في الواجهة

الثّقافة و البيئة و التّغيّر المناخي 

حقّقت المجهودات التّنمويّة في العالم خطوات ملموسة على صعيد الحطّ من الفقر و تحسين مستويات العيش و زيادة الفرص . لكنّ الثّمار الاقتصاديّة و الاجتماعيّة لهذه الإنجازات كانت تكلفتها باهظة على البيئة.

تتنزّل حياة الإنسان في سياق بيئي وثقافي في الآن ذاته، فالبيئة و الثّقافة مترابطتان بصفة وثيقة. وهو ما يستوجب استنباط و تطبيق حلول مستوحاة من الواقع المحلّي و ملائمة ثقافيّا من أجل مجابهة المشاكل المتعلّقة بالمحافظة على البيئة و التّغيّر المناخي . ممّا يتطلّب استثمارات إستراتيجية و عقلانيّة في التّحليل و البحث الثّقافي و السّياسات الثّقافيّة لتحقيق هذه الغاية. 

إنّ المحافظة على التّنوّع الثّقافي و البيولوجي و على الصّلات الجوهريّة بينهما ينعكس إيجابيّا على الانتفاع المستدام بالثّروات و المرافق البيئيّة .فالثّقافات متجذّرة في سياق إيكولوجي معيّن . في المقابل تسجّل البيئة الطّبيعيّة حضورها بمختلف جوانبها في التّراث الثّقافي اللامادّي . و هو ما يستوجب مراعاة المبادرات التّنمويّة لهذه السّياقات الإيكولوجيّة الثّقافيّة ، دعما للتّبنّي المحلّي و القدرات المحلّيّة الّتي تساهم بصفة هامّة في الحدّ من الأنشطة المضرّة بالبيئة .

تلعب المجتمعات المحلّيّة و جماعات السّكّان الأصليّين دورا رئيسيّا في المحافظة على التّنوّع البيولوجي و استغلاله على نحو مستدام بفضل ما تملكه من معارف و مهارات و أدوات التّقليديّة. فالمعارف المحلّيّة تكتسي أهمّيّة بالغة على مستوى التّكيّف مع بيئة معيّنة و مع التّحدّيات الّتي تفرضها . وهو الحال بالنّسبة للمزارعين و الصّيّادين و المعالجين التّقليديّين ، الّذين يعتبرون حرّاس التنوّع البيولوجي . حيث تشمل معارفهم الخبرة بالخصائص الطّبيعيّة و المنتوجات الحيوانيّة ، كما تعبّر عن رؤية للعالم تعكس مكانة الإنسان في البيئة . أمّا لغات السّكّان الأصليّين و التّعبيرات الثّقافيّة ، كالأغاني و الحكايات ، فهي تزخر بمعلومات قيّمة عن الوسط البيئي الّذي نشأت فيه .

تضمن الممارسات التّقليديّة في مجال إدارة و استغلال الموارد الطّبيعيّة التزوّد المستدام بالماء النّظيف . و قد ابتكرتها المجتمعات عبر العصور بالاستئناس بالمعتقدات و التّقاليد . في بعض المناطق من العالم لا يعتبر الماء بضاعة ، بل موردا جماعيّا تتحمّل الجماعة بأسرها مسؤوليّة إدارة التّزوّد به .

في مناطق أخرى لا تزال الأنظمة التّقليديّة قائمة ، لأنّها تخفّف من تبعيّة المجتمعات إزاء المزوّدين الخارجيّين للماء و تبقى متاحة للعائلات الفقيرة . يكتسي الاعتراف بتنوّع قيم و أنظمة إدارة الموارد المائيّة و تثمينها و مواصلة نقلها أهمّيّة بالغة. حيث يساهم في صياغة حلول مستدامة للتّحدّيات الرّاهنة المتعلّقة بهذا الشّأن .

يعتبر التّغيّر المناخي من أهمّ التّحدّيات الّتي تواجهها التّنمية المستدامة في العالم . فهو يعمّق و يضاعف انعكاسات الكوارث الطّبيعيّة و المخاطر المرتبطة بالمناخ . هنا تبرز قيمة المعارف و المهارات التّقليديّة في تعزيز قدرة المجتمعات على التّكيّف و التّصدّي لهذه الكوارث و للتّغيّر المناخي ، ولاسيّما تلك المهدّدة أكثر من غيرها نظرا للظّروف البيئيّة     و الصّعبة و الخطيرة الّتي تعيش فيها . تساهم المعارف التّقليديّة في الكشف المبكّر عن العلامات المؤشّرة على الكوارث الطّبيعيّة مثل الجفاف و الزّلازل ، ممّا يستوجب تثمينها . و هي تتكامل في ذلك مع المعارف العلميّة .

تعدّ تقنيات و أدوات البناء التّقليديّة ذات أهمّيّة و نجاعة في التّكيّف مع التّغيّر المناخي و المحافظة على البيئة . من الأمثلة على ذلك العمارة في باطن الأرض ، الّتي تعتمد على الموارد المحلّيّة المتاحة و المتلائمة مع الظّروف المناخيّة المحلّيّة و الأقلّ تلويثا و تكلفة . لكنّ هذا النّمط من العمارة مهدّد بصفة متزايدة بسبب العوامل البشريّة ، كالتّوسّع الحضري و تقنيات البناء الحديثة ، أو الطّبيعيّة ، كالفيضانات و الزّلازل .

من أبرز التّحدّيات الّتي يواجهها العالم تحقيق الأمن الغذائي . رغم أنّ نسبة الجوع في العالم تقلّصت خلال العقدين الأخيرين لا يزال هناك شخص واحد من 9 أشخاص يعاني يوميّا الجوع. تضطلع الثّقافة بدور هامّ في مجابهة هذا الإشكال . بفضل المعارف التّقليديّة الواسعة الّتي تمتلكها ، ابتكرت المجتمعات و طوّرت عبر العصور أنظمة زراعيّة مستدامة معزّزة لخصوبة التّربة و ضامنة للأمن الغذائي و للبقاء في صحّة جيّدة .

تتميّز أنظمة و معارف الزّراعة الصّغيرة بالقدرة على التّكيّف مع الخصوصيّات البيئيّة و المجتمعيّة المحلّيّة . يمكنها أن تحوّل الزّراعة إلى نظام ذي إنتاجيّة عالية قائم أساسا على الموارد المحلّيّة . فالمزارعون الصّغار قادرون على الإنتاج في الظّروف الطّبيعيّة الأشدّ صعوبة ، بفضل ما يتمتّعون به من معارف و مهارات تقليديّة .

إنّ تعزيز الإنتاج الغذائي المستند إلى المعارف التّقليديّة يعدّ مصدرا لفوائد اقتصادية هامّة . فهو إنتاج يتميّز بتنوّعه و جودته العالية و قابليّته للتّرويج بكمّيّات كبيرة .يخضع ما نستهلكه و كيفيّة استهلاكه إلى توجيهات ثقافيّة واعية و لا واعية في الآن ذاته . فأنماط الإنتاج و الاستهلاك و التّخلّص من النّفايات مرتبطة بصفة وثيقة بالثّقافات السّائدة  في المجتمعات المتجذّرة فيها . هنا تبرز أهمّيّة الممارسات الاجتماعية الّتي تثمّن الاعتزاز بالهويّة و التّطوّر الذّاتي و تكرّس أنماط استهلاك مستدامة ، محافظة على البيئة و متلائمة مع الأوضاع المحلّيّة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى