العصر الذهبي للغباء
محمد عبد الكريم يوسف
لقد مرت البشرية بمراحل ذهبية وسمت عصورها بها كأن نتحدث عن العصر الذهبي للفضاء والعصر الذهبي للمعلومات والعصر الذهبي للموسيقا والعصر الذهبي للغناء والعصر الذهبي لفن النحت والعصر الذهبي للفلسفة . اليوم نحن نعيش في عصر آخر مختلف عن العصور السابقة تماما في جوهره وشكلة .
نحن نعيش العصر الذهبي للغباء بكل أشكاله وصفاته ، جوهرا ومضمونا . يحتلنا الغباء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والمعرفي والطبي والأخلاقي والحضاري بأشكاله المتعددة . الغباء سمة من سمات العصر الحديث.
إن غياب الانتماء للوطن يأتي في طليعة الغباء ، والسيطرة على البلدان اقتصاديا وسياسيا ومعرفية شكل من أشكاله ، والخضوع شكل من أشكاله ، ورفض ملايين الناس أخذ اللقاح ضد فيروس كورونا يصلح أن يدرس في الجامعات والمراكز العلمية كنموذج للغباء الجماعي ، متجاهلين أنه لولا اللقاحات ضد شلل الأطفال والملاريا والكوليرا وغيره من الأوبئة ما كان لهذه الأمراض أن تختفي من العالم . الغباء والجهل والإهمال وعدم الاكتراث أشكال من الغباء .
لقد صرنا في عصر يتباهى بالغباء حتى صار سلعة من السلع : اشتر نموذج من الغباء ، وخذ الثاني مجانا. والأحزاب السياسية حبيسة دورات انتخابية من الهيستريا واللعنات المتبادلة . وكل فريق يجهل حقيقة الفريق الآخر ويتباهى بجدارة غبائه ويتعامى عمدا وقصدا عن الحقيقة . وكل طرف يؤكد صوابيته رغم حماقة المحتوى ومجافاته للحقائق. نشجع الديمقراطية لأنه نافذة للسيطرة والتسلل ، وندعم الشمولية لأنها تحقق مصالحنا ، نغمض عينا هنا ونفتحها هناك ، نركز على الشكل ونتجاهل المضمون ، ونتصرف وفق رأي واحد من دون أن نسمع الرأي الآخر، نصدر قرارا ويتحمل عواقبه المجتمع ثم نلغيه من دون إلغاء عواقبه ، حجة الإلغاء أنه طبق من باب التجريب ، وحجة عدم الغاء عواقبه احترام القانون وقرارات المحاكم .
العصر الذهبي للغباء هو أن تسمى إرهابيا عندما تدافع عن دارك ، هو أن توصف بالتطرف عن تدافع عن وطنك ، أن تخضع للعقوبات الدولية من جانب واحد ، وأن تلتحق بمحور الشر لسبب واحد هو أنك تحافظ على الحد الأدنى من حرية قرارك .
العصر الذهبي للغباء هو أن تتبوأ منصبا رفيعا بسبب الشهادة العلمية لا بسبب السلوك الأكاديمي و خلاصة الرأي وحكمة التجارب.
العصر الذهبي للغباء هو أن تزيح الحكماء وتستبدلهم بالشباب وتعرض كينونة الوطن للاهتزاز بسبب ضعف الخبرة وحماوة دم الشباب .
العصر الذهبي للغباء هو أن تدخن النرجيلة وأنت لا تمتلك قيمة رغيف الخبز متجاهلا أن الحياة أولويات .
العصر الذهبي للغباء هو أن ترتدي السراويل الممزقة مدعيا أنها الموضة والحياة العصرية متجاهلا أن الذوق يختلف عن صرعات الموضة .
العصر الذهبي للغباء هو أن يكون مهرجو البلاد حكماؤها وأن تخرج الحكمة من أفواه المجانين .
العصر الذهبي للغباء يعيش الإنسان في بلد ويستمتع بموارده وخيراته في ساعات الشدة وساعات الأمان ويكون الانتماء العقائدي لبلد آخر يبعد عن البلد الذي تعيش فيه آلاف الكيلومترات.
العصر الذهبي للغباء يعني أن تعيش في بلد يفرض فيه الوزراء من الخارج أو السفارات الأجنبية ويتدخل هؤلاء في سياساته العامة والخاصة .
العصر الذهبي للغباء هي أن تنتمي لبيئة غير بيئتك ولا تعرف عنها شيئا مثل بيئات الإنترنت المختلفة والمنظمات المختلفة الغريبة وتخزن بياناتك في بيئة رقمية مكشوفة للغير بحجة رقمنة الحياة .
العصر الذهبي للغباء هو أن تتعامل مع الأجهزة الرقمية الخالية من الوجدان بحيث تكون أول مرة مثل آخر مرة وكأنك مسنن في آلة أو رقم مادي ليس إلا.
العصر الذهبي للغباء هو أن تتعامل مع الصورة ليس مع الأصل بحيث تحكم على الآخرين على أساس هش يجافي الحقيقة .
العصر الذهبي للغباء هو أن تعتبر الانترنت معلمك الأول والأخير في الحياة من دون بذل أي جهد في البحث والتقصي عن المعلومات الحقيقية .
العصر الذهبي للغباء هو أن تبني الدول مواقفها وأراءها على أساس شبكات الاعلام التي تمتهن تزوير الصورة والخبر .
العصر الذهبي للغباء هو أت تجري في طريق لا تعرف نهايته ، تسير بلا هدف ، بلا نتيجة ، ومن دون غاية .
العصر الذهبي للغباء هو أن تخرج الجامعات مهندسين من دون فكر هندسي ولغويين من دون معرفة باللغة وأطباء وصيادلة لا يمتهنون الطب والصيدلة مذهبا ومنهجا في الحياة .
العصر الذهب للغباء جوقة موسيقية هاربة من المسرح الإغريقي تردد عبثا كلمات غامضة المعاني والأهداف في عصر أجوف وثقافة جوفاء وتعليم أجوف وحب أجوف. صوت هادر يأتي في كل صوف من طبل فارغ .
والسؤال الكبير هو أن غباء الغباء وجوهرة هو أن تتبع هرطقة تعلم مسبقا أنها هرطقة وزيف ورغم ذلك تطبل لها وتزمر بملء فيك .