في الواجهة

الاضرابات العمالية في أوربا، إلى أين؟

الاضرابات العمالية في أوربا، إلى أين؟ احمد عبد الستار

الأزمة الأوكرانية، التي استحالت حالياً إلى معضلة إلى حدٍ ما، بسبب تداعياتها في الساحة الدولية وكذلك بين الطرفين المتصارعين روسيا وأوكرانيا. إنها عملياً بؤرة لتصفية حسابات بين ندين قويين، أمريكا والغرب المتمثل بحفل الناتو داعماً لأوكرانيا، من جهة، وروسيا صاحبة الترسانة النووية الجهنمية والصين وحلفائهما من جهة مقابلة، كل طرف يهدف من خلال هذه الأزمة المتسعة النيل من غريمه، وإنهاكه ودفعه بالنهاية للرضوخ. ولسنا بصدد الخوض في صلب هذه الأزمة وما خلفته من آثار متفاعلة، تتشابك خيوطها ويتسع مداها، لكنّنا نود الإشارة إلى شأن آخر.
الأزمة هذه لم تتخذ الوسائل المسلحة أسلوباً للحرب فحسب، بل اتخذت بنفس الشراسة حرباً اقتصادية ودبلوماسية وإعلامية، ومن أولى عواقب الحرب الاقتصادية أو ما يُعرف بحرب الطاقة بين روسيا والغرب، موجة التضخم بأسعار السلع الأساسية، مثل الغذاء والطاقة والصحة والنقل…الخ، التي أصبحت باهظة، وزادت من تكاليف المعيشة على العمال وعلى كاهل سائر الجماهير الكادحة، ومن جهة أخرى حصلت إغلاقات واسعة في المصانع والمؤسسات الخدمية بسبب نقص الوقود، بوجه عشرات الملايين من العمال وأدى إلى تسريحهم من العمل، أو تقليص أجورهم بحجة صعوبة سدادها.
نقص “الطعام على الطاولة” كما يقول العمال في أوروبا ونقص التدفئة في المنازل مع استهلال فصل الشتاء الأوروبي القارس وغيرها من متطلبات الحياة الأولية، لارتفاع تكاليف فواتيرها عليهم، دفعهم إلى المطالبة بحقوقهم هذه؛ والاحتجاج على الفشل الحكومي، في معالجة الأزمات التي تضرب بهم، والخروج في تظاهرات واسعة في جميع ارجاء بلدان أوروبا الصناعية، من بريطانيا إلى فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وبلدان أخرى غيرها.
نادوا لوضع حدٍ للإهمال الحكومي باتخاذ التدابير الازمة لحمايتهم، ورفعت شعارات تندد بالحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، “لا حرب ولا عقوبات بل سلام وعمل”، “الناتو والاتحاد الأوروبي، اتركونا وشأننا”، و “لا تدفع” المقصود فواتير الطاقة.
لكن الحكومات التي تقف، كسد منيع أمام الطبقة الرأسمالية في أوروبا، بوجه العمال وضد كل مطالب من شأنها إفساد حسابات جني المال، ” لم تـصـخ سـمـعاً لمن ندبا” ولم يكن قد فضلتْ يوما، أولوية سوى أولويات مصالح الطبقة الرأسمالية السائدة.
فقد ألفتْ الاحتجاجات العمالية والمطالب الاجتماعية منذ عقود، دون تقديم أي تنازل يذكر، على حساب سلطتها السياسة والاقتصادية. لأن هذه الاحتجاجات كانت اقتصادية فقط، من أجل تحسين جزئي لأوضاع العمال، تجود به الطبقة الرأسمالية المسيطرة على المجتمع.
الاحتجاجات العمالية والاضرابات التي يمكن أن نقول عنها الجديدة، أي التي انطلقت حالياً كرد فعل على سياسات حكومات الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمة الأوكرانية. قد اتخذت زخماً متصاعداً، حاداً ويومياً، ودخول الطبقة العمالية الصناعية بجبروتها، وخصوصيتها الاجتماعية، إلى ساحات المواجهة مع العديد من فئات السكان المتضررة، كشفت عن قضية مهمة لنا نحن الماركسيون.
الطبقة الرأسمالية الأوربية تتعامل بلا مبالاة مع هذه الاحتجاجات، كونها لحد الآن لم تمضي باتجاه العمل السياسي، بل كانت ومنذ زمن غير قصير، ليست سوى مطالب اقتصادية جزئية ومحدودة.
وستبقى هكذا إلى الأبد ما لم يتحول النضال الاقتصادي الى نضال سياسي وطبقي شامل.
ينبه لينين، إلى الفرق بين الفهم الاستسلامي أن صح القول، وبين الفهم الثوري للعبارة التي وردت في البيان الشيوعي بأن ” كل نضال طبقي هو نضال سياسي قائلاً (لينين) ” من الخطأ فهم عبارة ماركس الشهيرة هذه بمعنى أن كل نضال يقوم به العمال ضد أرباب العمل هو دوما نضال سياسي. يجب فهم العبارة على النحو الآتي: يصبح نضال العمال ضد الرأسماليين بالضرورة عملا سياسيا بقدر ما يصبح نضالا طبقيا”.
إن الاحتجاجات والمطالب التي تحصل أمامنا الآن، يمكن فهمها بضوء الاسترشاد الذي بسطه لينين إلينا، لم ترتقِ إلى مستوى النضال الطبقي الذي حدده أعلاه، ولم تكن سوى نضالات جزئية معزولة وذات طابع عفوي، ضد أرباب وشركات عمل رأسماليين وليست ضد طبقة رأس المال كطبقة.
والفصل في هذا التحرك الحاسم، هو عندما يتبلور الوعي الطبقي عند كل عامل، بصفته فرد من أفراد طبقة واحدة وفي مواجهة عدو طبقي موحد، وكذلك وعي الطليعة التي تتقدم الصراع الطبقي، بصفتها قائدة لهذا الصراع من أجل الهدف النهائي بضفر العمال بالسلطة السياسية وانتزاعها من الرأسمالية.
وعلى منْ تقع هذه المهمة التاريخية، اللابد منها لكل منْ ينشد حياة متقدمة بلا استغلال ولا عبودية من أي لون كان. بالتأكيد على عاتق الشيوعيين، الطراز العمالي الخاص الذي يتقدم صفوف الطبقة العاملة، ويعمل بجد ومثابرة، على نقل عمل العمال النقابي الصرف إلى عمل سياسي، وتغذية العمال بالوعي اللازم لهذه المهمة.
فما يحصل منذ ما يقارب قرناً من الزمان، قيام النقابات بصرف النضال العمالي نحو النضال الاقتصادي وتقبل الصدقات من الحكومات الرأسمالية، دون المساس بأسس المجتمع الرأسمالي.
أي التدخل في مساعدة العمال في نضالهم اليومي، ضد أرباب العمل وتركيز انتباههم إلى كافة ألوان الاضطهاد والاستغلال، والاصرار على ضرورة الاتحاد بوجه مستغليهم. إن التساهل في مسألة النضال السياسي تحت طائلة النضال الاقتصادي الصرف، هو بمثابة التخلي عن الهدف الأساسي لنظرية ماركس، في إقامة سلطة العمال، وكل إشارات التحركات العمالية تشير إلى هذا الاتجاه، في أوروبا بالذات وفي هذا الوقت بالذات، بانتظار اللحظة الحاسمة التي لابد أن يقولها ناطقا بها تاريخ الصراع الطبقي في هذا المكان من العالم الذي يمور اليوم بجنون الرأسمالية الغربية، وإلا سيستحيل العالم إلى بربرية وخراب لا ينجو منه أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى