أمن وإستراتيجيةفي الواجهة

الحرب الأمريكية على أوروبا

حمدى عبد العزيز

في حقيقة الأمر هناك حرب موازية للحرب الأوكرانية الروسية وهي (حرب تكسير العظام على البارد) تلك التي تخوضها أمريكا ضد الكتلة الأوربية الحيوية التي تتمثل في فرنسا وألمانيا – تحت سطح الحرب الاوكرانية الروسية – لإنهاء وتصفية دورهما التاريخي كقاطرتين تجران أوربا نحو مساحة جيوسياسية تخفف عنها القيود الأطلسية الخانقة لأوربا التي ترى أنها تستحق دوراً أكبر في ريادة العالم واخضاع إرادتهما كاملة وضمان انصياعهما التام للسياسات الامريكية وتخليهما عن نزعات الإستقلال عنها أو حتى خلق مساحة ولو هامشية للتمتع بنوع من الحرية فى صياغة علاقاتهما الدولية وخاصة تلك التى تنزع إلى فكرة صياغة الأمن الذاتى الأوربى أو مايتعلق بتعميق العلاقات والمصالح الحيوية مع روسيا والصين .
امريكا تفعل ذلك عبر تأجيج نيران الحرب الأوكرانية وتوسيع مجالات اشتعالها لأطول وقت يمكنها إضعاف أوربا وروسيا معاً ، ذلك لأنها تدرك أن النظام العالمي الذى اسست له بعد الحرب العالمية الثانية وحققت فيه اقترابها من اتمام كامل هيمنتها على العالم في تسعينيات القرن الماضي يتعرض الآن للعديد من الشروخ وعوامل التصدع حتى أن دولاً إقليمية لم تكن لها في الماضي أي مساحة سوى الإنصياع للمهام الوظيفية التي تحددها السياسات والاستراتيجيات والأوامر التي تأتيها من وراء الأطلسي حيث مقتضيات مصالح الهيمنة الأمريكية .. هذه الدول قد اصبحت تعمل الآن على إيجاد مساحات تخفف من قيود التوظف الأمريكي كباكستان والسعودية والإمارات على سبيل المثال لا الحصر بالإضافة إلى إيران التي تمردت على إيران مابعد مصدق حتى الثمانينيات وتركيا عضو الناتو التي باتت تعلن تبرمها وعدم التزامها (نسبياً) بتنفيذ أوامر الناتو ..
من يندهش من مسألة حرب تكسير العظام التي يبدو القول بها من حيث المشاهدة السطحية المباشرة للأحداث هو قول مدفوع بشطحات التفكير الخيالي عليه أن يرجع لتاريخ الحرب العالمية الثانية ويتأمل (حرب تكسير العظام على البارد) ضد بريطانيا تلك التي دارت رحاها في ولاية هامبيتشير الأمريكية في السنة الأخيرة قبل انتهاء الحرب العالمية واسفرت عن إزاحة الجنيه الإسترليني من على عرش نظام التداول النقدي العالمي وتنصيب الدولار سيداً وعنواناً لمرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية بالإضافة إلى تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية كمؤسسات تضمن تسليم أمريكا قيادة النظام العالمي الجديد وهو ماعرف باتفاقيات (بيرتون وودز) ثم اعقبت ذلك بعدها بعقد كامل بالإنذار الشهير الذى طالب بريطانيا وباقي دول العدوان الثلاثي بالإنسحاب من السويس هذا القرار الذي لم يكن لأجل سواد عيون المصريين بل جاء بمثابة إطلاق رصاصة النهاية على الإمبراطورية البريطانية وتأكيد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم كوريث امبراطوري لكافة الامبراطوريات الأوربية القديمة وكحلقة جديدة تماماً تخلف حلقات الإستعمار الكلونيالي التقليدي ..
اعتقد أن هذه هي دوافع الولايات المتحدة الأمريكية من اشعال هذه الحرب على الأرض الأوكرانية البعيدة عنها بأميال ..
وجزء من المكاسب الأمريكية قد تحقق نسبياً في حدود وقتنا الحالي بينما لايمكن أن نسميها كمكاسب استراتيجية مرشحة لأن تكون نهائية أو حاسمة هذه المكاسب تتمثل بالإضافة للإرتفاع الهائل لمبيعات السلاح الأمريكي بمافي ذلك التخلص من راكض مخازن المجمع الصناعي العسكرى الأمريكي وتزايد أرباح هذا المجمع ، وكذلك الأرباح التي تتزايد في احتكارات الطاقة الأمريكية من جراء إتاحة استخراج الطاقة الأحفورية الأمريكية مرتفعة التكلفة وضخها لأوربا كبديل عن الغاز الروسي (ولهذا فجرت أمريكا انابيب غاز السيل الشمالي والدول الاوربية المضارة من هذا التفجير تعلم ذلك لكنها لن تفتح فمها قط)
لكن المكسب الأمريكي الأهم الذي يبدو أنه في طريقه للتحقق ولو نسبياً هو ذلك المكسب المتعلق بوضعية فرنسا وألمانيا كقوتين أوربيتين فقدا فرصهما في التأثير على القارة الأوربية ودخلا في مرحلة الخضوع شبه التام – ضمن سائر القوى الأوربية الأخري – لمركز القرار الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانتا قبل تصاعد العمليات الحربية على الأرض الأوكرانية تتحدثان عن الدعوة لتشكيل قوة دفاع ذاتية داخل الإتحاد الأوربي ، وتطرحا بعد الرؤى المستقلة عن المركز الأطلسي حول مستقبل أوربا وتتخذان مسارات مستقلة نسبياً عن واشنطن على صعيد العلاقات مع روسيا والصين وربط مصالح القارة العجوز بالإمتداد الأوراسي ..
إنها الحرب
تلك التي لاتتخذ مساراً واحداً أو خطوطاً طولية محددة لمسارها حتى وإن بدا الأمر عكس ذلك في سطحها المكشوف ..
هي إذن حرب تمضي عبر مسارات سطحية وأخري متداخلة تحت السطح في خطوط متقاطعة ومتعرجة أحياناً ومعقدة غالب الوقت .
وهي حرب لايوجد بها مكسب مطلق بل خسارات متفاوتة الحجم والتأثير لجميع الأطراف وإن كانت البوادر الأولي تكشف عن كون الطرف الأوربي هو الخاسر الأكبر أوبمعني أدق هو المرشح لمواجهة الخسارة الأفدح تأثيراً في هذه الحرب التي تتجه إلى الإنجراف نحو عمق الحرب العالمية الثالثة (هذا على اعتبار أن مانشهده الآن هو الحرب في عامها الأول) ..
أما عن الشرق الأوسط وبلادنا فكما هو واضح تأثرنا بالأحداث العالمية منذ أن دخل النظام العالمي مرحلة الإضطراب الكبير عقب أزمة 2008 وحتي تاريخه فإننا لن نكون بمنأى عن نتائج هذه الأحداث والتحولات العالمية الكبيرة ، وربما سيتوقف تأثر كل دولة بمدى هشاشة أوضاعها الإقليمية أو مدى تحقيقها لمكانة جيوسياسية تؤهلها للتعامل مع هذا العالم الذي سيبدأ بعد انتهاء مرحلة الإضطراب الكبير ، والأهم من ذلك هو مدى تحقيق كل دولة لاستحقاقتها الإقتصادية والإجتماعية ومدى تجاوزها لعوامل الضعف التي تنهض نتيجة التأزم المجتمعي والإنهيارات الإقتصادية وتعمق التناحرات الإجتماعية داخلها وتعمق حالة عدم الرضا عن جهاز الدولة بين مواطنيها نتيجة تفاقم الأزمات السلطوية كنتيجة مترتبة على هذه العوامل ..
باختصار الجميع في امتحان حقيقي ومن تدارك أوضاعه قبل فوات الآوان هو فقط المرشح للفوز بالبقاء دون خسائر عميقة .. أما في حال عدم تحمل مسئولية التدارك فالتاريخ لن يرحم ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى