في الواجهة

الغطرسة مكون أصيل في الشخصية الأوربية المعاصرة

عبدالله عطية شناوة
كاتب صحفي وإذاعي

حربان عالميتان، اشعلتهما أمم أوربا في ما بينها أولا، ثم أحرقت بنيرانهما شعوبا أخرى في شتى أرجاء المعمورة. اسبانيا والبرتغال تقاسمتا أمريكا الجنوبية، وقضتها على ثقافة شعوبها، وفرضتا لغتيهما على شعوبها.

بريطانيا لم تكتف بمستعمراتها الأفريقية، واحتلت شبه القارة الهندية وحولت أجزاء منها الى مزارع أفيون لتصدرها الى الصين، وحين رفضت السلطات الصينية تدمير مواطنيها بذلك المنتج، شنت بريطانيا العظمى حربين طاحنتين، على مدى سنوات عديدة، لأجبار الصينيين على “التمتع” بالمخدرات. فرنسا زاحمت بريطانيا في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهاديء، وبين من تزاحموا لنيل حصص من المغانم الأحتلالية في قارات العالم الأخرى، والتي أطلق عليها أسم “استعمار” هولندا وبلجيكا وألمانيا وأيطاليا. وتوجه مغامرون أكثرهم شذاذ أفاق، من بلدان أوربية عديدة، ليحتلوا قارة استراليا، ويتعاملوا مع سكانها على نحو أكثر وحشية من تعامل الأسبان والبرتغاليين مع شعوب أمريكا الجنوبية.

وحشية شبيهة بتلك التي تعامل بها نظرائهم من البريطانيين والفرنسيين والألمان والأيطاليين، الذين قرروا الأستيطان في أمريكا الشمالية، وتشتيت شعوب القارة الأصلية، وأزالة أرثها الأنساني وثقافتها ومعتقداتها.

العبودية بدأت أول ما بدأت في أوربا، بالذات في روما، ما قبل المسيحية، ثم أكسبها الأوربيون طابعا عنصريا، حين أختصوا بها الأفارقة من سود البشرة، حيث أختطفوا مئات آلاف البشر من تلك القارة، وشحنوهم مكبلين بالأغلال على سفن، كما تشحن البهائم، الى أمريكا التي أغتصبوها من سكانها الأصليين، ليبيعوهم ويشتروهم، كما تباع وتشترى أية بضاعة، ليستخدموا في أشق الأعمال، تحت سطوة عقوبات بربرية تصل الى التعذيب والأغتصاب والقتل.

لاحقا، في وقت ما، ألغى السادة البيض في أمريكا نطام العبودية، كنظام أقتصادي، لكنهم لم يلغوا التمييز العنصري، الذي تواصل حتى ستينات القرن الماضي، وفي أفريقيا أقام الأوربيون نظامين للتمييز العنصري، الأول في زيمبابوي، التي أطلقوا عليها أسم روديسيا، وظل قائما حتى اسقطته، في سبعينات القرن الماضي، حركة تحرر أفريقية كلفت شعب زيمبابوي ما لا يحصى من الضحايا، فيما أستمر الكيان الأوربي العنصري الثاني قائما في جنوب أفريقيا، حتى مطلع تسعينات القرن الماضي، حيث سقط بعد مسيرة من التضحيات الدموية، التي قادها شعب نيلسون مانديلا. وأضطر الجزائريون الى التضحية بأكثر من مليون شهيد لنيل تحررهم من الأستعمار الفرنسي.

فهل يمكن لهذه المسيرة التأريخية المخزية أن لا تترك تأثيرها في وعي الأوربي ولا وعيه؟ هل يمكن فصلها عن كل السلوك السياسي الأوربي، الذي يستند إلى ما يشبه القناعة بـ ((تفوق حضاري تأريخي))، تفوق تترتب عليه ((حقوق)) في قيادة العالم بما يحفظ له السيادة، والحق الحصري في رسم مستقبل العالم وقوانينه وثقافته وقيمه ، وأختيار طرق بنائه بما يضمن ذلك التميز والسيادة، بما فيها القوة العسكرية، باشد صورها وحشية وتدميرا؟

أن للغطرسة الأوربية ما يغذيها من العوامل التأريخية التي أنتجت ثقافة مترسخة، تلطف أحيانا وتصاغ على نحو مراء، وتبرز على نحو سافر وهمجي في أحيان أخرى، فليس مصادفة لجوء رعاة البقر الأمريكان الى خلق نظام العبودية المتأخر ونظام الفصل العنصري، وبروز منظرين أوربيين يقنعون أوساطا من شعوبهم بنطرية التفوق العرقي، وسياسيين، مثل هتلر وموسوليني، ينقلون تلك النظرية الى حيز الواقع، ويجعلون ملايين الأوربيين يتبنوها، ويقاتلون ويقتلون من أجل تطبيقها، جيلا بعد جيل، بما فيه أجيالنا المعاصرة الحالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى