دراسات و تحقيقاتفي الواجهة

الدولة الحقيقية..دولوية الدولة

دولوية الدولة

عبدالله نقرش

لو افترضنا أن الفرد في مرحلته البدائية كان يعيش على الشجرة أو في وكر، وأنه عندما اهتدى إلى وسيلة التكاثر وشكل أسرة عاش في مغارة أو عريشة أو بيت وعندما تعددت البيوت أصبح عشيرة، فقبيلة فقرية، وتعددت القبائل فأصبحت مجتمعًا.
ربما يشير ذلك إلى أن العلاقات الاجتماعية كانت أسبق العلاقات بين بني البشر. وأنها لأصالتها وأوليتها ما زالت تشكل القاعدة الأساس لباقي العلاقات الفوقية التي ترتبت لإدارة النشاطات الضرورية لحياة البشر. كالعلاقات الاقتصادية الضرورية للمعيشة والبقاء، والعلاقات الأمنية الضرورية للحماية، والعلاقات الثقافية الضرورية للفهم. والعلاقات السياسية الضرورية للإدارة. وكلها علاقات ترتبط بضرورة الوجود والبقاء والمحافظة على شروط الوجود والبقاء وتطورها إلى ما هو أفضل.
ولما كان الوجود والبقاء مرهونان بالعلاقة مع الطبيعة أولاً، ومع مخرجاتها ثانيًا، كان الأمر أقرب إلى علاقة صراع دائمة ومستمرة، وعبر هذه المسيرة الصراعية تطورت الوسائل وحالات الفهم. والغاية من ذلك تحقيق ما يمكن من عناصر القوة التي تضمن الوجود والبقاء والتطور. ما أدى إلى هذه الصيغ التي نعرفها اليوم للعلاقات بين الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول لقد حدث هذا التطور في ظرفي الزمان والمكان، والزمان هو التاريخ الذي حدث به هذا التطور، والمكان هو هذا الجرم الكوني الذي يعتبر واحدًا من مليارات الإجرام، كما يراه العلماء، وهو الأرض. ومع ذلك فإن عقدة الإنسان الأزلية وربما الأبدية ما زالت تتمحور حول إدارة العلاقات المتداخلة. والتي تسمى “سياسة” ويعتبرها علماء السياسة “ضبط الضبوط” بمعنى اخضاع العلاقات الإنسانية كافة إلى العلاقات السياسية و التي من ابرزها (علاقات السلطة).
فالعلاقات الاجتماعية – الأساس للعلاقات المختلفة ، مع ما حدث عليها من تطور، إلا أنها ما زالت تتمحور حول الفرد، فالأسرة، فالعشيرة على ما حدث عليها من مرونة في العلاقات، فالقرية أو المدينة أو المنطقة، فالمجتمع أو الشعب أو الأمة.. ويجري الحديث اليوم عن مجتمع إنساني، أو مواطن دولي.
اما العلاقات الاقتصادية التي كانت بدايتها الرعي، فالزراعة فالتجارة، فالصناعة، ولكل منها سياقه في التطور فقد بدأت بالرعي ، فالزراعة من البذرة والشتلة حتى وصلت الى زراعة الجينات، بينما تطورت التجارة من المقايضة بالاشياء حتى تجارة الإنسان ناهيك عن كل المنتجات التي أبتدعها الإنسان.
أما الصناعة فحدث ولا حرج، فمنذ أن توحد عنصران في الطبيعة ولنفترض انهما (الأوكسجين والهيدروجين على شكل ماء) ، التي اصبحت اليوم سلعة تجارية صناعية، حتى صناعة الأقمار الصناعية ورقائق الكومبيوتر، وخلافه مما لا يمكن الإحاطة به لأنه يتجدد ويبدع في كل لحظة، اصبحت الصناعة سر قوة الدول و المجتمعات.
أما العلاقات الثقافية، فمنذ الرسالات الروحية، وحتى الفلسفة الحديثة، مرورًا بالفكر اليوناني والروماني والعربي والصيني والهندي، والغربي… وبكل الصيغ التي تعبر بها ثقافة مجتمع عن نفسها، بما فيها التطور العلمي البحث.. وكل ما تراكم من معارف ومعلومات وفلسفات ولغات وكل هذا الانفتاح الثقافي الذي يمكن الوصول إلى تفاصيله. كل ذلك حدث وما زال هنالك بعض البدائية في بعض المواقع على هذا الكوكب، الذي يمكن للمسافر أن يعبره من أقصاه إلى أقصاه بوقت محدود وبسهولة بالغة في وسائل المواصلات أو الاتصالات الحديثة.
كل هذا التطور في العلاقات الإنسانية ما زال محكومًا بصورة ما، باعتبار اولي بالقوة و فعاليتها و بأشكالها المختلفة، وببدائية الإنسان الذي يمكن أن يوجد في أي موقع في العالم لا سيما المواقع السياسية . ويمكنه أن يمارس ببدائية التعبير عن قوته، كأي بشري بدائي في عصور غابرة وموغلة في القدم. بمعنى ما زال هنالك إنسان ما في مكان ما يستطيع أن يهدد الوجود البقاء لإنسان آخر، و الاخطر من ذلك تهديد مجتمع اخر، او حتى تهديد الانسانية بمجملها.
صحيح، لقد حدث تطور في الإدارة السياسية للمجتمعات والدول، انتقلت بها من حالة القوة الغاشمة في ممارسة السلطة إلى التقييد بموجب القوانين، وصحيح، أن هنالك مجتمعات تسود بها بعض المظاهر البدائية وهنالك مجتمعات أكثر تحضرًا، ولكن المشكلة الأكثر تعقيدًا ، أنه في الحالتين البدائية و المتحضرة مازالت القوة هي الغاية والنزوع إلى السيطرة على نطاق محدود أو واسع هي التطلع البدائي لمن يعتقد أنه صاحب سلطة.
نعم، لقد كان الجزء المشرق من التاريخ، هو النضال للحد من ” تعسف السلطة “، وقد نجح هذا في بعض المواقع ولكنه لا يسود في مواقع كثيرة من العالم. لذلك ما زال هناك الكثير من مظاهر(الاستبداد) والكثير من المستبدين.
و هؤلاء يعتقدون بداية، أن الدولة ومجتمعها هي دولتهم والنظام هو نظامهم، وليس دولة الشعب ولا نظام الدولة التي هي للشعب أساسًا، الذي بدونه لا تكون هنالك دولة ولا نظام. والمستبدون هؤلاء لا يعرفون أن الأصل في حياة الإنسان هي الحرية والاستبداد هة حالة من انفعال الاحمق. كما لا يعرفون أن الدولة الاستبدادية وخاصة الاستبداد الحديث الذي يعرف العرب الكثير من صور– تدمر إمكانية تشكيل فكر أصيل وثقافة سياسية حديثة لدى مواطنيها-. وفي مثل هذه الحالات، لا يستوعب المستبدون ان النفي واللانتماء لا ينتجان إلا مواطنًا مهمشًا لا يعرف له وطنًا، والمواطن المهمش غير قادر على العطاء. أما الازلام، والساعون لخدمة المستبدين وحمدهم، فيعتقدون بأنهم وحدهم يملكون الحقيقة ويفهمون مصلحة المجتمع والحاكم فيورطونه فيما هو نقيض للمصلحة العامة و مصلحته هو في السلطة. ويعتبرون أنفسهم أوصياء على المجتمع، وبالتالي فإن من يعارضونهم هم مجرد فوضويون ومشعوذون، وأن مطالبهم بالديمقراطية هي نوع من الديماغوجيا المثالية، لا ضرورة لها. فالحكم الراشد هو (سطوة على المجتمع) و هيبة للسلطة على مواطنيها وليس رضاهم عنها و شرعيتها في قناعاتهم.
وهؤلاء أنفسهم، وبعض من يلتصق بهم من قطاريز السلطان وسحيجته ، و خاصة اولئك الكتبة و الابواق الذين ينبرون للدفاع عن الأفعال السياسية السلبية، فهؤلاء وأولئك هم حالة من الانتهازية السياسية التي تسعى لتحقيق الاجندات الخاصة و تتجاهل الهدف الأسمى من السياسة و هو “إدارة الحرية والعدالة” “وفقًا لمصلحة المجموع الوطني” .
و مصلحة المجموع الوطني هي التي تبرر شرعية السلطة و الحكم و الدولة و في النهاية هي اساس استمرارها و رسوخها وهي حالة لا يمكن توفرها الا بالاستناد الى ثقافة سياسية حقيقية و واعية تؤكد سلما قيميا يعبر عن المجتمع الدولة و الانسان المواطن. وهنا يبرز دور السلطة الثقافية كاطار و كمضمون لحالة الوجود الاجتماعي و السياسي للمجتمع و الدولة اي تشكل السلطة الثقافية النظير المعنوي للسلطة السياسية.
لهذا تكون حالة نفي المثقف في وطنه حتمية مأساوية ، فالمثقف الأصيل يعتقد دائمًا بأن هنالك عالمًا آخر غير الذي أحبطه، وهو يشعر دائمًا بأن عليه أن يقدم أفضل ما يفكر به لمجتمعه بغض النظر عن النتائج. فالمثقف الحقيقي مستقل وغايته بعيدة المنال. فهو كزرقاء اليمامة، ترى عن بعد ما ستؤول إليه الأمور.
ربما يضطر المثقفون الملتزمون الأصلاء للهجرة إلى اللامكان، حتى لو في داخل أوطانهم، فهم النبلاء الذين يعتبرون نبذ الطغيان فرض عين والدفاع عن الحرية مبدأ وقناعة قدرية، وخدمة الشعب والدولة عمل خلاق يفتح الفرص للبناء والإبداع.
المثقفون الحقيقيون، وليس الكتبة، يعرفون أن الحياة الإنسانية، تضعهم أمام حجر سيزيف ولكنهم يستمرون بالمحافظة عليها لأن الحياة لا تحتاج إلى تبرير، فهي تبرر نفسها، وأن البشرية ما زالت تحافظ على بقائها بالرغم من كل من أرادوا تدميرها، فالإنسان قد يعذب وقد يدمر، ولكنه لن يهزم كما قال الفلاسفة.
ومضات على العقل السياسي الدولوي العربي:
لاشك أن العقل السياسي العربي وليد بيئته وثقافته وأنه وإن تأثر بما شخصه محمد عابد الجابري عن بنية العقلية العربية؛ (العقيدة / الايديولوجيا ، القبيلة / بنية السلطة او الحزب الواحد ، الاوليجاركية ، الغنيمة / المصلحة) إلا أنه أقرب إلى التوفيقية كما وصفه محمد جابر الأنصاري. ومع ذلك ومن خلال ما يلاحظ اليوم من سلوك سياسي عربي، يبدو أننا لا نخطئ كثيرًا لو قلنا أن العقل السياسي العربي هو في الأغلب الأعم عقل “سلطة” و”حكم” وليس عقلاً سياسيًا في الأساس. لأن السياسة شأن اجتماعي، والسلطة شأن فئوي يستهدف السيطرة. وما نلاحظه في العالم العربي إن شأن الحاكم هو السيطرة وليس السياسة ففي الإجمال، هنالك حالة فشل سياسي عام وهنالك تغول في السلطة بشكل عام.
لذلك يمكن القول بأن العقلية السياسية العربية، هي عقلية رمادية ما بين السلطة المجردة و السياسة، تأخذ الحقيقة لونها من ضبابية الأفعال والأقوال. لهذا فهي لا تتواءم مع العصر لأن العالم يسير على طريق عريض معبد للسلوك السياسي الواضح بغض النظر عن الغايات. بينما يتراجع السلوك السياسي العربي إلى عصر الدولة السلطانية. وفي الدولة السلطانية، تأخذ القيم السياسية معانٍ أخرى مختلفة عن القيم الحديثة.
حيث تأخذ مفردات مثل : الشخصنة و الرمزية، والولاء، والرعية ، والموالون ، والمعارضون ،والخارجون والعوائل ، والبيوتات ، والطوائف ، والفئات، والعسس ، والحراس وغيرها ……معان سياسية من خلال علاقتها بالحاكم وليس من خلال وضعها في الدولة وعلاقتها بالنظام. وكذا المكاسب ؛ الوظيفية، و الاقتصادية ،و المالية، والاجتماعية و غيرها…..تتأتى بصورة ما من خلال العلاقة بالحاكم سواء كانت الفئة الحاكمة او المؤسسات المرتبطة به و طبيعة العلاقة بها.
حتى العلم يأخذ معنى عامًا يخلط بين المعرفة والحياة ويكثر فيه المدعون من المثقفين الذين يفسدون العلم الاجتماعي والثقافي خاصة بنفس الوقت، ويسعى الحاكم إلى إنزال العلم الحقيقي من برجه العاجي ليرتهن إلى السلطة ويبقى في خدمتها. وينتقي بذلك التعليم العام الذي ينور المواطنين ولا سيما ما يتعلق منه بحيثيات الحكم والتطور السياسي، والديمقراطي. وتصبح قيمة الحرية هي ما يؤدي إلى فعل ما تريده السلطة وليس فعل أو عدم فعل ما يريده الإنسان المواطن. لذلك في الدولة السلطانية يحل الغموض محل الشفافية و النفاق محل النقد و النصيحة و التآمر و التواطىء و الاتهام محل التخطيط و التعاون و التقييم.
وطالما أن لكل إنسان في الحياة (كعب اخيل) الذي يريد أن يخفيه عن المجتمع، وطالما أن الإنسان يعتبر من أكثر الحيوانات قدرة على فعل الخطأ والقبيح، يصبح من المحتم التستر على كل الأخطاء والأفعال. فالشفافية التي تكشف العورات تنعدم ويبقى المجتمع يعيش في جحيم غامض. ذلك لأن الشفافية والعلم النافع والسلوك القويم لا يكون الا من فعل الإرادة العامة. وعدم توفر الإرادة العامة في الاختيار والقرار يلغي احتمال تصدي القادرين للعمل العام، فيجري الاعتماد على الصغار وعديمي الأهلية الأمر الذي يؤدي إلى تدمير المجتمع والدولة.
لذلك؛ اكتشف الإنسان المبادر المستنير في المجتمعات التي أصبحت متقدمة ضرورة تكريس العلاقة بين التنشئة والتعليم والثقافة والقانون وحرية الاختيار والعدالة في الفرص واعتبر السياسة شأنًا عامًا للمواطنين وليس شأنًا خاصًا للسلطان وزبانيته.
في التاريخ جرى تركيب المعادلة الأفضل لإدارة شؤون المجتمع والدولة، معادلة تقوم على أسس قيمية وأداتية، و القيم هي الحرية والعدالة والتكافؤ، والأدوات هي: القانون وحق الاختيار والتصويت وحق التعبير والتقييم و حق الممارسة العمل العام. وفوق ذلك جعل مبدأ السيادة للشعب وليس لغيره ايا” كان هذا الغير.

حول واقع الدول العربية
عندما نفكر في العالم العربي اليوم، يخطر بالبال إعادة التفكير “بدول الطوائف” المؤسفة في التاريخ العربي في الأندلس. فلقد كانت مثالاً على حالات المجد الضائع، والشرعية المفقودة، والتمسك بسلطة خائفة حتى الاستنجاد بالخارج في مواجهة بعضها بعضًا. زد على ذلك أنها كانت بعدد الدول العربية اليوم (22) دولة، كلها اضمحلت وانتهت من التاريخ لمصلحة الأجنبي في حينه.
واليوم، يلاحظ المراقب أن الدول العربية، في أغلبها، دول أشخاص أو دول عائلات، على الرغم من تضخم أعداد الشعوب، وتسعى في معظم الحالات إلى تلفيق وفرض حالات من الشرعية غير المقنعة. وتدعي بالمجد، والاستقلال، والقوة ، وهي في الواقع مرتهنة للخارج “الحليف القسري المراوغ”، بينما تمارس أو تبحث عن سلطة قهرية لإخضاع شعوبها. تدعي السعي لتحقيق التنمية مع أنها في معظمها (إلا من رحم ربك بالنفط وعائداته) يغرق في مديونية مكلفة لأجيال. ودون أن تعترف صراحة، تعرف أن أمنها القومي أو الوطني، مفقود أو مخترق وتسعى للتحالف مع الشيطان لأجل تأجيل السقوط في امتحان المواجهة مع عدو محتمل.
تسود، في واقع العالم العربي اليوم، ظواهر لا نستطيع تصنيفها في ضوء المعايير الحديثة، للفكر و الممارسة العملية، الأمر الذي يجعل من العقل السياسي العربي عقلاً ملتبسًا ومضطربًا.لا سيما من حيث المرجعيات الاساسية: الدينية القومية اليسارية الليبرالية او الوطنية.
ففي الوقت الذي يشتمل الدين الإسلامي كدين على قواعد أخلاقية و إنسانية، نرى الرجوع إليه يتم عبر ظواهر أو حالات أو أمثلة خاصة وربما شاذة، تبرر الأخطاء والخروج عن القواعد العامة وهذا يجعل من التاريخ الاسلامي الإنساني المحكوم بظروف زمنية مختلفة و خاصة هو المرجعية الدينية الملزمة. والرجوع إلى الدين غالبًا ما يفسر لمصلحة الظاهرة الاستبدادية السائدة. اي تكييف التاريخ للواقع او اخضاع شروط الواقع لظروف التاريخ وفي الحالتين هنالك تجاوز للتطور الانساني في التحليل و التقييم و استخلاص العبر و الاحكام.
والمكون الآخر في العقل السياسي العربي، اي المرجعية القومية العربية غالبا ما تأتي ذات بعد تمييزي غير مبرر، إن لم نقل يلتبس مع عنصرية كذاك الفكر الذي جربته بعض الاحزاب و الحركات السياسية العربية، فقد ادى الى مركزية الدولة (الحزب القائد، الطغمى العسكرية الاوليجاركية ) و كان وسيلة لبعض الحكام بدوافع تبرير الاستبداد والتضييق على التوجهات الفكرية الأخرى، لا سيما الدينية منها و لذلك كانت نهايتهم كأي نمط استبدادي في التاريخ.
أما الخيار اليساري، الذي توجه له بعض النشطاء السياسيين العرب.الذي اعتبر مرجعييته النظرية الاشتراكية العلمية و التجربة السوفييتية تحت شعار العدالة و مركزية الدولة الشعبية، فعلى الرغم من مظهره التقدمي إلا أن سقوطه في مواقع السلطة أدى به إلى أن يكون غطاءً لفساد الدولة عبر دعوى الاشتراكية و الوقوع في شباك الدولة الأمنية التي كرست الاستبداد ومن ثم الفشل في تحقيق دولة المجتمع والشعب أو الأمة و دولة العدالة و المساواة. وقد اوقعهم ذلك بعد سقوط التجربة السوفييتية في دعوى التبشير للمسخ الليبرالي الذي فصلته الانظمة العربية على مقاسها.
وأما البعد الرابع في العقل السياسي العربي، فقد تمثل في خيارات انتقائية للمنهج الليبرالي الذي أدى إلى ما يعرف بحالة من المسخ الليبرالي تحت عنوان(حرية السوق) و انتهى إلى افقار المجتمع و الدولة وانتشار ظاهرة الفساد المركب من القمة إلى القاعدة، تحت زعم الليبرالية الجديدة. ما أدى إلى احتكار الثروة والسلطة والنفوذ. واعادة التشكيل الطبقي للمجتمع من فئات الحكام و رجالهم فالسماسرة و الوسطاء(الكمبرادور)، والبرجوازية المصطنعة من المنبتين والموتورين ، وتسطحت الطبقة الوسطى الى حدود التلاشي بينما تضخمت طبقة سميكة من الفقراء و المعوزين و المهمشين الذين اصبحوا موضوعا لسيطرة الفئات السابقة.
اما البعد الاخير فالعقل السياسي العربي فهو نوع من التوليفة الفكرية من كل ما سبق حتى امتزاجه ببعض فكر السلطة التقليدي و هو لتوفيقيته المبالغ بها لا يعرف الحدود بين الفئات او الافكار فما بين فكر السلطة، و فكر القبيلة، والفكر الامني، والفكر اليساري، و الفكر القومي، و الفكر الليبرالي و الفكر الديني تشكلت في المجتمعات العربية حالة من الانتهازية الثقافية و السياسية لا تسمح حتى في حالة احداث تغيير ثوري من اختيار ما هو من مصلحة المجتمع و الدولة. وفي الواقع ان العقل السياسي العربي يعيش حالة من الفوضى الفكرية التي تحتاج الى وقت طويل نسبيا” للوصول الى صيغة ما متجانسة من الافكار و التوجهات لبناء الدولة او حتى النظام السياسي المناسب للحداثة و التقدم و تحقيق مصلحة المجموع الوطني.
إن هذا المركب غير المتجانس من العقل السياسي العربي لم يجعل من الدولة العربية دولة حديثة بل لم يمكنها تاريخيا و راهنا من تحقيق ما يسمى دولوية الدولة. بمعنى لم يجعلها دولة حقيقية فماذا لدينا، إذن؟
مكونات الدولة العربية:
للإجابة على هذا السؤال، نحاول الاقتراب من تحليل مكونات الدولة. إن ما يتوفر لدينا من مكونات يؤكد سيطرة الطبقة الحاكمة عبر أزلامها على السلطة وعلى الفئات الاجتماعية المختلفة كقاعدة عامة. و كلها ذات طبيعة محافظة تعيق التقدم. هذه الطبقة تحكم وتمتلك الثروة والمزايا، وتصوغ الأدوار والفئات الاجتماعية.
والفئات الاجتماعية بتكوينها الحديث إما أزلام سلطة بما يلزمهم من المثقفين الخبراء المستلبين ، والانتهازيين المتحذلقين الذين يفسرون العلم الاجتماعي والسياسي والثقافي بذات الوقت حسب اهواء السلطة. وينبرون للدفاع عن الأفعال السياسية السلبية و تبريرها اعلاميا لا سياسيا عبر الاتهام و الاستنكار بلا مسوغ منطقي او عقلاني و حجتهم في ذلك الشرعية المزيفة للنظام الحاكم. وربما يقع إلى جانب هؤلاء بعض الجماعات أو الأفراد أو المدارس الدينية ذات المرجعيات الشاذة و غير المؤكدة سواء في التراث او في الدين الاسلامي، وهؤلاء يخلطون بين العلم الشرعي والحياة اليومية ويبررون للحاكم سلوكه السياسي العام ويؤكدون على شرعية دينية لم تكن فعّالة إلا في القرون الوسطى. عندما كانت مجتمعات لا تملك الا الرواية الدينية التاريخية التي كان مصدرها الحاكم و شيوخ السلطان فضلا عن ان الحاكم في ذاك الوقت كان يعتبر ظل الله على الارض، الامر الذي لم يقل به الاسلام اصلا.
والفئة الثالثة، هي الجماعات القبلية والعشائرية لا سيما شيوخها وقادتها، وهؤلاء يقيمون علاقاتهم مع الحاكم وأزلامه على أساس زبائني، يعتمد على الفيء والامتيازات الممنوحة. وينشطون حيث تكون السلطة العامة ضعيفة. إذ يضعون أنفسهم في خدمة السلطة العامة في علاقات منفعية متبادلة مع رجال الحكم ومن يشاركونهم، وفق معادلة الحماية والتواصل و المكارم مقابل التجنيد والتجييش و الحشد لمصلحة السلطة و ترجمة هذا التحالف تتم عبر المشاركة في الغنائم لا المشاركة في السلطة او السياسة.
أما الفئة الثالثة من مركب الدولة العربية، فهي نخبة “العسكرتاريا”، وهي لا تعني كامل الجيوش، وإنما أولئك الذين يسيطرون على الفكر الاجتماعي السياسي من خلال حساسية الضرورة الأمنية لدى الشعب ويتبنون الخوف كعامل ردع وإخضاع، ويباشرون القمع ضد المجتمع كعقاب لمن يخالف تآلف قانون السلطة( بنية النظام)، وقانون العلاقات المالية والاقتصادية(القوى الرأسمالية الذيلية)، وقانون الإدارة الاجتماعية(الفئوية المكرسة: قبلية، طائفية، اصحاب حظوى…). أو بالإجمال قانون الاعتماد المتبادل بين الحاكم والدوائر المرتبطة به مباشرة أو عبر أزلامه.
أما الفئة الخامسة من مكونات الدولة العربية القائمة، فهي فئة أصحاب المصالح الصغيرة الملحقة، الاقتصادية والتجارية، و الملكية الهامشية إن وجدت، والوسطاء والسماسرة…) وهؤلاء حالتهم كحال الاعلاميين المرتزقة.
فنظرًا لافتقار الدول العربية، لما يسمى بالبرجوازية الوطنية أو نظرًا لتحجيمها إن وجدت، اعتمدت الفئات الحاكمة على التعاون المباشر مع أصحاب المصالح إما بإخضاعهم أو مشاركتهم، ما ضاعف من دور الوسطاء والسماسرة، كناقل وشريك في المغانم، وأحيانًا كناطق باسم السلطان. الأمر الذي أضعف التطور الاقتصادي الطبيعي وضخم من مظاهر الفساد بأنواعه المختلفة، بحيث أصبح المؤسسة الأوسع انتشارًا في بنية الدولة العربية، الأمر الذي حد كثيرًا من قدرة الجهاز البيروقراطي على ضبط عمليات أدراة الدولة على تنوعها، كما حد من إمكانية تطبيق القوانين الناظمة لنشاطات الدولة.
إن هذا الوضع أدى إلى أن يكون جهاز الدولة البيروقراطي (ممثل القانون)، مشلولاً أو على أقله محايدًا إزاء العمليات اليومية لنشاطات الدولة واقتصر دوره على تمرير المصالح المختلفة للفئات السابقة و القيام بالروتين الإداري اليومي.
إذن تلخصت الدولة في مركب، من فئات بينها مصلحة مشتركة لتوزيع الخيرات والمكاسب وتبريرها، باعتبارها وظائف الدولة. مركب من – الفئة الحاكمة وأزلامها يمثلون (القانون شكلاً)، وأصحاب المصالح الاقتصادية والمالية كنشاط رئيسي للدولة، والعسكرتاريا الأمنية كضابط للأمن ولايقاع حركة المجتمع، والرموز الاجتماعية الغنائمية، وكتبة السلطان من المتعلمين والإعلاميين، وهو مركب يقوم حول الوظيفة والدور والمكسب، وهذا لا يشكل نظامًا سياسيًا لا رسميًا ولا شعبيًا، ولا يعبر عن دولة حقيقية لمجتمع موحد الهوية.
أما النخب القابضة على الجمر من أبناء الشعب مثل المثقفين الناقدين أو السياسيين الوطنيين، أو العمال أو الفلاحين، وصغار الكسبة، والأجيال المحيطة، وغيرهم ممن يتمركزون في القاعدة الاجتماعية الشعبية. هؤلاء جميعًا احترقوا النقد الخافت أو التذمر الصارخ، ولكنهم بالفعل يعيشون حالة من النفي واللانتماء، وهما وجهان لعملة واحدة، هي المواطن المهمش، الذي يعيش فعليًا بلا وطن.
وعليه فلا غرابة أن يوصف هذا الحال لكل دولة عربية، فقيرة أم غنية، كبيرة أم صغيرة بأنها حالة من حالات القرون الوسطى. حيث كان يسود تحالف (النبلاء اللوردات والحكام) + رجال الدين (الكنيسة) + الارستقراطية المالية (الزراعية سابقًا) ،حيث كان هؤلاء يمارسون سلطتهم على الفلاحين والأقنان والعبيد إذا شئتم و صح القول.
بهذا المعنى، نحن لا نستطيع أن نصنف الدول العربية، بأنها “دول حديثة”، أو حتى “دول حقيقية”. فالدولة الحقيقية أو الحديثة، تكون دولة بالمعنى الحقيقي، “دولة دولوية”، كما يمكن وصف أي شيء بحقيقته.
والدولة الحقيقية، هي تلك الدولة التي يتمثل حضورها في عقل ووجدان المواطن:
فيقدر ما تكون الدولة تعبيرًا عن الهوية العامة والخاصة للمواطن، والمجتمع، بقدر ما تكون دولة حقيقية، والهوية، هي تلك السمات التي يصطبغ بها الفرد المواطن في ثنايا مجتمعه نتيجة للتفاعلات المتواصلة والمتراكمة تاريخيًا والتي تحدد شخصيته الوجدانية والثقافية والمصلحية وتعبر عن ولاءه لهذه الكينونة واستعداده للتضحية من أجلها باعتبارها تشخيصًا لذاته الكلية العامة.
وبقدر ما تكون الدولة تعبيرًا عن وفاق اجتماعي شامل بين مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وبقدر ما تكون إطارًا للعلاقة التكوينية الإيجابية بين المواطن ووطنه ومجتمعه ومؤسسات إدارته، وتشكل توافقًا جماعيًا إزاء الأهداف والغايات والوسائل وتحقيقها، تكون دولة حقيقية.
وبقدر ما تكون عنوانًا لكبريائه وانتماءه وفخره وكرامته كمواطن وكإنسان، تكون دولة حقيقية. والدولة الحقيقية تتشكل الحضور الأسمى فوق كل الولاءات والانتماءات ودوائر الفعل الاجتماعي والسياسي.
وهي حالة تشخيص الوجود السياسي والقانوني والاجتماعي والحياتي للمواطن الفرد الإنسان. لذلك تعتبر الدولة بهذه المواصفات، الدولة الحديثة للمجتمعات الحديثة، التي مازالت تسعى لتطويرها نحو الأفضل والأعلى والأرسخ. وحتى تكون كذلك لابد من أن تتمتع بالسمات او حتى بالشروط التالية:


– بالشرعية الاجتماعية، أي الرضا العام عن الدولة ومن يتولى شؤونها وإدارتها من حكام ومسؤولين.
– بالبنية القانونية للمؤسسات وتفعيلها بشفافية.
– بتحقيق الأمن الاجتماعي الشامل داخليًا وخارجيًا، داخليًا بالعدل والأمن الإنساني الفعال، وخارجيًا بالقدرة على الدفاع ازاء اي مواجهة وتحقيق السلام في فرصه الممكنة.
– تكون الدولة مناط تحقيق القيم العامة الإنسانية والخاصة على مستوى الأمة والشعب.
– التوزيع العادل للسلطة والثروة وبصورة شرعية عامة.
– المشاركة وحرية الاختيار وبالذات حرية الفرد ليس فقط في أن يعمل ويقول ما هو شرعي وقانوني ولكن أيضًا في أن لا يعمل ولا يقول ما لا يريد عمله أو قوله كما يتمتع بحرية الحركة والتنقل والإقامة في دولته حيث شاء.
– الدولة النازعة دومًا نحو التقدم باعتباره غاية دائمة. وفي مختلف المجالات.
– الدولة المستقرة في ذهن ووجدان مواطنيها، ولدى الدول والمجتمعات الأخرى كدولة حقيقية فاعلة وأنها دولة شعب مؤسسية وأخلاقية وإنسانيته.
– دولة يكون نظامها السياسي تعبيرًا مؤسسيًا شرعيًا بالمشاركة الحرة والمسؤولة للمواطنين، ويعمل على تحقيق دولوية الدولة بمسؤولية دون خصوصية الحصانات والامتيازات.
– دولة يكون الشعب فيها هو الهيئة العامة، صاحب السيادة المطلقة في تقرير ما هو حق وواجب، ويفترض أن يكون شأنًا عامًا أو خاصًا. وهو صاحب الحق باختيار من يقوم بالمسؤولية ومحاسبته على الأداء.
أثبتت التجربة الإنسانية لغاية الآن. أن هذا لا يتحقق إلا بالأخذ بالمنهج الديمقراطي المفتوح والمناسب، كآلية عمل، يرتكز على أربعة قيم جوهرية:
– ضمان الحرية كقيمة فردية وإنسانية.
– ضمان العدالة كقيمة فردية وإنسانية.
– ضمان المشاركة كحق وواجب وطني.
– التنمية المستدامة كغاية.
و باختصار الدولة الحقيقية هي دولة كينونة حقيقية لا دولة اعلام، اي دولة افعال و اقوال و انجازات و ارقام. الدولة الحقيقية قناعة و شرف و كرامة لمواطنيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى