ثقافة

البناء للفقراء

عمارة الفقراء صالح أبو طويلة

لطالما راودني هذا السؤال: مع كل موجة تحديث وتطور في الواقع الحضري للمدن والمناطق التي نسكنها؛ تزداد لدينا حالة الاغتراب، وتغدو الأمكنة غريبة عنا وليست من ثوبنا، لا نشعر بالانتماء الى هذه المدن المكتظة، ولا الى شوارعها وأحيائها مهما بدت حديثة ومنظمة، ولعل السؤال الأهم يتحدد بالقطيعة المعمارية الحاصلة بين النموذج العربي الاسلامي الشرقي وبين النموذج الغربي، فمع بدايات التحديث التي جرت في المنطقة العربية والتي طالت الابنية الاجتماعية والاقتصادية، اعقبها تحولات في الأنماط المعمارية التي تبنت النموذج الغربي الذي لا يتلاءم مع البيئة المحلية، ويحدث من جهة اخرى اننا عشنا بدايات حياتنا في بيوت طينية واحياء قديمة يزيد عمرها عن مائة عام، تميزت هذه الاحياء بأزقتها الملتوية، وانحناءات شوارعها وميادينها، وتمايز بيوتها، وحميمية اجوائها، وايقوناتها الجميلة التي تعبر عن حوادث معينة وقصص واساطير لا تنتهي، فلم تكن تلك البيوت نسخا متشابهة كما يحصل اليوم، وفي موجة التحديث لم يحصل ان تبنت الدول مشاريع اسكانية ذات نمط معماري يربط بين الاصالة والحداثة، فقد كان الانبهار بالنموذج الغربي فقط، خصوصا لدى الفئات الميسورة والثرية، الى جانب النماذج المعمارية الحكومية الحديثة، والتصقت بالمدن العشوائيات التي زادت من حدة التشوه، ولم يعد بإمكان ذوي الدخل المحدود امتلاك السكن الملائم.
ولا زال النموذج السائد حاليا هو الشارع المستقيم والبناية المربعة المغلقة من الداخل، والتجمعات السكانية المربعة والمستطيلة، وتكاد المنحنيات تغيب، كما تغيب الانماط المعمارية الشرقية، وبذلك فإننا نقف أمام كتل اسمنتية صامتة خالية من الروح والعمق الانساني، تهدف الى الايواء والاستعمال دون مراعاة للحاجات الجمالية، وهذه النماذج الجامدة استخدمت في البلدان الاشتراكية بتوسع؛ حيث تتشابه نسخ المنازل والشقق، بمعنى ان المهندس يخطط لمنزل ثم يسحب هذا المخطط ل1000 منزل او اكثر؛ تكون جميعها متشابهة؛ ولا تعبر عن الفردية والرغبات الانسانية الكامنة في علاقة الانسان بالمكان وتشكيله بما تملي عليه مصالحه او تصوراته نحو البيئة والمعيش اليومي.
ومن خلال سؤال الاصالة والمعاصرة في المجالات العمرانية والحضرية، تولد لدى الفيلسوف العماري المصري حسن فتحي (1900 -1989) نزوعا واضحا نحو ربط العمار بالجوانب البيئية والانسانية والروحية، وبما أن الريف المصري في فترة الثلاثينيات والاربعينيات كان يعيش حالة من التخلف والتراجع في جميع الجوانب، فقد كانت اشكالية السكن الصحي تتردد في مخيلة حسن فتحي، وكان حلمه كمعماري يتثمل في توفير اسكان جماهيري للفلاحين يتلاءم شكلا ومضمونا مع الواقع الاجتماعي والثقافي والروحي لمجتمعات الارياف وبأقل التكاليف، بحيث تكون مواده الاولية مستخرجة من البيئة المحيطة وهي (الطوب الطيني)، واتسعت الرؤية فيما بعد لتغدو نظرية معمارية متكاملة تصلح للتطبيق العملي في تلك البيئات، وقد حلم حسن فتحي بإنشاء قرية نموذجية تعبر عن ذلك التصور فكانت قرية (القرنة) التي خطط لها وأنشأها بمعونة البنائين المحليين تجسيدا لهذا الحلم.
بعد رحلة مضنية تعرف فتحي الى احدى قرى اسوان، والتي شكلت بالنسبة له انموذجا فريدا من البناء الذي يعكس طبيعة البناء الاجتماعي للمجتمع الريفي والعلاقات السائدة، وحاول فتحي في البدايات ان يجد حلا لمشكلة التسقيف والذي يستهلك موادا انشائية مكلفة في العادة ويكون ثقيلا، ويتسبب بمخاطر عديدة على ارواح ساكني المنزل، وذلك من خلال تبني نموذج القبة السقفية، وقد عثر بعد رحلة بحث مضنية على بعض البنائين النوبيين الذي كانوا يتقنون بناء المنازل الطينية التي تكون سقوفها من القباب الطينية، ليتم الاستغناء عن السقف التقليدي، وقد رافقه البناؤون طيلة مشواره ولسنوات طويلة الى ان تحقق حلمه بإنشاء القرية التي كان يحلم بها.
تمثلت رؤية فتحي بالربط بين المعمار الشعبي والمعمار الهندسي، فتقنيًا نحتاج الى الاساليب الهندسية الحديثة، وماديا من الممكن توفير المواد الاولية من البيئة المحيطة، لكن هذه الرؤية واجهت معوقات عديدة من قبل البيروقراطيين والمقاولين الذي رأوا في نظرياته كل الخطر على مكاسبهم العائدة من النظام البناء التقليدي، وهم الذين يهملون البعد الجمالي الذي يحتاجه الانسان كما يحتاج الحرية، وكان فتحي يرى بأن القرى القديمة ورغم العشوائية السائدة فيها؛ الا انها تعبر عن النظام الاجتماعي السائد؛ فالعداوة والقرابة يتم التعبير عنها انشائيا وجغرافيا، ولكل عائلة نمطها الخاص من البناء، فلا تبدو المنازل ذات نسخة واحدة كما يظهر في التصاميم الحديثة، خصوصا تلك التي يتم اعدادها لانشاء المجمعات السكنية لذوي الدخل المحدود، فعناصر البناء اقتصادية اجتماعية جمالية، ومن المهم أن يكون البناء معبرا عن ثقافة وسلوك الانسان، وجزءا من روحه وتصوراته عن المحيط، ليتحقق الانتماء الحقيقي للمكان، والسكان حين ينقصهم الانتماء للمكان ولا تحكمهم روابط الجيرة؛ يتبعون انماطا سلوكية سلبية مثل التلوث والجريمة والغضب واللامبالاة، والاطفال الذي حرموا من البيئة الشائقة بصريا في سنواتهم المبكرة لا تنمو عقولهم، فالتنمية لا تتم الا في عقول البشر وقلوبهم. ويذكر حسن فتحي أهمية توفير سكن ملائم وشائق بصريا للأطفال ومثله نموذج المدرسة، وقد صمم حسن فتحي العديد من النماذج المدرسية التي تراعي ظروف حركة وتدفق الاطفال وانشغالاتهم واهتماماتهم.
ولذلك فإنه لو دفع بالعائلات الى صفوف من بيوت متماثلة؛ فإن شيئا في هذه العائلات سيموت، خاصة اذا كانت عائلات فقيرة، سوف يصبح الناس متبلدين بلا روح مثل بيوتهم ويذوي منهم الخيال، ويرى فتحي ان المنازل المتشابهة تقتل الروح الفردية لدى الانسان، وهذه سمة موجودة في الانشاءات الراسمالية والاشتراكية، وحيث أن النمط الاسكاني الموحد مريح للحكومات التي تنشيء هكذا مشاريع ، وهي تنظر الى الناس على انهم اشياء متماثلة جامدة غير محتجة، والانسان له عقله الذي يخصه، وهو يقوم بصنع ما يقوله له عقله، وهو مصدر للفعل والمبادرة، ويقول فتحي (وليس عليك ان تبني لطيور الجو أعشاشها، ولو اعطيت الانسان نصف فرصه فإنه سيحل الجزء الذي يخصه من مشكلة الاسكان، وستقوم كل اسرة ببناء بيتها الخاص وفق متطلباتها الخاصة بها، وان يكون تعبيرا عن هويتها الخاصة بها).
يشير فتحي إلى أهمية بروز السمة الفردية في البناء، أي اللمسات الفردية للإنسان في المسكن الذي يخصه، حيث ان الفردية ليست صفة مجردة غامضة، ولكنها محصلة تفاصيل كثيرة ملموسة؛ متى ينهض الانسان من نومه، وما اذا كان يحلق ذقنه، والملابس التي يفضلها، وعاداته في الحديث، والناس الذين يخضع لهم واولئك الذين يتحكم فيهم، وقد حرص فتحي اثناء انشاء مشروع القرنة على دراسة العائلات والاسر التي سيتم نقلها الى المسكن الجديد من حيث؛ عدد افرادها وسلوكياتها وعلاقاتها بالآخرين وتجمعاتها واساليب عيشها ومصادر رزقها وغير ذلك، فيقول (ان وسيلة القرويين لكسب عيشهم هي مما يجب ان يؤثر في تصميم بيوتهم، وما يتم توفيره لهم من المباني العامة)، وقد انفق في سبيل ذلك وقتا طويلا، كما حرص على اشراك المجتمعات المحلية في عملية البناء والتأسيس والمشاورة، وتمكن من تدريب الاطفال والشبان على المهارات الحرفية اللازمة للبناء وما بعد البناء، باعتبار ان الانتقال الى اسكانات جديدة بالنسبة للفقراء سيولد لديهم تحديات كبيرة في اسلوب العيش والعمل، فكانت ورشات حسن فتحي ليست مجرد مشاريع مقاولاتية فيها الآمر والمأمور والمخطط الجاهز للتنفيذ، بقدر ما كانت سياقا حيويا للمعرفة والسلوك والانتاج والرؤية المستقبلية.
والفردية بالنسبة لفتحي هي التي تخلق حاجات الناس واذواقهم في السكن، وهي التي ترسم لوحات جميلة للمنازل المتقاربة بتراتبية اشبه بالموسيقى، ولذا فإننا ومنذ الوهلة الاولى نلحظ بأن فتحي اعتمد على النموذج العربي القديم حيث البيت المفتوح على الداخل والشارع المنحني والقباب والمشربيات مراعيا البيئة المناخية الحارة، والجماليات البصرية، ويشير فتحي ان اهم شرط في البناء ان يعبر في كل جزء منه عن روح الانسان وتاريخة وتراثه، ويعبر عنه قائلا : (منزل ابي الذي فيه كل خطوة معنى). ويشير فتحي الى تلك التقنيات المعمارية التي انقرضت في العصر الحديث والتي كانت تعبر عن حاجات بيئية وتلاءم المناخ السائد، فالبيت العربي مفتوح على الصحن الداخلي (الحوش)، الحوش منظم للحرارة ، الهواء الذي يمر فوق المنزل في النهار لا يدخل الى المنزل نهارا بل ليلا ؛ حينما يبرد يثقل ويدخل الى المنزل ويعمل على تبريده، يبرد المنزل من الداخل فيما يصعد الهواء الساخن، ويقارن بين الشارع الطويل المتوازي وبين المنحي ” الشارع الطويل المستقيم مزعج ومضر، و لا توجد فيه شائقة بصرية تلفت عين الانسان، اما الشارع المقسم والمتعرج على مسافات مجزأة اقصاها 200 متر تجد على اطرافه مواقع شائقة بصريا، ونقاط محددة تلتقطها العين وتحددها ويستريح الماشي نفسيا اثناء السير، والشارع الملتوي المقسم الى اجزاء يشبه المقطوعات الموسيقية، والانسان الماشي لا يتعب في المشي في الشارع المنحني المقسم، والشارع المقسم يجب ان يعطينا صورا متتابعة تماما كنغم موسيقي، وحيث ان الشارع القديم لم يكن مفتوحا على طول، بل مقفولا ويشبه الصحن، تكون فيه ميزة تنظيم الحرارة حيث يخزن الهواء البارد، ولو كان الشارع مستقيما سيعطينا سخونة اكثر.
كان فتحي يرى بأن العمارة المصرية انتهت منذ انتهاء عصر المماليك ومع بداية عهد محمد علي باشا، وقد تحسر كثيرا على انقراض الحرف والصنايع النادر كصناعة المشربيات والزجاج المعشق والبناء بالطين، وذلك بسبب الاقبال على النموذج الاوروبي والعزوف عن النموذج المصري الشرقي، والحداثة بالنسبة له لا تعني بالضرورة الحيوية، والتغير لا يكون دائما للافضل، كما ان التجديد يجب ان يكون مما قد تم التبصر فيه كاملا كاستجابة لتغير في الظروف، وليس امرا يطلب في حد ذاته، والفنان سيتحرر بالتراث من قرارات كثيرة، ولكنه سيكون مضطرا لاتخاذ قرارات اخرى بنفس القدر من الالحاح؛ ليمنع موت التراث بين يديه، وان الخروج عن التراث عمدا في مجتمع هو اساسا مجتمع تقليدي، كما في مجتمع الفلاحين، لهو نوع من الجريمة الحضارية، والمهندس المعماري يجب ان يحترم التراث الذي يقتحمه.
ويشدد فتحي على أهمية دراسة أساليب العيش لدى الفلاحين وفئات الفقراء عموما، والتي من خلالها يمكن الوصول الى النموذج الملائم للسكن، يقول” (يجب علينا اعادة اكتشاف أسلوب الشعب، أو إعادة الاحساس به من خلال الدلائل المتناثرة في الحرف المحلية والمزاج المحلي)، كما يركز على شمولية عملية التنمية بما فيها المساكن الملائمة، فمستوى المعيشة في القرية انما يرتفع ارتفاعا عظيما بتوفير بيوت بسيطة ولكنها وافية مؤثثة بما يكفي، ومزودة بالتركيبات الصحية، ومزينة بالمنتجات المحلية الممتازة، كما يرتفع بالتعليم وبالنقود التي تكتسب من الحرفة، وبزيادة الاتصال بالمسافرين والسياح والمدرسين من الخارج.
لم يكن حسن فتحي مهندسا معماريا تقليديا، بل حامل رسالة انسانية تتضمن توفير البناء الملائم للإنسان الفقير، ويصف هذا البناء بأنه يأتي ثانيا بعد الملابس في أهميته، وهو كالجلد للإنسان يحميه ويضفي عليه هويته الخاصة، ويحقق له الفردية والخصوصية والحماية والإيواء، وهو مناط النمو السليم وموطن الابداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى