رياضة

الرياضة بوصفها غشاً وسنداً

راتب شعبو

في العام 1996 فوجئ العالم بفوز السورية غادة شعاع بالميدالية الذهبية لألعاب القوى في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في اتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية. سبب المفاجأة واضح، وهو أن شعاع من بلد غير معروف بإنجازات رياضية على مستوى عالمي. حينها لام صحفي أميركي نفسه لأنه لا يعرف شيئاً عن هذا “المصنع” الرياضي السوري الذي وصل إلى درجة تأهيل لاعبة مثل غادة شعاع، وقال لا شك أن هذه البؤرة الرياضية المهملة سوف تنتج المزيد من الأبطال. مع الزمن، أدرك هذا الصحفي، بلا ريب، كم كان ساذجاً.
لا بأس من الإشارة إلى أن نبأ هذا الإنجاز “السوري” وصلنا إلى سجن تدمر عبر القناة الوحيدة المسموحة والتي كانت النافذة الوحيدة لنا لمعرفة ما يجري وراء جدران السجن، وهي جريدة رسمية لها النصيب الأكبر من نقيض اسمها. نشرت جريدة “البعث” حينها قول الصحفي الأميركي المذكور مع تعليق آخر يقول إنه حين يتقابل السوريون في صبيحة هذا النصر، يستبدلون عبارة “صباح الخير” بكلمة “مبروك”. والحقيقة أننا، في السجن أيضاً، فرحنا بميدالية غادة شعاع.
من الطبيعي أن يفرح أي شعب بأي إنجاز يحققه أحد أبنائهم، حتى لو جاء هذا الإنجاز محمولاً على أيدٍ أجنبية، ومعروف أن تأهيل البطلة الأولمبية السورية كان في “مصنع” روسي وليس سوري. ومن الطبيعي أن يفرح أبناء البلد بنجاح ابنهم حتى لو كان صاحب الإنجاز قد ولد ونشأ في الخارج، وحتى لو كان لا يجيد لغته الأم. أبناء البلد سيفرحون لنجاح من تعود أصوله إلى بلدهم، حتى لو كان يمثل بلداً آخر. لقد فرح السوريون بنجاح ستيف جوبز حين علموا أن أباه سوري. هذه أشياء لا يحق لأحد نكرانها على أحد. ولا يخفى على أحد حاجة الناس، وبوجه خاص العرب المشبعين إحباطاً، إلى الشعور بالنصر وإلى استعادة الثقة بالنفس وإلى تغذية الحافز والتطلع.
لكن ما يمكن التوقف عنده هو أولاً الانطباع المغشوش الذي يمكن أن تعطيه وقائع رياضية معينة، ويمكن أن تبنى عليه مواقف وتحليلات بعيدة عن الواقع. وثانياً الاستغلال السياسي لمثل هذه الوقائع بأن يستخدم نجاح رياضي ما للتشويش أو التغطية على فشل عام يكون أساسه، غالباً، فشل سياسي.
الحضور المفاجئ للمنتخب المغربي في مسابقة بطولة كأس العالم الجارية في قطر هذا العام، يطرح مجدداً موضوع الرياضة بوصفها نشاطاً يسمح بنوع من الغش المتعدد الجوانب، ولاسيما أن إعداد فريق كرة قدم قادر على المنافسة، بات عملاً يحتاج إلى إمكانيات كبيرة وأجواء لا تتوفر في بلدان يسيطر على السلطات فيها الهاجس الأمني الذي يستهلك أموال البلد ونفوس أهلها.
الغش الأول هو إبراز صورة متطورة عن واقع هزيل، المراقب الخارجي يقع ضحية هذا الغش ويبني تصوراً غير صحيح عن واقع البلاد التي “أنتجت” هذا المنتخب. والغش الثاني، هو غش ذاتي، إذا جاز القول، يقع فيه أهل البلاد، أي من يعرفون جيداً واقعهم، ولكنهم يحبون أن يتوهموا مع بريق “الإنجاز” الرياضي، فيعتبرونه مثلاً دلالة على “مخزون حضاري” يميزهم، دون أن يشغلهم السؤال: كيف لا ينعكس هذا المخزون على المستوى العام لحياتهم. والغش الثالث هو حين تتبنى السلطات السياسية هذا الإنجاز على أنه نجاح لها، وأنه دليل على تقدم ما، من شأنه أن يقلل من حدة الانحطاط العام.
أساس هذا الغش المتعدد هو نسب النجاح إلى البلد في حين أن المنتخب ليس صناعة “بلدية”، إنه أشبه ما يكون بعملية استيراد للنجاح الرياضي، العملية التي توفرت لها في هذا العصر شروط جعلتها ممكنة. صار من الممكن للاعبين الأفراد أن يستفيدوا من الإمكانات التي توفرها بلدان متطورة قياساً على البلد الذي ينحدرون منه، أو ينحدر منه آباؤهم أو أجدادهم، وأن يطوروا مهاراتهم في هذه البلدان، ثم يمكنهم أن يمثلوا بلدهم في المنافسات الدولية. معلوم أن 14 لاعباً من المنتخب المغربي نشأوا وتدربوا في بلدان وأندية أوروبية ويحملون جنسية هذه البلدان، ولكنهم يحملون المغرب في نفوسهم، ويعتبرونه “مسقط قلبهم” حسب تعبير اللاعب الدولي أشرف حكيمي الذي سبق له أن لعب لصالح منتخب شباب اسبانيا. كما هو حال اللاعب حكيم زياش الذي يحمل الجنسية الهولندية ولكنه اختار، رغم المحاولات الهولندية، تمثيل المغرب في المنافسات الدولية. ومن باب التخيل والحلم بتوفير الصعاب، يتمنى المرء لو تتوفر شروط موازية تجعل من الممكن أيضاً استيراد نجاح سياسي، على غرار استيراد النجاح الرياضي.
جانب آخر يبرزه النجاح المغربي الملفت في هذه البطولة العالمية، هو دور الرياضة، وبشكل خاص كرة القدم، بوصفها محط أنظار العالم، في إشباع حاجة الأمم المهمشة إلى الاعتراف، وشعور الفرد المتحدر من هذه الأمم بقدرته على لعب دور إزاء استضعاف أمته. حين يرفض الحارس المغربي القدير، ياسين بونو، أن يتكلم بغير اللغة العربية في مؤتمر صحفي، مع أنه يجيد الفرنسية والإنكليزية والاسبانية أكثر مما يجيد العربية، فإنه يستخدم نجاحه الفردي في انتزاع اعتراف بلغة ضعيفة الحضور عالمياً نتيجة لضعف الدور الحضاري العام لأصحابها. وحين يراقص اللاعب المغربي البارز سفيان بوفال والدته بلباسها المغربي الشعبي البسيط، فرحين بالفوز الثمين على منتخب البرتغال، تحوز اللقطة على انتشار وإعجاب واسع لأنها مرفوعة على أعمدة من الجدارة، هذه التي تسمح لنا أن نظهر كما نحب، وأن يفتح العالم قلبه لهذا الظهور. الشيء نفسه يمكن قوله عن حركات رمزية أخرى، منها حركة السجود عقب تسجيل الأهداف، وإبراز العلاقات العائلية التقليدية الحميمة بين الاعبين وأهاليهم.
في شروط هذا العصر المهووس بالمنافسات الرياضية، يمكن أن يتحول الرياضيون إلى روافع لبلدانهم المغمورة. يمكن ببساطة أن يكون اللاعب أكثر شهره من بلده، وأن ينسب البلد إلى شخص. ومع السطوة الإعلامية الكاسحة، يمكن لفرد واسع الشهرة، في الرياضة أو الأزياء أو الغناء أو … الخ، أن يؤثر في قضايا كبيرة، وأن يستجلب شيئاً من الاعتراف لبلد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى