أمن وإستراتيجية

بين الجنرالين فاتونين و ماينشتاين

تعتبر معركة ( كورسك ) من أكبر المعارك البرية في التاريخين القديم والحديث، وهي من المعارك التي حددت مسار الحرب العالمية الثانية ونتائجها، حيث جرت ما بين 5 يوليو 1943 و 23 أغسطس من نفس العام، بين القوتين الألمانية والسوفياتية في إطار الحرب العالمية الثانية، وتعتبر هذه المعركة آخر محاولات الهجوم المعاكس الألماني على الجبهة الشرقية بعد الانتصار الحاسم الذي أحرزه السوفييت في معركة ستالينغراد، كما تعتبر أكبر معركة دبابات شهدها التاريخ؛ فقد وظّف خلالها الألمان 50% من أسطول الدبابات الذي كان في حوزتهم.
حشدت القوات الألمانية في هذه المعركة حوالي 912.5 ألف جندي و ضابط، و دفعت بـ 2920 دبابة و 9900 مدفع في سهول (كورسك)، بدعم من 2110 طائرة من مختلف الأنواع، كما قامت القوات السوفياتية بحشد 1.9 مليون جندي و ضابط و 5100 دبابة و 25 ألف مدفع، ودعموا قواتهم بـ 3500 طائرة، وشكلوا خمس خطوط دفاعية متينة من الخنادق والألغام المضادة للأفراد والدبابات والأسلاك الشائكة.
إعداد : الرائد جميل خميس السعدي
بدأت المناوشات الأولية في 4 يوليو بالهجوم الألماني على الدفاعات الأمامية الروسية وأبراج المراقبة الموزعة على التلال القريبة، وقد تزامن ذلك مع قصف عنيف من المدفعية والطيران الألماني للتحصينات السوفياتية، ومحاولات التقدم على النطاقين الشمالي والجنوبي. وعند الساعة 22:30 انطلقت المدفعية السوفياتية في قصف شامل للقوات الألمانية وذلك لإحداث الفوضى في صفوفها وتعطيل هجومها، غير أن القسم الأكبر من التواجد العسكري الألماني لم يكن قد بدأ في التقدم حتى تلك اللحظة.
أما المعركة الفعلية فقد اتّضحت في 5 يوليو، بأن بلغ الاشتباك ذروته بين سلاحي الجو الألماني والسوفياتي، وذلك بحثاً عن التفوق والسيطرة الجوية على سماء الجبهة، الأمر الذي أخفق في تحقيقه الطرفان كلاهما رغم التفوق النسبي للألمان.
كانت القوات الألمانية المهاجمة منقسمة لقسمين، الأول هو الجيش الشمالي بقيادة الفيلد مارشال جونتر فون كلوج، والثاني الجيش الجنوبي بقيادة الفيلد مارشال (إريك فون مانشتاين)
أما الروس فقد حشدوا للمواجهة عشرة جيوش ميدانية تحوي حوالي 80 فرقة بالإضافة إلي 4 جيوش جوية.
ساعة الصفر
بدأ الهجوم الألماني من الجو بواسطة صقور اللوفتفاف و طائرات البي أف-109 و طائرات الستوكا المضادة للدبابات . و رغم التفوق العددي الواضح للقوة الجوية السوفيتية علي نظيرتها الألمانية إلا أن النازيين استطاعوا تحقيق عدة انتصارات جوية حاسمة، بتدمير أكثر من 300 مقاتلة سوفيتية من طراز (إليوشين-2)، وتدمير مئات الدبابات السوفيتية، واستطاع اللوفتفاف تمهيد الطريق من (اوريل) إلى (كورسك).
القتال على الأرض
بدأ القتال البري في الساعة الثانية صباحا 5 يوليو 1943م ، حيث بدأ أولا بواسطة كتائب المدفعية الروسية والكاتيوشا ناحية الجيوش الشمالية الألمانية، حيث كانت المعلومات لدى السوفيت تقول إن التجمعات الألمانية الكبيرة موجودة هناك حيث سيبدأ الغزو الألماني (كانت معلومة خاطئة فرغم أن الجيوش الألمانية الشمالية كانت أكبر عدداً، كانت الجيوش الجنوبية بقيادة فون مانشتاين أحسن تجهيزاً بوجود معظم دبابات التايجر و البانزر مارك 5. وبعد ثلاث ساعات بدأ الألمان في الرد لمدة 80 دقيقة، ومع شروق الشمس اتضح للجميع أن القصف المدفعي على الجبهتين لم يكن دقيقاً، و لم يحقق أي خسائر تذكر في الطرفين بسبب الظلام و عدم الرؤية.
قررت القوات الجوية السوفيتية أن تكون صاحبة الكلمة الأولي حيث كانوا يأملون بعدة غارات صباحية سريعة علي مواقع اللوفتفاف و تدمير أكبر قدر ممكن من مقاتلات و قاذفات اللوفتفاف علي الأرض و لكن الألمان كانوا لهم بالمرصاد و إستطاعت مقاتلات البي إف-109 الألمانية الإقلاع و جرت معارك جوية شرسة فقد علي أثرها السوفيت حوالي 170 مقاتلة مقابل 26 طائرة لللوفتفاف فقط !!!
و رغم التفوق المهاري الملحوظ لطياري اللوفتفاف، فإن نقص الوقود و قطع الغيار اللازمة و الأعداد السوفيتية الرهيبة منعهم من تقديم الدعم الجوي اللازم للقوات البرية الالمانية. بدأ الهجوم الألماني من الشمال، واستطاعت القوات النازية تحطيم الفرقة 15 مشاة السوفيتية و تدمير حوالي 45 دبابة تي-34 مقابل خسارة دبابتين (تايجر) فقط، وفي خلال ثلاث ساعات قام الجيش النازي بعبور عبر خط الدفاع الأول.
استطاع الألمان في يومي 8 و 9 يوليو الاستيلاء علي مدينتي (بونري) و (تيبلوي)، وبحلول يوم ال10 من يوليو كانت القوات السوفيتية قد نجحت تماما في إيقاف أي تقدم للجنرال (موديل) من الشمال. و لكن القوة الألمانية الحقيقية كانت في الجنوب. كانت المفاجأة ثقيلة على الروس، فكل معلوماتهم الاستخبارية كانت تدل على أن القوات الرئيسية للفيرماخت مرابطة في الشمال عند (أوريل) وليس في الجنوب.
خسائر فادحة
و بحلول فجر 5 يوليو كان الفيرماخت قد استطاع تكبيد الجيش السادس السوفيتي خسائر فادحة و دفعه للخلف 3 كيلومترات، و السيطرة علي بعض المرتفعات الإستراتيجية، لكن تقدمه كان بطيئاً جداً بسبب حقول الألغام السوفيتية. لم يتمكن العميل (لوسي) من معرفة خطوط السير الألمانية مما دفع السوفيت للخلف أكثر و فقدوا مدينتين صغيرتين وهما بوستوفو وجيرتوفسكا .
كانت المفاجأة عنيفة على السوفيت، مما دفعهم لشن هجوم جوي كبير علي المواقع الألمانية يوم 6 يوليو، ولكن طياري اللوفتفا كانوا لهم بالمرصاد، واستطاعوا السيطرة على سماء المعركة تماما. و مع الخسائر المتلاحقة اضطر السوفيت إلى الاستعانة بقوات الاحتياط. وبحلول فجر 11 يوليو كانت أجزاء كبيرة من قوات (هوث) بالقرب من (بروبورفكا) حيث امتلك (هوث) حوالي 300 دبابة جاهزين في أرض المعركة وحوالي 230 آخرين غرباً علي بعد بضعة كيلومترات، و ظن أنه قد كبد السوفيت الكثير من الخسائر وأن النصر قد أصبح وشيكا …. و لكن الروس كانوا قد حشدوا أكثر من 850 دبابة تي-34 في وجههم و أصبح التاريخ قاب قوسين أو أدنى من مشاهدة أكبر معركة للدبابات..
قرار هتلر التاريخي
ففي فجر 12 يوليو 1943م دارت المعارك الرهيبة علي مشارف (بروبورفكا) و كالعادة جاءت طائرات الستوكا كي تلقي التحية أولا على الدبابات السوفيتية …. ثم المدفعية كالعادة ….. ثم التقى الجيشان. وبنهاية يوم 12 يوليو كان السوفيت قد فقدوا 400 دبابة تي-34.
وعلى الرغم من أن الألمان قاموا بتكبيد الجيش الأحمر خسائر فادحة إلا أن حجم الجيش الأحمر كان كبيراً جداً، و لم يستطع الفيرماخت الصمود بهذه الطريقة طويلاً. ولأول مرة في تاريخ (هتلر) أدرك أنه لن يستطيع أن يكمل عملية (زيتاديل) بأي حال من الأحوال، فأمر قواته بإيقاف الهجوم. لم تكن الأمور حربية فحسب، بل كانت هناك عوامل أخرى دفعت (هتلر) إلى اتخاذ قرار بإيقاف الهجوم؛ فهبوط الحلفاء في (صقلية) لبدء الهجوم من إيطاليا كان يحتم عليه سحب بعض قواته من الجبهة الشرقية كي تصد هجوم الحلفاء الجديد.
انتظر السوفيت استئناف القتال يوم 13 يوليو، و لكن لم يحدث أبداً حيث بدأ الجيش النازي في الانسحاب، على الرغم من أنه استطاع تكبيد السوفيت خسائر فادحة بلغت أكثر من 250 ألف جندي قتيل و 600 ألف مصاب، و 6000 دبابة، و حوالي 1500 طائرة، و لكن على الجهة الأخري لم تكن خسائر الفيرماخت هينة … فلقد بلغت 198 الف جندي و 760 دبابة و حوالي 600 طائرة.
وفي يوم 13 يوليو 1943م بدأ السوفيت في الهجوم المضاد على قوات (موديل) في الشمال، حيث لم يكن الرجل مستعداً بأي خطط دفاعية، وبحلول يوم 16 يوليو 1943م كان الأمر قد تحول إلى هجوم سوفيتي شامل، و بحلول أغسطس كانت مدينتا (أوريل) و (خاراكوف) بأيدي السوفيت مرة أخرى، و بنهاية أغسطس 1943م كان السوفيت قد حرروا أكثر من 100 كم من الأراضي على خط مواجهة يبلغ 2000 كم، وأصبح السوفيت يتقدمون باستمرار منذ تلك اللحظة إلى أن احتلوا برلين نفسها بعدها بعامين فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى