رأي

الجرائم ضد الانسانية تحليل نفسي

قاسم حسين صالح

*

في محاكمته بعد انهيار الحكم النازي في ألمانيا بشأن المذابح الجماعية التي شارك فيها، أنكر ( ايخمان ) قتل أي إنسان،ولكنه أكد بفخر شديد أنه نقل ملايين البشر الى حتفهم بحماسة ودقة كبيرين. ويشير عالم النفس الاجتماعي ( هيرش ) إلى ملاحظة ذكية فحواها أن جرائم الإبادة الجماعية( Genocide)،وهو مصطلح ظهر عام 1944،والعديد من الجرائم التي ارتكبت بحق الإنسانية، إنما ارتكبت باسم الطاعة.
إن تاريخ السلطات في كل المجتمعات يشير إلى أن الأفراد الذين يستلمون التعليمات ممن يحتلون مواقع السلطة ينصاعون لتنفيذ تلك التعليمات. وأنه نجم عن هذه الطاعة العمياء مشكلات خطيرة في التاريخ الإنساني، أحدثها في العراق،وقبلها في: أرمينيا، وأوكرانيا، ورواندا، وكمبوديا، والبوسنة،..وقبلها ألمانيا وفضائع الحرب العالمية الثانية. ففيها يذكر( ملغرام )، أشهر باحث في ميدان الطاعة، (( تعرض ملايين الناس للقتل انصياعا للأوامر، وتم إعدام أفواج متتالية من البشر. وإذا كان صحيحا أن هذه السياسات الوحشية تفتقت عن ذهن شخص واحد بعينه، إلا أنه لم يكن بالمستطاع تنفيذها على هذا النطاق الواسع لولا خضوع عدد كبير من الأشخاص للأوامر)).
والسؤال: ما العمليات النفسية والاجتماعية التي تجعل الفرد يطيع السلطة ويقوم
بارتكاب هذه الجرائم بضمنها الإبادة الجماعية؟
الباحثون يضعون (( منح الصلاحية )) للفرد ليتصرف باسم السلطة، في المقدمة. ففيها يشعر أن ما يرتكبه من أفعال يتم بتوجيه من السلطة المخولة وليس بدافع منه..أي أنه يشعر بحالة (( الإنابة )) التي تعني أنه يطيع الأوامر من سلطة أنابته لتنفيذها. وهذا ما سمعناه من مرتكبي الجرائم في نظامي صدام حسين وحسني مبارك، فكل واحد منهم برر ما قام به من جرائم بقوله: (( إنني كنت أنفذ الأوامر فحسب))،أي أنه غير مسؤول عن نتائج إطاعته الأوامر.ويبدو أن توزع المسؤولية بين عدد كبير من الناس هو العامل الحاسم في الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية.
والعملية الثانية التي تسهل للفرد ارتكاب الجرائم الجماعية باسم السلطة هي ((الروتينية )) التي تعني عنده أن القتل مهمة مطلوبة يتوجب عليه القيام بها. فيما تتمثل العملية الثالثة بتجريد الإنسان من إنسانيته بأن ينظر مرتكب الجريمة إلى ضحاياه نظرة تجردهم من قيمتهم بوصفهم بشرا، ليفلت من الضوابط الأخلاقية التي تمنع القتل.
والتساؤل: ما الذي يمنع أن تتكرر جرائم القتل من قبل السلطة في الدول العربية التي اطيح بانظمتها الدكتاتورية؟
لنأخذ العراق مثالا..فالواقع افاد بأنه جرت عمليات تصفيات فردية بطرائق مختلفة وقتل في أقبية الأمن والمخابرات. ذلك أن العاملين في السلطة الجديدة(2003) ومن سيأتي بعدها، ورثوا آلية سيكولوجية هي الطاعة العمياء لتنفيذ أوامر السلطة.بل أنك تجدها حتى في أحزابنا السياسية داخل السلطة وخارجها، فجميعها تعتمد مبدأ ( نفّذ ثم ناقش). وجميعنا لم نتعلم بعد متى نتمرد على السلطة ونعصي تنفيذ أوامرها،ولم يتثقف الناس بعد بمخاطر الطاعة العمياء.ومع ان لدينا في العراق وزارة بأسم ” وزارة حقوق الانسان” فان الوفد الذي يمثلها ،طرد من قاعة المؤتمر الخاص بحقوق الانسان بجنيف في 22-23/9/2012 لاتهام العراق بارتكابه جرائم ضد حقوق الانسان،كانت الطاعة العمياء أحد أهم أسبابها.
وثمة نافلة لها دلالة،أن المؤرخين للحرب العالمية الثانية طرحوا فرضية مفادها أن الألمان يختلفون عن بقية الشعوب بكونهم يعانون من خلل أخلاقي يجعلهم مستعدين لطاعة السلطة دون تساؤل،وأن هذا الخلل هو الذي أتاح لهتلر الفرصة لشن حربه المجنونة على العالم..ولقد أثبتت الدراسات العلمية الخاصة بطبيعة الشخصية البشرية أن هذه الفرضية خاطئة تماما.
وعن الطبري،أن الوليد بن عبد الملك، حين قرر بناء الجامع الأموي في دمشق،أمر أن يأتيه كل رجل بلبنة واحدة، ففعلوا إلا رجلا كان يأتيه بلبنتين،فسأله: من أين أنت؟ قال: من العراق. فقال الوليد: تفرطون في كل شيء حتى الطاعة. !
وقد تكون هذه الفرضية خاطئة أيضا. إلا أنه من المؤكد أن الإنسان العادي، أيا كان ومن أي شعب كان، يمكن أن يرتكب أبشع الجرائم،إذا كان منفّذا لأوامر السلطة بطاعة عمياء، والمصيبة أن بين العرب من هذا الصنف..ما يكفي!، وبين العراقيين من يقتل لسبب سفيه وسخيف ما اذا كان أسم الآخر حيدر او عمر او رزكار!
*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى