أخبار العالمأمن وإستراتيجيةإقتصادفي الواجهة

بوتين و البيتيكوين

آزاد أحمد علي

سمة العالم الأساسية هي التغيير، لا شيء ثابت، ولا يمكن لظاهرة أو هيكل مادي أو منظومة فكرية أو معنوية أن تبقى جامدة وخالدة في مواجهة المتغيرات. الخلاف والاختلافات بصدد هذه الحقيقة ظلت منصبة على درجة التغيير. فالعالم تغير كثيراً، وسيتغير أكثر بدون أدنى شك. وليست هنا المعضلة، وانما في أن نصف مشكلات مجتمعاتنا بدون مبالغة ظلت منصبة على البحث في درجات التغيير لهذا العالم القائم، فتم التركيز على تجاوز الموروث السياسي والفكري وبالتالي أنماط الحكم. لقد سعى المفكرون والقادة إلى التغيير حتى أقصى درجة من درجاتها، وهذا ما اصطلح على تسميته (بالثورة)، التي رافقتها أعمال عنف بأشكال متفاوتة. نفترض أنه مع التراكم الحضاري ومرور الأزمنة بات مصطلح (الثورة) مفهوماً اشكالياً، بل استقر في المعاجم وانتمى إلى الخطاب الشعري أكثر من ارتباطه بظواهر اجتماعية وحركات تغييرية.
ما أود ترجيحه بهذا الصدد، هو أنه: لم تعد الثورات حقيقة قائمة، ولم تعد الثورات حركات نقية بذاتها، سواء كظواهر اجتماعية أو كمفاهيم ومنظومات نظرية وتنظيرية، فضلاً عن الممارسة العملية. حيث لم تعد هنالك أي ثورة كتجربة تغييرية رشيدة مستكملة البنيان. وعلى الرغم من هذا الخلل فالعالم يتغير، وأقوى مدخل لتغييره والعامل الأكثر فعالية في زعزعة القديم لم يعد فكراً ولا تنظيماً سياسياً، بقدر ما هي أدوات صلبة وفعالة، كالسلاح والمال والاعلام، وربما هذا ما شكل سر هيمنة النظام الرأسمالي على العالم المعاصر، واستقر كحل وكطريق لا بديل عنه، على الرغم من كل سلبياته، حتى أنتج أشكالاً ومستويات جديدة من الصراعات البينية في دولها ومجتمعاتها، لزعزعة هيمنة طرف أو أكثر على الساحة الدولية.
حرب بوتين اليوم لا يمكن إخراجها من سياق محاولات التنافس الحاد وزعزعة سكون العالم الرأسمالي، بل تعد كأحد أهم محاولات التغيير الجادة على مستوى العالم المعاصر، ان كانت بصيغة اكتساح عسكري لجدران أوربا أم في سعيها الضامر لتقويض النظام السياسي المترسخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تعد محاولة قوية للانقلاب على تفاهمات ما بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.
بوتين سيغير العالم، فرصته كبيرة، لأن من يتقدم ويتجرأ على تغيير العالم المعاصر؟ لابد أن يكون من بين أقرب الشخصيات للدكتاتورية، أو شخصية مولعة بالمغامرة السياسية، وهما شرطان اجتمعا في بوتين. وقد استكمل شرط السيطرة على القرار في الكرملين بشكل مطلق. هكذا يمكن البدء بالقراءة الأولى للحدث الأوكراني، وما توحي به. وان لا نستطيع راهناً تحديد دراجات هذا التغيير وتوقع مساراته، التي قد تبدأ من زعزعة النظام العالمي القائم وصولاً الى تأسيس نظام آخر بديل، كسقف عال للاحتمالات المتوقعة.
بوتين قد يغير العالم، فقد سبق للروس أن غيروا العالم عدة مرات، وخاصة عندما أخفقوا هجوم نابليون بونابرت مطلع القرن التاسع عشر على روسيا، وثبتوا خريطة اوربا وموقع روسيا الثابت ضمن حدوده عهدئذ، ومن ثم غير لينين ومن خلفه الحزب البلشفي العالم التقليدي تماماً مطلع القرن العشرين.
• العملة الافتراضية كأداة لتغيير العالم
في عالمنا المعاصر ثمة أكثر من منافس لبوتين في مسعاه التغييري هذا، بعضهم قادة مرئيون، أغلبهم محدودي الفعالية والطموح، مكبلون بقيود البيروقراطية النيوليبرالية، فرصتهم ضعيفة في مسار التغيير السياسي. لذلك يظل الأغرب والأقوى من بين كل المنافسين لبوتين كائنات غير مرئية، أولهم منافس افتراضي، يعمل منذ سنوات لتغيير العالم بطريقة جديدة بدون سلاح أو جيوش. فالعملات الرقمية الافتراضية وخاصة (بتكوين – Bitcoin) وضعت نصب عينها هذا العمل المزعزع لركائز العالم المعاصر، تغييرها بشكل راديكالي من بوابة المال والرأسمال، وهي الأهم.
بتكوين عملة افتراضية رقمية (ديجتال) ليس لها وجود فيزيائي ملموس، كما ليس لها مكان محدد (لا دولة ولا بنك بصفة رئيسية). وقد حققت أهدافها بعد الإغلاق العالمي بسبب جائحة كورنا وتضاعفت قيمتها بالمقارنة مع الدولار خلال السنوات القليلة الماضية مئات المرات، لدرجة ثمة من يشك بعلاقة ما، بين مروجيها، وظاهرة انتشار وباء (كوفيد 19).
يتكهن العديد من خبراء الاقتصاد بأن العملات الرقمية ستضع حداً للنظام المالي الراهن والراسخ منذ عشرات السنين، وأن البنوك المركزية قد تفلس في المنظور القريب مع ازياد فعالية البتكوين. لأن مجموع قيم وفائض عملة البتكوين قاربت (830) مليار دولار، وأن الجهات الداعمة لهذه (العملة – النظام المالي الجديد) تبين أن البتكوين ستكون لديها القابلية لتصبح نظيراً لمجموع الذهب في العالم والمقدر حالياً بحوالي (13) تريليون دولار. وثمة آراء متفائلة بقدرات البتكوين بأن تصل قيمتها العامة إلى ما يساوي قيم كل الملكيات العامة في العالم، أي حوالي (115 تريليون دولار)، وهذا أخطر ما يمن أن يحدث في تاريخ البشرية. لماذا؟! لنتصور الحدث من زاوية عريضة: عملة افتراضية رقمية عائمة غير ملموسة، تسيل بطريقة ما على شبكة النت تساوي قيمة كل ما هو ملموس ومشيد ومخزن ومتراكم في العالم الحقيقي الفيزيائي المتجسد أمام الأنظار؟!
في مواجهة هذا الخطر، أي طموح أنصار البتكوين المنصب على تغيير النظام المالي العالمي يقف التيار الاستثماري المحافظ بقيادة الأمريكي وارن بافيت. ومن المحتمل أن الخلاف بين التيارين خلاف استثماري في الجوهر، لكنه تحوّل إلى خلاف عام وحاد، اذ يؤكد بافيت: أن الناس يحبون الاستثمار فيما لا يفهمونه، وليس أفضل من بتكوين في ذلك، بينما يرى مؤيدو بتكوين أن هذا الاستثمار لا يناسب كبار السن، في إشارة إلى الفارق العمري بين مستثمري التيارين، وشيخوخة الرأسمالي المحافظ بافيت.
ينشر بعض أنصار التيار المالي المحافظ الشكوك، ويصرحون بقوة في أن البتكوين (مجرد وهم). وقد يكونوا محقين في ذلك، فإذا تأملنا المعادلة الاقتصادية البسيطة التالية، من الممكن أن نميل للتيار المحافظ، فبتكوين تجر كميات هائلة من الدولارات الى زوايا مجهولة وتخزنها فقط، حيث يراكم البتكوين الدولار فحسب، وينقل تراكماتها من يد شخص الى آخر، بموجب المعادلة:
دولار = بتكوين = دولار
فلا وجود لأي قدرة شرائية كامنة في البتكوين بحد ذاتها. وهذا ما يصر المناهضون للعملة على تسميته (بالوهم)، ووصفها بالعملة الرقمية الوهمية، بمعنى لا وجود لقوة شرائية فيها بحسب المعادلة:
بتكوين = سلعة = بتكوين
لذلك يبدو أن لقصة البتكوين والعملات الرقمية الافتراضية جانب سياسي وتغييري استراتيجي شديد الحساسية، وهذا ما عبر عنه بوضوح بعض المجتمعين في مؤتمر بتكوين الذي عقد في ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية خلال مطلع تموز (2021) عندما أطلقوا شعار: “يجب أن نخرج من هذا المؤتمر ونكتسح العالم”. ويجب: “أن نقاتل لكي تزيد قيمة بتكوين مائة مرة من قيمتها أثناء القمة الحالية…”
كان مؤتمراً استثنائياً شارك فيه عبر النت حوالي خمسين ألف شخصية مالية وممثلين عن المؤسسات العالمية الكبرى.
وفي السياق المؤتمر التغييري هذا أبدت السلفادور بحماس رغبتها على لسان رئيسها نجيب بقيلة في فديو مصور: “إن بلاده ستكون أول دولة تتبنى عملة بيتكوين كعملة قانونية”. مؤكداً: “سأرسل الأسبوع المقبل إلى البرلمان مشروع قانون من شأنه أن يجعل عملة بيتكوين مناقصة قانونية”.
ويبدو أن توجه السلفادور المتسرع جاء للتخلص من هيمنة الدولار التي تستخدم كعملة رسمية فيها، في حين تسعى أمريكا في خطوة استباقية منها إلى صك البتكوين معدنياً. وهذا ما اتضح في مؤتمر ميامي وأفصح عنه عمدة ميامي فرانسيس سواريز، الذي كشف عن جهود المدينة: “لإنشاء عاصمة بيتكوين وبلوكتشين والتعدين في العالم.” إذ أن سجل سواريز مليء بأشكال مختلفة من المشاركة في مجال العملات المشفرة وبلوكتشين، حيث بين: “إن أيام ربط العملة بالبنك المركزي تقترب من نهايتها”، بما في ذلك: “ستصبح الولايات المتحدة مركزًا قويًا لتعدين بيتكوين بالطاقة النظيفة”.
اذن هنالك أكثر من طرف يود اكتساح العالم ومحاولة قلبه رأساً على عقب، ربما يكون أقلهم شراً بوتين وسلاحه. كما قد تكون عملة البتكوين هي محاولة أمريكا الأخيرة لإعادة تكرار تجربة الدولار بعد الحرب العالمية الثانية للهيمنة من جديد وبشكل مستدام على النظام المالي العالمي، فهل ستطال صواريخ بوتين مراكز تقديم البتكوين كبديل للدولار؟! وهل منافسة بوتين وبتكوين هي أحد خلفيات الحرب الجارية على أرض أوكرانيا، وتأتي في سياق الدفاع عن مستقبل الروبل والليوان الصيني؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى