سياحة و سفرمجتمعمنوعاتمنوعات

الحجّ على الطريقة اليابانية

منير المجيد

من مُضاعفات الجائحة، على المستوى الشخصي، منعي من إقامة الربيع التقليدية في اليابان، وأحياناً كنتُ أُضيف الخريفية إليها أيضاً.
كان مُخطّطاً لسنة ٢٠٢٠ رحلة شيّقة تتمثّل في «حجّ شيكوكو»، للبحث عن نسخة اخرى منّي، علاوة على إضافة لقب «الحاج» إلى إسمي. أي نعم.

يجب، قبل أن أسترسل، التنويه إلى بعدي الكامل عن المعنى الحرفي لكلمة الحج، بسبب قناعاتي الشخصية المُتعلّقة بمسائل الإيمان والتعبّد وما إلى ذلك. لكن حج شيكوكو، الذي سوف آتي إلى تفاصيله، يحمل معاني فلسفية وروحية عميقة، بحيث تُتيح لأي واحد منّا فرصة نادرة في تنقية الروح والتأمّل وإحياء ذكرى الناس الذين مرّوا بنا أو مررنا بهم ومحاولة فهم الحياة. وهو بعيد كل البعد عن مسارات الحج الأخرى، مثل زيارة بيت المقدس، أو حج الكعبة، أو إل كامينو دي سانتياغو في إسبانيا، التي تحمل بعداً دينياً، إلى جانب روحانياتها.

بدأت معرفتي بالناسك Kūkai أو المعروف بكوبو دايشي (٧٧٤ – ٨٣٥)، مؤسس البوذية الشينغونية اليابانية (المانترا)، والذي كان أيضاً مُهندساً وشاعراً وخطّاطاً، حين وقفت، لأول مرّة، أمام تمثال صغير له أُقيم في حديقة قرب مكان إقامتي في الضاحية الشرقية لمدينة ماتسوياما، الواقعة على رابع كبرى جزر الأرخبيل الياباني شيكوكو. أُلتقطتْ صورة لي، ومنذذاك صار تقليداً مُتبعاً.
في كل زيارة، أتمتّع برؤية خطوط الماء الزئبقية المُسالة من نبع الماء قرب مدخل الجسر الصغير، وأقترب منه قدر الإمكان، ثم أقف متسمّراً لأجل صورةٍ.
صاحبنا كوكاي صقّلته روحياً رحلة إلى الصين، لينتهي به المطاف إلى حياة النسك والتّأمل، فصار يجوب أرجاء الجزيرة واعظاً وزائراً لمعابدها، ومرتاحاً في العراء إذا تعب، بين عقارب الجزيرة وثعابينها وقرودها وخنازيرها البريّة.
الحج على خطاه، كما نعرفه اليوم، لم يشع بين العّامة وتدوينه في الكُتيّبات الإرشادية قبل عصر إيدو (١٦٠٣١٨٦٨). ولم يُصبح مزاراً روحياً نشده الناس من كل أنحاء العالم إلّا في السنوات الثلاثين الماضية.
هناك شارات على أطراف الطرق وعلى الأسفلت ومعلومات خطيّة في المسارات، تكون بمثابة سبل إرشادية ومعلوماتية، إلى جانب كمّ من الكتيبات.
تتلخّص الفكرة في رحلة حج شيكوكو، بتتبّع لافتات Henro (الحجيج)، والمشي لمسافة ١٢٠٠ كم، والمرور بـ ٨٨ معبد (زرتُ، سائحاً وفضولياً، عدداً منها خلال السنوات الماضية)، يُمارسها عادةً الذين يحتاجون دفقاً جديداً في حياتهم، ومن حالفه الحظّ بوفرة الوقت والصحة الجيدة، تكتمل في حوالي ستة أسابيع. ومع ذلك، يستغرق معظم الناس سنوات لإكمالها، بالعودة على نوبات حين تُتاح الفرصة.
«ليس هناك طريقة صحيحة أو خاطئة»، هي الشعار الذي يتكرر غالباً في الكتيبات الإرشادية المُوجّهة للحجيج. لهذا يقوم البعض بقيادة سياراتهم بين الحين والآخر، أو إستعمال المواصلات العامة، أو حتى الدراجات. بعض هذه المعابد بُنيت على مرتفعات شاهقة لن يصلها المرء إلّا سيراً مُتسلّقاً مُجهداً.
هي أيضًا وسيلة لتكريم الموتى. فكثير من الحجاج يحملون صوراً فوتوغرافية أو ورماداً وبقايا عظام وأشياء تُذكّر بأفراد عائلاتهم الذين غيّبهم الموت، أو آخرين يتمنون شفاء قريب أو حبيب من مرض عضال.
رأيت المئات من هؤلاء، الذين تُميّزهم الثياب البيضاء (hakui). عُرف سابقاً أن جثث الأموات كانت تُلبّس بالأبيض، ولا أتحدّث هنا عن الكفن بل عن سترة، وحينما يرتديها الحاج فهو يدلّ على أنّه كان مُستعداً للموت على هذا الدرب الشائك. هكذا كان الأمر في الأزمنة الفائتة، لكن حالياً يُرتدى لأنّه يُمثّل النقاء. أمّا القبعات المخروطية الُمبالغ بحجمها فهي للوقاية من الشمس والمطر، وعكّازة بجرس يُعلن عن قدوم حاجٍ على الطريق. لهذا يبادر الناس إلى إلقاء التحية والترحيب بالحجاج، ويُعاملونهم بطيبة ويسعى الكثير منهم إلى إستضافتهم أو تزويدهم بالشراب والطعام.
اعتدت، كما الآخرين، على إلقاء التحية دوماً. أوقف دراجتي الهوائية وألتقط فاكهة ما وأقدّمها هديةً، إذا كنتُ في طريقي إلى البيت بعد التسوّق، وخاصة الشابات البديعات، اللواتي يشبهن موظفات الإستقبال في الفنادق الفاخرة.

لا ضرورة للإنطلاق من معبد مُعيّن، لكن معبد Ryozenji الواقع في محافظة توكوشيما شرق الجزيرة بات الأول من مجموع المعابد.
في بهو المعبد يبدأ الحجيج بإشعال ثلاث عيدان من البخور: للماضي، واخرى للحاضر، والأخيرة للمستقبل. تتدلى الفوانيس النحاسية السداسية بالقرب من السقف، مما يخلق تأثيراً يوحي بالشمس ويعكس ضوءاً دافئاً في القلوب ولغة فضاء تتجاوز الحدود والقارات، لغة عالمية بمعنى عميق.
في تلك اللحظة، وحتى الإفراغ من المشوار الطويل، سيكون إسمك «او هينرو سان». او دلالة احترام إستثنائية، بينما سان (تُعادل السيّد) تُلحق بالإسم أو الكنية. بهذه العبارة سيقابلك الناس ويُقدّمون o-Settai، وتعني تقديم هدية للحجاج، تكون بمثابة مُشاركة منك لاكتساب أجرٍ في رحلتهم الماراثونية.

قبل خمس سنوات تابعت برنامجاً وثائقياً في التلفزيون الدانماركي، القناة الأولى، عن رحلة حجّ مُعدّ البرامج ميكيل بيرتيلسن في زيارة معابد الناسك كوبو دايشي. رفض تغيير ثيابه واحتفظ بقميصه الأبيض وربطة عنقه منذ اللحظة الأولى، وامتعض من عكازته ذات الجرس، مُظهراً، بنعومة، الفوقية وبضع غرامات من عنصرية العرق الأبيض، حينما سقط في فخّ الكليشيهات الغبية الساذجة عن اليابان. لكن بيرتلسن خفّ حنقه وتلاشى في الحلقة الأخيرة، رغم إحتفاظه بقميصه وربطة عنقه، واعترف أمام كاهن بوذي شاب أنّه يتحوّل إلى إنسان مُغاير.

صديقي شينغو كيهارا وأنا، تعاهدنا، في ربيع العام الذي سبق الجائحة، على قطع درب «شيكوكو هينرو» ربيع عام ٢٠٢٠، حيث درجات الحرارة تماماً كما الربيع في سوريا. ليس سيراً على الأقدام، بل قيادة سيارته أيام عطلة نهاية الأسبوع.
بعد يومين، حينما التقينا من جديد، أخبرني، وسط دهشتي، أنّه اشترى لكلينا الأزياء اللازمة. وكنّا نلتقي عادة في مطاعم الياكيتوري (الدجاج المشوي)، لممارسة شغفنا في شرب البيرة المُبرّدة بعناية، وبلع أطباق لا تُحصى من مائة طريقة وطريقة في إعداد الدجاج. كنتُ أسميها لحظات سوداء في تاريخ حياة الدجاج المحلي.

إن أُتيحت لي الفرصة في زيارة اليابان في المستقبل، فسوف أسعى إلى تنفيذ معاهدتي مع شينغو.

أخيراً، اخترت لكم ثلاث قصائد هايكو للشاعر Shūji Niwano من ديوانه الذي خصّصه لشيكوكو ٨٨:
مستديرة الوجه،
الحاجّة العجوز
تضحك بشكل جيد

أقابل مجدداً
العجوز ذات الوجه المُستدير-
تقطع درب الحجيج

حاجٌّ، أيضاً
بعيون زرقاء-
معبد سيريو-جي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى