أمن وإستراتيجية

الحرب النظيفة و الحرب القذرة

علي فضيل العربي

ارتبط مفهوم الحرب عند القدماء بمفاهيم عدّة ، فقد ارتبط عند اليونان بمفهوم البطولة ، كما ارتبطت الحرب بالمرويّات الشعرية الملحميّة التراجيدية الكبرى لدى هوميروس ، و التي تحكي عن شجاعة اليونانيين و فدائهم و تضحياتهم . ثم أخذت الحرب في العصر الوسيط ، طابعا دينيّا مقدّسا ، عندما اصبح الملك أو الإمبراطور أو الخليفة ، يعلن بداية الحرب و نهايتها باسم الإله .
لكن بعد العصر الوسيط ، حاول الفلاسفة فصل السياسة عن المسألة الثيولوجية . لنزع صفة القداسة عن القرار السياسي .
و من أوائل الفلاسفة ، الذين أرسوا دعائم الفلسفة السياسية ، توماس هوبز الذي رأى أنّ الطبيعة في حالة حرب دائمة ، و بالتالي فهي فطرة و طبيعة بشريّة . بينا رأى الفيلسوف جان جاك روسو ، عكس ذلك . و من أشهر الفلاسفة الذين برّروا للحرب ، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه . جاء في مقال للكاتب خليل الناجي ، بموقع الجزيرة ، تحت عنوان ” مفهوم الحرب في الفلسفة السياسية – ما يلي : ” يمكن أن يكون نيتشه عرّابا لتقديم الحرب كنوع من الانتصار، وشكل من أشكال القوة التي يجب أن يتمتع بها الإنسان ، ” . و أضاف الكاتب خليل الناجي : ” في المرحلة المعاصرة ، نجد مفكرين من نوع آخر، مفكرين انتقلوا من عملية تحليل الحرب ، ومن محاولة الإجابة عن ، هل هي من الطبيعة البشرية أم هي وليدة تأثير المجتمع ؟ هل هي طريقة لإثبات القوة ودفع تهمة الضعف والعبودية ؟ أم أنها فقط ضرورة وشر لابد منه ؟ بدل التركيز على هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها تحت الشروط المعاصرة للتفكير، فقد تحول جزء كبير من النقاش ، إلى البحث عن المبررات السياسية والأخلاقية التي تجعل من الحرب ” أمرًا عادلًا “. ويمكن الاستعانة هنا بالعديد من المفكرين المعاصرين منهم مايكل والزر من خلال كتابه الحرب العادلة وغير العادلة .”
و مهما يكن ، فإنّ الحر ب ، هي الحرب ، مصطلح لغوي ، يعبّر عن العنف و التدافع و العدوان و التقاتل بين البشر ، دوافعها عدوانيّة ، ظالمة بيّنة الظلم . سواء أكانت حربا عسكريّة ، ماديّة أو حربا كلاميّة و نفسيّة . هدفها هو تحقيق النصر على العدو بالقوّة و سفك الدماء . و حتى و لو كانت دوافعها و مبرّراتها دفاعيّة ، من أجل تحرير الأرض من العدو الغاصب ، و استعادة حريّة شعب أو أمّة أو قبيلة . فقد خلق الله الإنسان لتعمير الأرض ، و المحافظة على سطحها و باطنها و مياهها و جوّها ، و صون النفس البشريّة ، و خلق شعوبها للتعارف و التعاون و التراحم و التسامح و تبادل المنافع و دفع الأضرار .
إذن ، فالحرب ، سلوك همجيّ ، بربريّ ، وحشيّ ، دمويّ ، عدوانيّ ، ينزع عن الإنسان المعتدي إنسانيته ، و يلحق الضرر الجسدي و النفسي بالمعتدى عليه . فالحرب مهما كانت دوافعها و أهدافها ، فهي تثير في النفس الخوف و الهلع و الفزع و الكراهيّة و البغضاء ، و هي قتال ، تُزهق فيه الأرواح البشريّة ، و تُحدث جراح و عاهات جسديّة و نفسيّة ، و تسيل فيها دماء و دموع و لا ينجو من نارها حيوان أو طائر أو شجر أو حجر ، هي تقاتل أُكره عليه الإنسان ، و لو كان من أجل استرداد الحقّ المسلوب ، و دفع العدّو المتربّص ، الغاصب . قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة / 216 .
ما أبشع حروب هذا القرن الذي نعاصره . فقد تجاوزت حدود العقل ، و فاقت الحدس البشري . حروب قذرة ، بأتمّ معنى الكلمة . ليس فيها بقعة نظيفة . فهي لا تميّز بين الأهداف البشريّة و الماديّة . و لنا في الدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى ، و نظيرتها الثانيّة ، ثم في مأساتي هيروشيما و نكازاكي ، خير مثال على ذلك . كانت تلك الحروب مجنونة ، قذرة ، لم تميّز بين رجل و امرأة ، و بين كبير و صغير ، و بين صبيّ رضيع و شيخ مقعد ، و لا بين عسكريّ و مدنيّ . حروب حوّلت الشجر و الحجر و الغدران و أسقف جدران إلى رماد و دخان .
و هاهي الحرب في أوكرانيا ، بين الروس و الأوكرانيين ، تعيد المشاهد المأساوية نفسها . تقصف الطائرات المباني السكنيّة الآمنة ، و تدكّ المدافع و الدبابات و راجمات الصواريخ المدن و القرى الآهلة بالسكان ، دون وازع دينيّ أو اخلاقيّ أو إنسانيّ .
و يتساءل الإنسان العاقل – في أوكرانيا و روسيا ، و في بقعة من كوكبنا الأرضي – حائرا ، متحسّرا ، مغتاظا أشدّ الغيظ : لماذا كل هذا الجنون و القذارة ؟ لماذا لم يتعظ دعاة الحرب القذرة من الحروب السابقة ؟ ما الفائدة المرجوة من هذه الحرب المجنونة ؟
و الجواب : لأنّهم حمقى ، و الحمقي تلاميذ أغبياء ، لا يفقهون دروس الحياة . و لأنّهم يجهلون ، انّ جني الحرب خسران ، ما بعده خسران . لا منتصر فيها أبدا ، بل هي هزيمة للروح الإنسانيّة و القيّم الأخلاقيّة .
لقد كانت حروب الأسلاف – و ما أكثرها – أقلّ فظاعة و دمويّة من حروب اليوم . لأنّ وسائلها كانت أقلّ فتكا و دمارا ، و اطماعها كانت محدودة المعالم ، و خسائرها كانت محدّدة ، بالمقارنة مع حروب اليوم و الأمس القريب . كان الجنديّ يقاتل الجندي ، و المقاتل يواجه المقاتل . و لم تكن حروبا لحرق الشجر و الحجر و ردم الآبار و قتل أهل الصوامع و النساء و الشيوخ و الصبيان ، اللهم إلاّ إذا استثنينا ، بعض الحروب التي أحرقت فيها مدن ، كروما و البصرة و عموريّة و القاهرة ..
كانت الحروب – فيما مضى – ذات طابع قبلي و عرقي و دينيّ . فقد اندلعت حروب بين القبائل القبائل العربيّة في جزيرة العرب ، و أشهرها ، حرب البسوس ، و حرب داحس و الغبراء . و حروب بين العرب و الفرس ، و بين العرب و الروم ، و بين الروم و الفرس . و بين العرب و المغول ، و حروب في أسيا و إفريقيا و أمريكا بشمالها و جنوبها ، و حروب بين القوميات الأوربية و المذاهب الدينيّة . و كانت نهاياتها ، الجنوح إلى التصالح و السلام و التعايش ، بعد خسائر فادحة في الأنفس و المال و الأخلاق و الإنسانيّة . لكنّها – رغم ما سببته من مغارم – لم تهدّد كوكبنا بالدمار الشامل ، و إفناء البشريّة ، كما هو الحال في يومنا . فقد بالغ الإنسان المعاصر ، في الدول الصناعية الكبرى ، في صنع الأسلحة الفتّاكة ؛ التقليدية و النووية و البيولوجية و الكيماوية و الجرثوميّة . و كأنّه بصدد التحضير لإفناء نفسه . و الأسئلة المحيّرة ، حقّا ،: ما الهدف من كل هذه الترسانة من الأسلحة الفتّاكة ؟ أهناك عدوّ ، في كوكب آخر، في المريخ أو الزهرة ، أو ما وراء الشمس ، يتربّص به الدوائر ؟ أما ىن للإنسان المعاصر ، في الغرب و الشرق ، أن يستيقظ من كوابيس النرجسيّة ؟

و أعود إلى الحرب الدائرة حاليا بين شعبين أو لنقل نظامين ، كانا بالأمس القريب – قبل سقوط جدار برلين 1989 – ضمن منظومة اتحاديّة ، سياسية و إيديولوجيّة و ثقافيّة واحدة ، ( الاتحاد السوفييتي ) . أعود ، و أتساءل : ما جدوى هذه الحرب ؟ ما الفائدة الماديّة و الأخلاقيّة ، التي سيجنيها المتحاربون ، و العالم أجمع ؟ ألم يكن ، من الأجدر و الأنفع ، للإنسانيّة ، أن تُنفق تلك الأموال الطائلة ، المهدرة في معارك السلاح و الاقتصاد والإعلام و الدعاية المغرضة ، لفائدة المعذبين على الأرض ؟
لم تكن نيران الحرب لتندلع بين الإخوة الأعداد في شرق أوربا ، لو لا موت الضمير الإنساني ، و عودة الحرب الباردة ، و غلبة فلسفة البراغماتيّة و اللذة الساديّة على نفوس الساسة ، بعد جائحة الكوفيد 19 .
و في رأيي – و ليخالفني من شاء الرأي – إن هذه الحرب القذرة ، تتحمّل مسؤوليتها المنظمات العالمية ؛ كمنظمة الأمم المتحدة ، و مجلس الأمن ، و الاتحاد الأوروبي ، و منظمة المؤتمر الإسلامي ، و الفاتيكان ، و الاتحاد الإفريقي ، و جامعة الدول العربيّة ، و غيرها من الهيئات الحقوقيّة و الثقافيّة و السياسيّة . فإذا كانت ، هذه المنظمات و الهيئات ، عاجزة عن المحافظة على السلام العالمي ، و التعايش السلمي بين الأمم و الشعوب ، فلا جدوى من وجودها البتة . إنّ منع إضرام النار خير من السعي لإطفائها و أسهل .
و بعد …
أيّها الساسة الكبار و الصغار ، اطفئوا نيران الحروب يرحمكم الله . و استمعوا ، بقلوبكم و عقولكم ، إلى أنّات الأطفال و الشيوخ و النساء و الأيامى و اليتامى و الثكالى و الجرحى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى