد كمية اكبر منه.

 بتصرف عن كتاب كارل ماركس، رأس المال – المجلد الأول، الجزء الأول. صفحة 212-255

تحول النقد إلى رأس مال  3 (الحلقة الثالثة.. والأخيرة) د. خليل إندراوس  لا يستطيع مالك النقد ان يحول نقده إلى رأسمال إلا إذا وجد في سوق البضائع عاملا حرًا، حرًا بمعنيين: بمعنى ان العامل فرد حر يتصرف بقوة عمله كبضاعة، ومن جهة أخرى بمعنى انه لا يملك للبيع أية بضاعة أخرى، أي انه لا يملك غير ريشه ومتحرر من جميع المواد الضرورية لتحقيق قوة عمله وإذا كانت قيمة البضائع في التداول البسيط تحصل في أحسن الحالات مقابل قيمتها الاستعمالية على شكل مستقل يتمثل في النقد، فإنها تظهر هنا فجأة كماهية تنمو تلقائيا ولا تكون البضائع والنقود سوى شكلين لها. والأكثر من ذلك، فبدلا من ان تعبِّر من خلالها عن العلاقة بين البضائع تظهر القيمة الآن في علاقة خاصة تجاه نفسها، إذا جاز القول. وهي تميز نفسها كقيمة أولية عن نفسها كقيمة زائدة على غرار ما يتميز الرب الأب عن نفسه بوصفه الرب الابن ولو انهما من سن واحدة وهما شخص واحد في حقيقة الأمر. ذلك لأنه فقط بفضل القيمة الزائدة بمبلغ 10 جنيهات إسترلينية تغدو الـ 100 جنيه إسترليني الموظفة رأسمالا، وما ان تصبح رأسمالا، وما ان يولد الابن، ومن خلال الابن الأب أيضًا، حتى يزول على الفور الفرق بينهما من جديد ويصبحان كلاهما شيئًا واحدًا: 110 جنيهات إسترلينية. وهكذا تصبح القيمة قيمة متحركة تلقائيًا، نقدًا متحركًا تلقائيًا، وبصفتها هذه تصبح رأسمالا. فهي تخرج من مجال التداول، وتدخله من جديد، وتحافظ على نفسها وتضاعف نفسها فيه، وترجع إلى الوراء بزيادة وتبدأ من جديد وجديد نفس الدورة. (الرأسمال… هو قيمة تضاعف نفسها بلا انقطاع – Sismondi: “Nouveaux Principes d’ Economie Politugue”, p. 89)، ن – ن’، النقد الذي يلد النقد – Money which begets money – ذلك هو الوصف الذي أطلقه على الرأسمال مفسروه الأوائل، أي المركنتليون. وهكذا، فان ن – ب – ن’ هي فعلا الصيغة العامة لرأس المال كما يتجلى مباشرة في مجال التداول. ولكن مالك النقد لن يفلح في استدرار القيمة من استهلاك البضاعة إلا إذا أسعده الحظ فاكتشف في حدود مجال التداول، أي في السوق، بضاعة تتمتع قيمتها الاستعمالية ذاتها بخاصية أصلية لان تكون مصدرًا للقيمة. وان مالك النقد يجد في السوق مثل هذه البضاعة الخاصة، انها القدرة على العمل، أو قوة العمل، اننا نقصد بقوة العمل، أو القدرة على العمل مجموع القدرات الجسدية والروحية التي تملكها عضوية الإنسان، شخصيته الحية والتي يستخدمها في كل مرة ينتج فيها قيمًا استعمالية ما. ولكن لا يمكن لقوة العمل ان تظهر في السوق كبضاعة إلا عندما وبقدر ما يحملها إلى السوق أو يبيعها صاحبها الخاص، أي ذلك الشخص الذي تعتبر قوة عمل له. ولكي يتمكن صاحبها من بيعها كبضاعة يجب ان يتمتع بإمكانية التصرف بها، وبالتالي يجب ان يكون مالكًا حرًا لقدرته على العمل، مالكًا لشخصيته. ويلتقي هو ومالك النقد في السوق ويدخلان فيما بينهما في علاقات كمالكي بضائع يتمتعان بحقوق متساوية ولا يختلفان إلا بشيء واحد هو ان احدهما شارٍ والآخر بائع، وبالتالي فهما شخصان متساويان حقوقيًا. ويتطلب الأمر من اجل الحفاظ على هذه العلاقة ان يقوم مالك قوة العمل ببيعها على الدوام لوقت معين فقط، لأنه إذا باعها بصورة كاملة مرة والى الأبد لكان باع نفسه أيضًا وتحول من إنسان حر إلى عبد، من مالك بضاعة إلى بضاعة. وباعتباره شخصية ينبغي عليه الاحتفاظ دومًا بعلاقة تجاه قوة عمله بوصفها ملكًا له، وبالتالي بوصفها بضاعته الخاصة، ولكن هذا غير ممكن إلا بقدر ما يسمح دومًا للشاري باستخدام قوة عمله أو باستهلاكها بصورة مؤقتة فقط، لأجل محدد فقط، إذًا بقدر ما، يتنازل عن حقه في ملكية قوة العمل عندما يغترب عنها. والشرط الثاني الضروري لكي يستطيع مالك النقد ان يجد في السوق قوة العمل كبضاعة يكمن في انه ينبغي ان يكون صاحب قوة العمل محرومًا من إمكانية بيع البضائع التي يتجسد فيها عمله، وعلى العكس، ينبغي ان يكون مضطرًا لبيع قوة العمل ذاتها كبضاعة والتي لا وجود لها إلا في عضويته الحية. ولكي يتمكن احدهم من بيع بضائع تتميز عن قوة عمله، يجب عليه، بالطبع، ان يملك وسائل للإنتاج، مثلا الخامات وأدوات العمل الخ. فلا يمكن صنع الحذاء بدون جلد. وبالإضافة إلى ذلك لا بد للعامل من وسائل المعيشة وليس بوسع احد، حتى ولا الحالم الذي يؤلف “موسيقى المستقبل”، ان يعيش بمنتجات المستقبل، لا يستطيع ان يعيش على حساب القيم الاستعمالية التي لم ينجز إنتاجها بعد، فمنذ اليوم الأول لظهور الإنسان على الكرة الأرضية كان عليه ان يستهلك يوميًا وان يستهلك قبل ان يبتدئ بالإنتاج وفي الوقت الذي ينتج فيه. وإذا كانت المنتجات تنتج كبضائع فيجب ان تباع بعد ان ينتهي إنتاجها، وفقط بعد بيعها يمكنها ان تلبي حاجات المنتج. وينضم إلى الوقت الضروري للإنتاج الوقت الضروري للبيع. وهكذا، لا يستطيع مالك النقد ان يحول نقده إلى رأسمال إلا في حالة إذا ما وجد في سوق البضائع عاملا حرًا، حرًا بمعنيين: بمعنى ان العامل فرد حر يتصرف بقوة عمله كبضاعة، ومن جهة أخرى بمعنى انه لا يملك للبيع أية بضاعة أخرى، أي انه لا يملك غير ريشه ومتحرر من جميع المواد الضرورية لتحقيق قوة عمله. وإذا تقدمنا في بحثنا وطرحنا على أنفسنا السؤال التالي: في ظل أية ظروف تتخذ كافة المنتجات، أو غالبيتها على اقل تقدير وشكل البضاعة، لوجدنا ان ذلك لا يجري إلا على اساس اسلوب انتاج مميز تمامًا، ألا وهو الأسلوب الرأسمالي للإنتاج. فلكي يتحول الناتج إلى بضاعة يجب ان يتطور تقسيم العمل داخل المجتمع إلى درجة بحيث إن التمايز بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية، هذا التمايز الذي يبتدئ في ظل التجارة التبادلية المباشرة، يكون قد اكتمل. وبالنسبة للرأسمال فالشروط التاريخية لوجوده لا تقتصر البتة على وجود التداول البضاعي والنقدي. إن الرأسمال لا ينشأ إلا هناك حيث يجد مالك وسائل الإنتاج ووسائل المعيشة في السوق عاملا حرًا بمثابة بائع لقوة عمله. ولذلك فان الرأسمال يؤذن منذ لحظة نشوئه بحلول عهد خاص في عملية الإنتاج الاجتماعية. (يشكل خاصية مميزة للعهد الرأسمالي واقع ان قوة العمل تتخذ بالنسبة للعامل نفسه شكل البضاعة الخاصة به، ولذا يتخذ عمله شكل العمل المأجور. ومن جهة أخرى فابتداءً من هذه اللحظة فقط يكتسب الشكل البضاعي لمنتجات العمل طابعًا عاماَ). إن القدرة على العمل لا تعني العمل بعد، وإذا تعذر بيع القدرة على العمل لن تعود على العامل بأي نفع “فالقدرة على العمل.. هي لا شيء إذ لا يمكن بيعها”.  (Rossi. “Cours d’Economie Politique”, Bruxelles, 1843, p. 370-371.) وهذه البضاعة الخاصة أي قوة العمل تتجلى قيمتها الاستعمالية فقط في مظاهر تجليها الفعالة اللاحقة. وعلى ذلك فان التخلي عن القوة وتجليها الفعلي، أي الوجود الفعلي بمثابة قيمة استعمالية، ينفصلان عن بعضهما البعض من حيث الزمن. فسعر قوة العمل يتم تحديده عند إبرام العقد، إلا انه لا يتحقق، مثل أجرة السكن إلا فيما بعد. فقوة العمل قد بيعت، إلا ان أجرتها لن يحصل عليها إلا بصورة متأخرة. وعملية استهلاك قوة العمل هي في الوقت ذاته عملية إنتاج البضاعة والقيمة الزائدة. وهكذا فمالك النقد يسير في المقدمة كرأسمالي، وصاحب قوة العمل يتبع أثره كعامل له، احدهما يبتسم ابتسامة ذات مغزى وتشتعل به الرغبة للشروع بالعمل، والآخر (أي العامل) يسير في اكتئاب ويحزن كشخص باع في السوق جلده الخاص ولذا لا يرى أمامه أي أفق سوى أمر واحد: ان هذا الجلد سيكون عرضة للدبغ. •  بتصرف عن كتاب كارل ماركس، رأس المال – المجلد الأول، الجزء الأول. صفحة 212-255. انتهى –  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى