ثقافة

الممكن العقلي الكائن بين الطبيعي أصلا الواقعي فعلا.

عباس علي العلي

وفقا لمنطق مسار الرؤية الحرة التي أمنها بها بعدم محدودية الوجود المادي وأتساعه اللا متناهي تبقى مساحة شاسعة بيت المفترض أصلا كواقع مجسد محسوس ومدرك، وهو الواقع الذي يفهم حدوده العقل ويتقيد بها، وبين قدرة النظر العقلي الممكن من خلال مفهوم الخلاص من الحدود، ومنطق الممكن الواقعي لا الممكن العقلي المتجرد من واقع الواقع، والله تعالى يقول وما بلغتم من العلم إلا قليلا، هذا القليل بمعنى عدم الكمال أو التساوي مع الواقع الذي هو في الأصل كما هو والذي لا تدركه العقول ولا الألباب واقع الخلق كما هو محيط بنا ونحن تحت دائرة الفلك المحيط، لأن التساوي يعني العلم بالإحاطة وتجاوز فلكيتها ثم النظر لها من خارجها، أي أن الإحاطة تستوجب خروج العلم من دائرة المحيط (داخلا) إلى المحيط (خارجا)، هنا نقع في أشكال عقلي كيف يكون العقل متحركا وفاعلا وعالما داخل الواقع من جهة، وفي خارجه بنفس الفاعلية أيضا وفي ذات الوقت، هذا اولا وثانيا الخروج يستلزم أن نشارك المحيط أي العاقل الذي أحاط بالواقع كما هو لا كما نحن ندركه نشاركه بالضرورة بكل شيء بعلمه، أي الشراكة مع الله بالعلم والتساوي بالقدرة عليه، وهذا ما لا يمكن ايضا عقلا لفارق الفرق بين الصانع والمصنوع لأننا أصلا جزء من علم الله.
من يقول أننا هنا قد وضعنا العقل في أزمة بين واقع يبسط تأثيراته عليه وبين طموح بالتخلص من هذا الأسر، وبالتالي مجرد توريط العقل في هذه الأزمة إنما نضاعفها عليه كأزمة مركبة من حيث لا نسمح له أن يعطي ما يمكن من تصورات وحلول وينسب له جزافا الأزمة، أزمة عدم القدرة على التخلص من أسر الواقع وأحكامه الكيفية والتكوينية وحتى المقدمات الطبيعية له، وبالتالي فالفلسفة غير مسئولة بالحقيقة عن أي شيء من هذا القبيل لأن العقل أساسا مأزوم، الطرف الأخر يرى أن الأزمة أساسا تتركز في جانب الفلسفة التي تطرح نموذج غير قابل للتمكن منه تحت الظروف الحالية، ولا تستطيع هي أن تفعله خارج أطار العقل الذي يتناسب مع رؤيتها، وبالتالي هي في أزمة ,إنما العقل وسيلة لترتيب الرؤية الفلسفية وهندستها فكريا، أنا أرى أن الأزمة في خلاصتها هي أزمة الإنسان الذي يخشى المجازفة، الإنسان المحافظ على سكونية وتراتيبية الإيقاع الطبيعي ، الإنسان الذي ما زال مقتنعا أن الجنة في الحقيقة حلم صعب المنال وأن العودة إليها مرتبطة بقوانين النص، لذا فالخروج عن قوانين النص ضياع للفرصة السانحة ولو من باب التأمل والأفتراض، الإنسان الذي يمنح الجسد حدود تامة فاعلة غير قادر ان يخرج بعقله من مدارات الممكن والمعقول إلى الحلم الثائر، الحلم الذي كلما تسارع الزمن به تسارعت فرص تحققه وهو العثور على الفردوس خارج واقع اصابه الترهل والشيخوخة.
إذا الفلسفة الحقيقية هي تلجئك لأن تفهم وتبحث وتفكر خارج أطار الممكن والمعقول الواقعي، وهنا نجد تعارض الفلسفة مع الوظيفة التي يفرضها الواقع السياسي والأكاديمي، الذي يفترض في أولى أشتراطاته أن نكون منتمين لمجتمع محكوم بقوانين، أي أن الفلسفة لا يمكنها أن تكون حقيقية بدون حرية للفيلسوف، لذا قد لا نجد فلاسفة حقيقين في ظل نظام مقنن، بل هناك مدرسي فلسفة وهناك مؤرخي فلسفة متخصصين بالسرد الفلسفي دون الإبداع والتجديد والبناء على التراكم والتناقض والتوالي المعرفي القائم على قانون ” أن كل شيء غير ثابت وأن كل شيء لا بد أن يذهب للأمام”، أما الفلاسفة فهم في الجانب الأخر المتمرد على الواقع ورمزيته دون أن يناصبه العداء بل الرغبة في التحديث والتطوير والتغيير الماضي نحو كل جديد ومنطقي وعقلاني ولازم وبدي .
من هذه الحقائق ننطلق إلى الهدف من هذه المقدمة وهي أن الإنسان العاقل كما يقول (ابن رشد) لا يمكن الإقرار له أن يخضع ويستجيب لدعوة الكهنوت في تعطيل التعقل في الدين، وهو مكلف بالتعقل أصلا بما منحه الله من ملكة العقل والتدبر والفهم، وإلا ما فائدة عقل بدون وظيفة مترجمة وما فائدة دين لا يفهمه العقل الإنساني بموجب ألياته الخاصة وقوته الحضورية، العقل رديف الدين وأداته الأولى للبناء الكمالي وطريقه للحياة الراشدة والمرشدة للخير، وهذا يستوجب من الإنسان أن يستجيب لهذه العلاقة ويشجعها لأنها في الأول والأخر قضيته وعليها يتوقف سعيه نحو الفضائل وأولها الأخلاقية التي تنبع من إنسانيته الطبيعية، الكهنوت الديني بمنهجه الراهن الذي يعزل الدين في خانة المحرمات العقلية يعلن عداوته للعقل ومنهج الديان، محاولا بكل الوسائل أن يستحوذ وجوديا على مقدرات الحركة الكونية ويسيرها وفقا لنظريته الخاصة وليس تبعا للنظام الديني الذي وضعته الرسالة كأهداف ومناهج وغايات عليا.
فمن ينكر مسؤولية العقل عما كلف به بالتأكيد هو على مقولة ومنهج الكهنوت وموافق على ما يطرحه من إشكاليات تغيب وعي الإنسان في علاقته المثمرة مع الدين، لأنه يظن أن هذه المؤسسة المنغلقة والمغلقة على أفكارها هي البديل الطبيعي عن حالة أرادها الله وعمل على دعمها والشد على تتبعها، لأنها كما يظن هي المنهج السليم والصراط المستقيم، إن الأساس الأول والمقتضى المنطقي لتصحيح مفاهيمنا ومعرفتنا بالدين يتجلى في تفكيك العلاقة المنحرفة التي صاغها الكهنوت الديني والعودة إلى العقل أيا كان توجهه، طالما أنه يخدم قضية توصيل وتواصل الإنسان مع دين الرب، مستعينا بالحس المنطقي ومتماهي مع قصديات النصوص في أهدافها العليا والبعيدة، فالعقل السليم وإن جنح أو شط لا بد له من أن يعود طائعا ويصحح مساراته الطبيعية، لأنه لا يقبل بالمقطوع منه ولا بنهائية الفكرة حتى لو كانت تبدو زاهية وجميلة عنده، العقل السوي عقل يؤمن بأن الفضيلة والحقيقة والخير والمحبة والأخلاق بمفهومها الإنساني النبيل هي مبادئ أساسية للحياة، ومن دونها لا يمكن أن تستمر عملية تواجدنا في الحياة بشكلها الطبيعي، لذا فهو في مخاض مستمر ومتجدد ولا ينتهي أبدا عن نقد نفسه أو نتائج تعقله لأنها فقط تنبع منه.
إن أزمة الدين هنا ليست أزمة العقل السليم السوي بل أزمة عقل تابع ومتبوع وما بينهما من علاقة غير أصولية يراد لها أت تكون القاعدة، والله يقول لعلهم يعقلون ولعلهم يتفكرون ولعلهم ينظرون، هذه الـــ (اللعل) مفردة تحضيض ودفع وتكليف للعقل وهي موجهة للإنسان عام مؤمن وغير مؤمن، ولا من دليل على أنها مخصصة لبضعة أفراد من خلق الله يتولون بسط الدين ونشره ومن ثم التحكم بالناس وفقا لتكليف غير موجود ولا حقيقي، الإنسان سيقف أمام ربه كما في النص الديني ليسأله ويتساءل منه عما كسب وأكتسب وسيجيبه الله بقوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179، هنا وصفهم الديان بالغافلين لأنهم عطلوا العقل ومداركه ووسائله وما تكتشفه الحواس المتصلة بالعقل عن معنى وجودها ووظيفته الأصلية التكوينية والتكيفية {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36.
رسالة الإنسان في الوجود حسب معطيات الفكرة الدينية في جوهر الرسالة أن يكون الفرد خالقا للواقع بحدي الخير والصلاح، وهذا يعني أن الدين لا بد أن يكون من ضمن وسائل ومسائل هذه الوظيفة وأن لا يبتعد عنها لتقديم الوسيلة على الغاية، مشكلة الكهنوت أنه يعبدون الدين ولا يعبدون الديان ولا يخضعون لأحكامه إلا بما تشتهي أنفسهم وما يتلاءم مع الوظيفة التي أخترعوها لأنفسهم، وإلا ما هو تفسير هذا الإصرار العجيب على جعل الدين الذي جعله الديان تسخيرا لمنهج الإصلاح والترقي، مجرد عبادات عبودية خالية من روح المعنى وبعيدة عن جوهر فلسفة الإيمان به، لقد نجح الكهنوت في حصر الإنسان في دائرة الأفعال الغير منتجة والتقليدية التسليمية، ومنعوا العقل من تدبر المعاني وأستكشاف ما وراء النصوص من غايات ومدركات وفهوم عميقة، بحجة أن العقل الإنساني ما خلا عقولهم لا يدرك جنجلوتية النص الديني ولا يمكنه أن يفعل ذلك ابدا، هذا القطع الممنهج بالصلة ما بين الدين والإنسان لا يخلو من تعمد على تغريب الدين وزجه في صراع مع الكائن الأكثر أحتكاكا به وبما فيه من أفكار ورؤى ومصلحة معتبرة وهو الإنسان المكلف به.
من يقول أن الدين ليس في أزمة وأن العقل البشري هو المأزوم وعليه أن يصحح الأخير مدركاته وفهمه وأساليبه العملية في التعبد والإتباع، إنما يتجاوز الحقيقة ويحاول خلط الأشياء من غير أن يعرف حقيقة الأزمة ذاتها وسر جوهرها المنحرف، العقل البشري ما هو إلا مجس وكاشف لما يدور حوله ويتعامل مع الواقع ومعطياته على أساس فعل ورد فعل، إلا من بعض العقول التي تحررت من وهم القبول بما هو واقع وسائد ومفروض ومفترض سابقا وسلفا، نعم أقول أن الدين في أزمة حقيقية ولا نكران لذلك لأن من يشرف على حركته الأجتماعية البينية في واقع الإنسان جره إلى مكان ليس بمكانه الصحيح، وحرف دوره من رافع وحامل للمعرفة الفضلى إلى دور بوليسي مرعب وقاهر ومضاد لمشروع وعلة وجوده الأساسي، هذه هي جوهر أزمة الدين وجوهر قضية أن ما يعرف اليوم بالدين الرسمي السائد بمختلف مذاهبه وتطبيقاته يبتعد كثيرا عن نقطة الشروع الأولى وخط سيره المراد له أصلا، وسلكوا به مسالك وعرة وغربوه وتغربوا معه وكأن دين أخر وفكر مختلف عما في كتب ونصوص ما كتب منه وفيه.
إن إخراج الدين وعموم الفكر المرتبط به تأصيلا وتفريعا من أزمته الحادة مع الإنسان ومن خلال تطبيقاته والتصورات التي نسجها العقل البشري، هو واجب كلي وعام على كل إنسان أن يساهم بدوره في جزء من هذا المشروع التنويري من باب المسؤولية ومن باب تصحيح حركته في الوجود في جزئها الروحي والأخلاقي، وبالطبع ستكون المؤسسة الدينية التجديدية الواعية المتحررة من سطوة الكهنوت أول المعنيين فيه، وكذلك النخب الفكرية والثقافية ذات العمق المعرفي الإنساني لها دور العمود الأساسي ومن أعمدته الموثوق بها، فقضايا الدين ومسائله قضايا الفكرية ذات المساس المباشر بالوجود الإنساني هي قضية رأي عام، وببساطة شديدة إنها مسائل عقلية ذات خطورة وحظوة للناس جميعا، فمن جعلها حصرا وتخصيصا بيد البعض من كهنة بيت الرب وخدام طلاسمه فرض علينا منهج تفرد وديكتاتورية عنوانها مقدس وجوهرها لا شرعي ولا أخلاقي إنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى