ثقافة

اللغة العربية … تلك الملكة المتوّجة

بالنسبة لي هي ليست أداة تواصل فحسب بل هي شعيرة من شعائر الإسلام، لا يُفهم قرآن ولا سنة إلا بها، لا يُتلى كلام الله إلا بها…هي لغة المستقبل، وقد أثبتت طيلة قرون أنها لغة العلوم والمعارف والحضارة والرقي، وما أكبر فرية من يحصر عطاءها في الشعر والفقه فحسب، فقد أثبت تاريخ العلوم أنه في أوجه الحضارة الإسلامية ولمدة قرون كان الأروبيون – فضلا عن العرب – يقصدون الحواضر العلمية الكبرى – بغداد، قرطبة، بجاية، القرويين…- للنهل من علوم الرياضيات والفلك والطب والفلسفة والصيدلة بالعربية، وهي قادرة على العطاء الثرّ اليوم مثل الأمس، لا تعاني العقم وإنما الإهمال والتهميش بسبب النخب التغريبية التي تحاربها في إطار خطة إبقاء الأمة في خانة التخلف والتبعية الفكرية التي هي أساس كل أنواع التبعية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعاني العربية عجز أبنائها في الإنتاج الذي يجمع بين الوفرة والنوعية الرفيعة.

الانتصار للعربية يمرّ حتما عبر رفع التجميد الفعلي الذي يطالها، وجعلها أداة لتدريس المواد العلمية في الجامعات والمعاهد، وهذا أمر ميسّر جدا، وقد أثبتت هي قدرتها على ذلك في بعض البلاد العربية، ولدينا تجارب لغات دول صغيرة لا تدرس هذا المواد إلا بلغاتها، مثل رومانيا وبولونيا وكوريا، والعربية أكثر ثراء من هذه اللغات بكثير، تجد الدانمارك تدرس هذه العلوم بالدانمركية، وإيران بالفارسية، والكيان الصهيوني بالعبرية، أما عندنا فتصرّ النخب النافذة على تدريسها بالفرنسية واتهام العربية بالعجز، وما هذه إلا عقدة حضارية وخيانة ثقافية…وهنا تظهر غرابة مزاحمة العربية – وهي لغة عالمية حية –  بلهجة محلية غير مكتوبة يُراد لها مزاحمة لغة الضاد، رغم أنها ضرة غير كفأة تماما، وإحياء المعاني الميتة إنما يستهدف القضاء على أداة الحياة والإبداع والعطاء .

إن العربية ممتدة في “الجغرافيا البشرية” كما أنها ممتدة في “التاريخ الروحي” بالنص العربي المحفوظ الذي يهيمن على جميع التجارب البشرية، وهي بذلك عامل توحيد  مهم ليس للجزائريين وحدهم ولا حتى للعرب بل لما يقرب من ملياريْن من المسلمين تربطهم بها علاقة عاطفية قوية يمكن تحويلها إلى طاقة عملية تعطي لها دفعا كبيرا في الانتشار وفي الإنتاج.

ومن المهم جدا أن نلاحظ أن كثيرا من الغات العالم تشكلت بمنطق الدولة القومية الحديثة، أي بدافع قومي، أما العربية فهي لم تتحيز في إطار الدولة القومية، بل فرضت نفسها بتجاوز حدود الكيان القومي ، وهي لم تكن من مكونات الدولة القومية بل هي اللغة القياسية المهيمنة التي لم تدع مجالا أمام أي لغة أخرى داخل الوطن العربي (ما عدا اللغات الأجنبية كالفرنسية في المغرب العربي، والكل يشعر أنها لغة هيمنة، وما زلنا نحن الجزائريين نطلق عليها “لغة الاستعمار”)، ويمكن الذهاب إلى أكثر من هذا وملاحظة أنها- وبعكس ما حصل في بقية دول العالم- أداة لطمس الشعور القومي لصالح الشعورالأممي العالمي  لكونها اللغة القياسية التي وحدت جميع الجماعات الإثنية وأخرجتها من محليتها اللغوية (الكردية والبربرية مثلا) إلى كونية اللغة العربية الفصحى بوصفها لغة دين أولا وقبل كل أي اعتبار آخر، أي لغة انتماء عالمي يسوّق معاني الوحدة الشعورية، وقد بدأ هذا مبكرا حين تجاوز بلال حبشيته وتبنى العربية كمكوّن أساسي لشخصيته الإسلامية، وكذلك صهيب مع الرومية، وسلمان مع الفارسية، مرورا بصلاح الدين وكرديته، وقطز وتركيته، ومحمد إقبال وأرديته.

             عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى