أمن وإستراتيجيةفي الواجهة

الحرب الشَّرَّ الأعظم.. كتاب كريس هيدجز

عثمان محمد حمدان

مقدمة المترجم:
كريس هيدجز Chris Hedges صحفي ومُؤلف وباحث أمريكي صاحب حُجَّة واضحة ضدَّ الحرب، ليس على أُسُسٍ فلسفيَّةٍ أو أخلاقيَّة فقط، ولكن من واقع تجربته كمراسل حربي حيث عمل لما يقرب من عقدين في تغطية الحرب في البَلقَان والسلفادور. يرى هيدجز أن الحرب تخلق إحساسا بالهدف والهوية للأفراد والمجتمعات، ولكنها تؤدي في نهاية المطاف إلى خيبة الأمل والصدمة. تتناول كتاباته تقاطعات السياسة والثقافة والمجتمع حيث أشْتهِرُ بانتقاده للإمبرياليَّة الأمريكيَّة ووسائل الإعلام السَّائدة. يرى هيدجز أن المؤسسة الليبرالية التقليدية في الولايات المتحدة فشلت في معالجة عدم المساواة الاقتصادية والسياسية المتزايدة في البلاد. ويؤكد أن الطبقة الليبرالية أصبحت متواطئة مع نفس الأنظمة التي سعت ذات مرة إلى إصلاحها.


الحرب الاستباقيَّة، سواء في العراق أو أوكرانيا، هي جريمة حرب. لا يَهُمُّ ما إذا كانت الحرب قد شنَّت على أساس الأكاذيب والافتراءات، كما كان الحال في العراق، أو بسبب خرق سلسلة من الاتفاقيات مع روسيا، بما في ذلك وعد واشنطن بعدم توسيع حلف الناتو إلى ما وراء حدود ألمانيا الموحدة، وعدم نَشْرِ الآلافِ من قُوَّات الناتو في وسط وشرق أوروبا، وعدم التدخل في الشُّؤون الداخليَّة للدول الواقعة على حدود روسيا، وكذلك رَفضُ تنفيذ اتفاقيَّة مينسك للسَّلام. أتوقَّعُ أن غزوَ أوكرانيا لم يكن ليَحْدُث لو تمَّ الوفاءُ بهذه الوعود. بالرغم من أن لروسيا كُلَّ الحق في الشُّعُورِ بالتهديد والخيانة والغضب، لكن تفهم ذلك لا يعني التَّغاضي عن جريمة الحرب. إن غزو روسيا لأوكرانيا، هو حرب عدوان إجراميَّة بموجب قوانين ما بعد نورمبرغ.

لقد عَلِمَتُ آلةَ الحربِ. الحربُ ليست السياسة بوسائل أُخرى، إنها شرُّ محضٍ. قَضَيتُ عقدين كمراسل حربٍ في أمريكا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا والبلقان، حيث قمت بتغطية الحروب في البوسنة وكوسوفو. تُسكّنُني أشباحُ العشراتِ مِمَّن حصدتهم الحربُ، بمن فيهم صديقي المقرَّب، مراسل رويترز كورت شورك، الذي قُتل في كمينٍ في سيراليون مع صديقي الآخر، ميغيل جيل مورينو دي مورا.

أعرفُ فوضى الحربِ وحِيرَاتَهَا، وعدم اليقينَ والارتباكِ الُمستمر. في معركة بالأسلحة النَّاريَّة، تكون أنت على درايةٍ فقط بما يحدثُ على بعد أقدامٍ قليلة حَوَّلك. تُكافح بِشدَّة، وليْس دائمًا بِنجاح، لِمعْرِفة مِن أَيْن يَأتِيك إِطلَاق النَّار لِتجنُّب نَفسِك الإصابة.

لَقد شَعرَت بِالعجز والشَّلل اَلذِي لا زال يُداهمني، بعد سنوات، مِثْل قِطَار بِضاعة يُسْرِع فِي مُنتَصَف اللَّيل، يَترُكني مطْويًّا فِي دُثُر مِن الرُّعْب، وقلبِي يَتَصدَّع ، وَجسَدِي يَتَصبَّب عرقًا.

لَقد سمعت نشيج أُولئك الَّذين يِخْتلْجهْم الحزن وَهُم يتشبَّثون بِجثث الأصْدقاء وأفْرَاد العائلة، بِمَن فِي ذَلِك الأطْفال. ما زلت أسْمعهم. لا تُهِم اَللغَة. الإسبانية. العربيَّة. العبْريَّة. الدِّينْكاويَّة. الصِّرْبيَّة الكرْواتيَّة. الألْبانيَّة . الأوكرانيَّة. الرُّوسيَّة. فالْمَوْتُ يَتَجاوَز الحواجز اللُّغويَّة.
أعرف كيف تبدو الجراح. الأطراف المتطايرة. الرُّؤوس المنسوفة تسبح في كتلة دَمَويَّة لزجة. البطون المبقورة. برك الدَّم. صرخات المحتضرين، نِداءاتهم للمرَّة الأخيرة لأمَّهاتهم. والرَّائحة. رائحة الموت. التضحية العظمى التي بذلت من أجل عِقْبان الجو وديدان الأرض.

تعرضت للضَّرب على أيدي الشُّرطة السِرِيَّة العراقية والسعودية. لقد تمَّ أسري من قبل الكونترا في نيكاراغوا، الذين اِتَّصلوا لاسلكيا بقاعدتهم في هندوراس لمعرفة ما إذا كان ينبغي عليهم قتلي، ومرَّة أخرى في البصرة بعد حرب الخليج الأولى في العراق، ولم أكُن أعرف أبدا ما إذا كنت سَأَعْدَمُ، وُضِعَتْ تحت حراسة مُسْتمِرَّة وغالبا بدون طعام، وأشرب من برك الطين.

الدرس الأساسي في الحرب هو أننا كأفراد مُتمايزين غير مُهمِّين. نصبح أرقاماً. علف. كائنات. الحياة، التي كانت ثمينة ومقدَّسة، تُصبح بلا معنى، ويتم التَّضحية بها لإِشباعِ شهيَّة إله الحرب التي لا تُشْبعُ. لا أحد في زمن الحرب مُسَتِثْنَى. “كُنَّا ذوات مُستهلكة” ، كتب يوجين سليدج عن تجاربه كجندي في مشاة البحرية في جنوب المحيط الهادئ في الحرب العالمية الثانية: “كان من الصَّعب قَبُول ذلك. نحن ننتمي لأمةٍ وثقافةٍ تُقَدِّرُ الحياة والفرد. أن تجد نفسك في موقف تبدو فيه حياتك ذات قيمةٍ مُتدنيةٍ هو أقصى درجات الشعور بالوحدة. إنها تجربة مُهينة”.

يتذكر سليدج ضابطا شابا في مُشاة البحرية الامريكية كان لديه “ميل مُروعُ وفاحشُ” لِلتَّبَوُّلِ في أفواه الجثث اليابانية. مشهدُ الحرب يُصيبك بالهلوسة. يسميها سليدج “تشكيلة غير واقعية”. إنها تتحدى الفهم. الحرب، مثل الهولوكوست، كما كتبت باربرا فولي، “لا يُمكنُ الإحاطة بها”. “لا يمكن الوصول للأبعاد الكاملة للحرب من خلال الإطار الأيديولوجي الذي ورثناه من العصر الليبرالي”.

تفقد القدرة على تَصَوُّرِ ومعرفة الوقت في معركةٍ بالأسلحةِ النارية. بضعُ دقائق. بضعُ ساعات. في هُنَيْهَةِ، تُسَوِّي المنازل بالارضِ وَتَطْمِسُ مجتمعاتٍ باكملها، كل ما كان مألوفا في يوم من الأيام، وتَتَرك وراءها أطلالا مشتعلة وصدمة تلاحقك طوال عُمْرِكَ. لقد ذُقْتُ ما يكفي من الحرب، ما يكفي من خوفي، تحول جسدي إلى هلام، لِأُوقِنْ أن الحرب هي عين الشر، أصدق تعبير ٍعن الموت، ترتدي زِيًّا وطنيا وتُباع للسذج كتذكرة للمجدِ والشرف والشجاعة لكنها تتقاصر عن الحرية والديمقراطية. إنها إِكْسِير سَامٌّ وَمُغْرِي. أولئك الذين بقوا على قيد الحياة، كما كتب كورت فونيغوت، يُكافحون بعد ذلك من أجل “إعادة اختراع أنفسهم وعالمهم،” وهو ما لن يكون له معنى مرة أخرى. كما كتب والت ويتمان، الذي كان يعتني بالجنود الجرحى في المستشفيات خلال الحرب الأهلية، في دفتر ملاحظاته: “الحرب الحقيقية لن تحتويها الكتب أبدا”. يجادل ويتمان قائلا: “لن يُكتب تاريخها الداخلي أبدا فحسب، بل إن جدواها وتفاصيل الأفعال والعواطف لن يتم تصورها أبدا.”

تُدمر الحربُ جميعَ الأنظمةِ التي تُحافظُ على الحياة وتَغَذّيها – العائلية والاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية والاجتماعية. فبمجرد أن تبدأ الحرب، لا أحد، حتى أولئك المسؤولين اسميا عن شَنِّهَا، يعرف ما سيحدث، وكيف ستتطور الحرب، وكيف يُمكن أن تَدْفَعَ الجيوش والدول نحو حماقة انتحارية. لا تُوجد حروب جَيِّدة. ايُّ حربٍ. وهذا يشمل الحرب العالمية الثانية، التي تم غسلها وتطهيرها وإضفاء الطابع الأسطوري عليها للاحتفال بالبطولة الأمريكية والنقاء والخير. إذا كانت الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب، فالغموض هو الضحية الثانية. إن الخطاب العدواني الذي تَبَنَّتْهُ الصحافة الأمريكية وتقوم بتضخيمه، وشِيطنة فلاديمير بوتين ورفع الأوكرانيين إلى مقام أنصاف الآلهة، والمطالبة بتدخل عسكري أكثر قوةٍ إلى جانب العقوبات المصممة لإسقاط حكومة بوتين، هو خطاب طُفُولِيّ وخطير. إن كون النسخة المعكوسة للصراع صحيحة في وسائل الإعلام الروسية يُغذي الجُنون.

لم تكن هناك مناقشات حول النزعة السلمية في أقبيةٍ سراييفو عندما كنا نتعرض لمئات القذائف الصربية يوميا وتحت نيران القنَّاصة المستمرة. كان من المنطقي الدفاع عن المدينة. كان من المنطقي أن تَقتلَ أو تقتُلُ. وقد أثبت جنود صرب البوسنة في وادي درينا وفوكوفار وسريبرينيتشا بجلاء قدرتهم على شن هجماتٍ قاتلة، بما في ذلك إطلاق النار على مئات الجنود والمدنيين واغتصاب النساء والفتيات بالجملة. لكن كل هذا لم يُنْقِذْ أَيًّا من المدافعين في سراييفو من سُمِّ العنف، القوة المدمرة للروح التي هي الحرب.

كنت أعرف جنديا بوسنيا سمع صوتا خلف الباب أثناء قيامه بدورية في ضواحي سراييفو. أطلق على الفور دفعةً من الكلاكنشوف عبر الباب. فالتأخير لبضع ثوانٍ في القتال يُمكنُ أن يعني الموت. عندما فتح الباب، وجد بقايا دَمَوِيَّةً لفتاة تبلُغُ من العمر اثني عشر عاماً. كانت ابنته في الثانية عشرة من عمرها. لم يتعاف بعدها أبدا.

في الفصلِ الثاني من كتابه “الحرب الشَّرَّ الأعظم”، يُناقشُ كريس هيدجز Chris Hedges الدور الذي لعبه توسُّعَ الناتو إلى حدودِ روسيا في التوترات بين روسيا والغرب والتي ساعدت على تأجيج الصراع الروسي الأوكراني. يشيرُ توسُّعُ الناتو إلى عمليةِ إضافةِ أعضاءِ جددِ إلى منظمةِ حلف شمال الأطلسي، وهو تحالف عسكري تم تشكيله في أعقاب الحرب العالمية الثانية كوسيلة لمواجهة الاتحاد السوفيتي. اعتبرت روسيا توسُّعَ الناتو تهديدًا مباشرًا لمصالحها الأمنية ومحاولة لتطويقها بقوات عسكرية معادية وانتهاكًا للوعود التي قطعها القادة الغربيون خلال المفاوضات حول إعادة توحيد ألمانيا. جادل المسؤولون الروس بأن تمدد الناتو من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة ويؤدي إلى حربٍ باردةٍ جديدةٍ. يشير الكاتب لدور المجمع الصناعي العسكري في تعزيز تَّوسُّعِ الناتو، وكيف يستفيد مقاولو الدفاع والموردون العسكريون من زيادة الإنفاق العسكري والطلبِ على الأسلحةِ والمعداتِ العسكرية التي يَمكُن أن تَنْتُج عن ذلك التَّوسُّعِ.

وقائعُ حربٍ مُعلَنَةِ
كُنْتُ في التسعيناتِ في وسطِ وشرقِ أوروبا، أنقلُ التقارير الصحفية عن الثورات التي أطاحت بالديكتاتوريات الشيوعية المُتحجَّرة وأدت، في خاتمةِ المطافِ، إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد كانت أيام مُفْعَمَةً بالأملِ. بتفكك الإمبراطورية السوفيتية أصبح حلف شمال الأطلسي (الناتو) حدثاً من الماضي السحيق. توافق الرئيس ميخائيل جورباتشوف مع واشنطن وأوروبا على أسس اتفاقية أمنية جديدة تشمل روسيا، وربما تقود في المستقبل إلى انضمام روسيا إلى الناتو. أكد وزير الخارجية في إدارة ريغان، جيمس بيكر، وكذا وزير خارجية ألمانيا الغربية هانز ديتريش جينشر، للزعيم السوفيتي أنه إذا توحدت ألمانيا، فلن يتمدد الناتو إلى ما وراء الحدود الجديدة. وبدا أن الالتزام بعدم توسيع حلف الناتو، الذي تعهدت به بريطانيا وفرنسا أيضا، يُبَشُّر بنظامٍ عالميّ جديدٍ. عوائد السلام بدأت تلوح في الأفق، واستبشرنا بالوعود بتحويل ميزانيات التسليح الضخمة خلال حقبة الحرب الباردة، إلى نفقاتٍ على البرامج الاجتماعية والبنى التحتية، التي تم اهمالها لفترة طويلة لإشباع شهية الجيوش التي لا تَشَبُّعُ.
كان هناك تفاهم شبه عالمي بين الدبلوماسيين والقادة السياسيين في ذلك الوقت على أن أي محاولة لتوسيع الناتو ستكون عملا طائشا، واستفزازا غير مبرر ضد روسيا من شأنه أن يَئِدَ في المهدِ العلاقات والروابط التي نشَّأت واِستقبلت بالترحيب في نهاية الحرب الباردة.
كم كنَّا ساذجين. لم تكن صناعة الحرب والسلاح تنوي تقليص قوتها أو أرباحها. شرعت على الفور في تجنيدِ دول الكتلة الشيوعية السَّابقة وضمها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. اِضَطرت البلدان التي انضمت إلى حلف الناتو، والتي شملت حتى الآن بولندا والمجر وجمهورية التشيك وبلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، إلى إعادة تشكيِّل جيوشها، غالبا من خلالِ قروضٍ ضخمةٍ، لتتلاءم مع الأجهزةِ العسكرية لحلف الناتو. وعلى الرَّغْمِ من الاحتجاجات الروسية، كانت الشِّحناتُ الثَّابتةُ من الأسلحةِ الأوروبية والأمريكية إلى أوكرانيا تَحَوُّل البلاد بصورة فعلية إلى عضوٍ في الحلف.
إذن لن يكون هناك عائد من السلام. سرعان ما أصبح توسيع حلف الناتو مصدر ثروة ملياريه للشركات التي استفادت من الحرب الباردة (على سبيل المثال، ستنفق بولندا 6 مليار دولار على دبابات MI Abrams وغيرها من المعدات العسكرية الأمريكية). عندما رفضت روسيا أن تكون عدوا مرة أخرى، تم الضغط عليها لتصبح ذلك العدو.
هناك الآن قاعدة صواريخ تابعة لحلف شمال الأطلسي في بولندا على بعد مئة ميل من الحدود الروسية. كانت عواقب توسيع الناتو إلى حدود روسيا معروفة جيدا لصانعي سياسات الحلف التوسعية. ومع ذلك فقد قاموا بتوسيع الحلف على أي حال. لم يكن هناك أي معنى جيوسياسي لذلك. لكن المنطق كان تجاريا. الحرب، قبل كل شيء، هي عمل تجاري مربح للغاية. هذا هو السبب في أننا [أمريكا والدول الحليفة] حاربنا لعقدين في أفغانستان على الرغم من وجود إجماع شبه عالمي في مستهل الحرب بعدم جدوى القتال الذي خضنا غماره في مستنقعٍ لم نتمكن من الفوز به أبدا.
في برقية دبلوماسية سرية حصلت عليها ونشرتها ويكيليكس بتاريخ 1 فبراير 2008، مرسلة من موسكو وموجهة إلى رؤساء الأركان المشتركة، وتعاونية الناتو والاتحاد الأوروبي “NATO-European –union– Cooperative”، ومجلس الأمن القومي National Security Council، وجماعة موسكو السياسية الروسية Russia Moscow Political Collective، ووزير الدفاع، ووزير الخارجية، كان هناك وضوح لا لبس فيه بأن توسيع حلف شمال الأطلسي مخاطرة ستنتهي بصراع في نهاية المطاف مع روسيا، وخاصة على أوكرانيا. تقرأ البرقية:
“روسيا على إدراك تام بمساعي تطويقها [من قبل حلف الناتو] والجهود المبذولة لتقويض نفوذ روسيا في المنطقة، أكثر من ذلك تخشى روسيا أيضا من عواقب لا يمكن التنبؤ بها وغير خاضعة للرقابة من شأنها أن تؤثر بشكل خطير على مصالحها الأمنية. يخبرنا الخبراء أن روسيا قلقة بشكل خاص من أن الانقسامات القوية في أوكرانيا حول عضوية حلف الناتو، ومعارضة الكثير من أفراد الأقلية الروسية [داخل أوكرانيا] انضمام أوكرانيا للناتو، مما يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات، ويشجع على العنف أو في أسوأ الأحوال، ربما يقود إلى حربٍ أهليةٍ. في هذا الاحتمال، سيتعين على روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستتدخل؛ وهو قرار لا تريد روسيا أن تواجهه. . . . أعرب ديمتري ترينين، نائب مدير مركز كارنيجي موسكو، عن قلقه من أن أوكرانيا كانت، على المدى الطويل، العامل الأكثر احتمالا لزعزعة الاستقرار في العلاقات الأمريكية الروسية، نظرا لمشاعر الألم العاطفي والتوتر العصبي الناجم عن سعيها للحصول على عضوية حلف الناتو. … ولأن أمر الانضمام لعضوية الحلف ظل مثيرا للانقسام في السياسة الداخلية الأوكرانية، فقد خلق فرصة للتدخل الروسي. أعرب ترينين عن قلقه من أنه سيتم تشجيع العناصر داخل المؤسسة الروسية الحاكمة على التدخل في أوكرانيا، مما سيحفز الولايات المتحدة على تشجيع القوى السياسية المعارضة بشكل علني، الأمر الذي سيضع الولايات المتحدة وروسيا في مواجهة كلاسيكية.”
حظرت إدارة أوباما، التي لم ترغب في زيادة تأجيج التوترات مع روسيا، مبيعات الأسلحة إلى كييف. لكن هذا التصرف الحَذِرِ تمَّ التخلي عنه من قِبل إِدارتي ترامب وبايدن. تتدفقُ الأسلحة من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى إلى أوكرانيا، وهي جزء من المساعدات والمعدات العسكرية الموعودة البالغة 1.5 مليار دولار. تشمل المعدات المئات من الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات Javelins وNLAW، على الرغم من الاحتجاجات المتكررة من قبل موسكو.
ليس لدى الولايات المتحدة وحَلفاءِها في حلف الناتو أي نَيَّةٍ لإرسال قواتٍ إلى أوكرانيا. بدلا من ذلك، سَيُغْرِقُون أوكرانيا بالأسلحة، حذو ما فعلوه في صراع عام 2008 بين روسيا وجورجيا، إِعَاقَة تَقَدُّمِ القوات الروسية بالجثثِ الأوكرانية.
الصراعُ في أوكرانيا يردد أصداء رواية غابرييل غارسيا ماركيز “وقائع موت معلن”. في الرواية، اعترف الراوي بأنه “لم يكن هناك موت أكثر توقعًا” ومع ذلك لم يكُن أحدُ قادرًا أو راغبًا في مَنْعِهِ. كان جميع الذين قاموا بالتغطية الصحفية من أوروبا الوسطى والشرقية في عام 1989 يعلمون عواقب استفزاز روسيا، ومع ذلك فقد رفع عددُ قليلُ منهم أصواتهم لوقف هذا الجنون. اِتَّخَذتِ الخطواتُ المنهجيةُ نحو الحربِ حياةَ خاصةٍ بها، مما جعلنا مثل السائرين أثناء النوم نندفعُ نَحْوَ الكارثةِ.
بِمجرد تَمَدُّدِ حلف الناتو إلى أوروبا الوسطى والشرقية، وعدت إدارة كلينتون موسكو بأن قوات الناتو الَتالية لن تتمركز هناك، وهي القضية المحددة للقانون التأسيسي لعام 1997 بشأن العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن بين حلف الناتو والاتحاد الروسي. تبين مرة أخرى أن هذا الوعد كذبةً. ثم، في عام 2014، ساعدت الولايات المتحدة في الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، الذي سعى إلى بناء تحالف اقتصادي مع روسيا بدلا من الاتحاد الأوروبي. بالطبع، بعد الاندماج في الاتحاد الأوروبي، كما رأينا في بقية أوروبا الوسطى والشرقية، فإن الخطوة التالية هي الاندماج في حلف شمال الأطلسي. روسيا، التي أفزعها التدخل الأمريكي في أوكرانيا عام 2014، انزعجت من مبادرات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ثم ضمت شبه جزيرة القرم، التي يسكنها إلى حد كبير المتحدثون الروس. هكذا بدأ الصراع الجاري حاليا في أوكرانيا الذي قادنا إلى دوامةُ الموتِ التي لا يمكننا إيقافها.
تحتاجُ دولةُ الحربِ إلى أعداءٍ للحفاظ على نفسها. عندما لا يمكن العثورُ على عدوٍّ، يتم تصنيع العدوَّ. للاستيلاء على أوكرانيا وبقية أوروبا الوسطى والشرقية أصبح بوتين، على حدِ تعبيرِ السيناتور أنجوس كينغ، هتلرُ الجديد. يتمُّ تبرير الصيحات الكاملة للحرب، التي ترددُ الصحافة صداها بلا خجلٍ، من خلال إفراغ الصراع من سياقه التَّاريخيِّ، بتصوير أنفسنا كمُنقِذين ودمغ كل من نُعَارِضُهُ، من صدام حسين إلى بوتين، بِوصفهِ زعيمَ نازيَّ جديدٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى