ثقافة

الأندلس في عصر بني عباد

كامل عباس الأندلس في عصر بني عباد


قرأت الكتاب مرتين . في المرة الأولى أخذت فكرة كاملة عن الموضوع وعن رأي الكاتب فيه , اما المرة الثانية فقد قرأته بدلالة عصر قريتي أوائل الخمسينات من القرن المنصرم .
يحاول الكتاب القاء الضوء على ما يسميه – نظام التثمير التعاقدي- الذي كان سائدا في الأندلس أيام حكم بني عباد المسلمين لها سنة 316 هجرية 928 ميلادية . يرصد الكتاب مظاهر التثمير التعاقدي في قطاع الزراعة والتجارة والصناعة والمعاملات من خلال عقود معينة يتم فيها تثمير رؤوس الأموال المتراكمة التي تفيض عن حاجة الأسرة مثل.

  • الصناعات الغذائية وخاصة صناعة زيت الزيتون وصناعة الخمر
  • الصناعات التصديرية مثل صناعة اكياس التين اليابس وتصديرها عبر البحر.
  • الصناعات المحلية مثل صناعة الأواني الفخارية من الغضار المشوي .
  • استخراج الدقيق من القمح وصنع الخبز
  • استخراج المعادن من الأرض عبر شيها بأفران على الحطب . وتنقية الذهب والفضة بهذه الطريقة.
  • صناعة الحياكة والغزل والنسيج والأنوال تلك الأيام وكيف كان يتم العمل عليها .
  • صناعة القوارب البحرية في الأندلس من الخشب .
    في المرة الثانية قرأته مع المقارنة في التثمير التعاقدي داخل قريتي أثناء طفولتي في النصف الثاني من القرن العشرين . بين الزمنين من سنة 928 الى سنة 1950 ألف واثنان وعشرون سنة . لا أبالغ اذا قلت أن كثيرا من الفقرات التي قرأتها لا يتغير فيها شيء اذا وضعت بشراغي محل اشيبلية. هل انا افتري ؟الحقائق تفقأ العين
    ولأبدا بأهم صناعة مشتركة وهي صناعة زيت الزيتون في البلدين .
    بشراغي قرية جبلية تبعد عن السهل الساحلي في جبلة بحدود 13كم وقد كانت تلك الأيام كلها كروم عنب اوتين أورمان اما شجرات الزيتون فكانت قليلة بسبب ارتفاعها عن سطح البحر . هجر بعض سكانها الى قرية بتمانا المجاورة للسهل الساحلي والتي تشتهر بكروم الزيتون وقد اقتنى أهالي القرية بالتعاون مع اقربائهم الجدد فيها شجيرات زيتون متعددة . كنت أذهب مع عائلتي الى قرية بتّمانا في شهر ايلول من كل عام لقطاف الزيتون . نأخذ الحمار والزوادة قبل طلوع الفجر ونصل لى الكروم مع شروق الشمس ونعود من الحقل عند الغروب . بعد انتهاء القطاف تقوم والدتي بسلق الزيتون ثم ننقله الى السطح وتغطية بأغصان الأرز وبعد شهر تقريبا ننقله الى باطوس الحارة, والباطوس ماهو الا جرن دائري كبير منحوت من حجر الصّوان تتوسطه خرزة حجرية دائرية مثقوبة يدخل في ثقبها جذع شجرة اسطواني من طرف ويخرج من الطرف الآخر, يُصب الزيتون في الباطوس ويقوم ولدان بتدوير الخرزة الحجرية لتهرسه ومن ثُم يُنقل الى المعصرة المجاورة ,لتعصره أما النفايات فتنقل الى البيت لتصبح على شكل كرات تشتعل في الشتاء لتدفئته . كثيرا من العائلات كان يكفيها ما تستخرجه من الزيت , اما اذا لم يكفيها فتضطر الى شرائه من القرى الساحلية الغنية بكروم الزيتون وقد يتم تصديره من تلك القرى الى أماكن اخرى خارجية او داخلية
    لا تتشابه بشراغي وبتمانا والقطيلبية والبرجان والدالة مع اشبيلية وغرناطة وبقية مدن وقرى ملوك الطوائف الأندلسية في استخراجها لزيت الزيتون من بساتينها الزيتونية بل وفي استخراج العرق والخمر من كرومها, ومع ان بشراغي قرية كلها مشايخ ودينهم يُحرم شرب العرق والخمر الا أن كل فلاحي القرية كانوا يحسبون حسابا لمؤونة الشتاء من الخمر والعرق كونه يُشكل مصدر طاقة لجسدهم في ايام الشتاء الباردة , اما صناعة الخمر فتتم ببساطة عند انتهاء موسم الصيف في الكروم ,لكن العرق يحتاج الى التقطير ولا بد من جهاز يسمى الكلكة لتقطيره وهو ممنوع من الدولة ومن يضبط لديه تأخذه الشرطة الى السجن ليحكم هناك بغرامة مالية اضافة الى أيام سجن معدودة يحددها القاضي ,ومع ذلك كانت القرية تتدبر امرها في التقطير وبالسر في احراشها البعيدة عن البيوت .
    أما صناعة أواني الفخار من الغضار المشوي فأنا اذكر ان امرأة من قرية بريعين المجاورة كانت موهوبة في صنع مقالي من الغضار المشوي وتبيعها في القرية سنويا وكل بيت كان يحوي مقلي يطبخ فيه البرغل مع الحمص على نار هادئة
    في قريتنا أيضا كان يتم سلق القمح بعد انتهاء الحصاد لتحويله الى برغل وقد كان ذلك اليوم كرنفالا لنا نحن الصغار لنأكل من القمح المسلوق الساخن ممزوجا بالسمنة العربية قبل تقشيره ودفعه الى السطح ليجف ويتحول الى برغل .
    في قريتي لا زال حتى اللحظة آثار لفرن حجري قديم من أجل شي الحجر الكلسي يقع فوق نبع الغار الموجود في غابة القرية السنديانية وسط القرية أشاده فلاحوها لاستخراج الكلس من الاحجار الكلسية – كي يُستعمل بدلا من الطين في طلاء البيوت الجديدة – مشابه تماما للأفران الكلسية الموصوفة في قرطبة داخل الكتاب .
    ربما يوضح المثال التالي في القرية التشابه المذهل مع ما يسميه الكتاب التثمير التعاقدي .
    في صغري كان بيتنا وكل بيوت الحارة تعتمد كمصدر دخل لها من خلال تربية دودة القز والذي لا يلزمه سوى شجر التوت وورقه وهو متوفر في القرية بكثرة, كان يأتي تجار من جبلة يعطون كل بيت ما يريد من البيوض في علب صغيرة تحضن حتى تفقس لتخرج منها دودات صغيرة توضع في صواني مصنوعة من روث البقر تتغذى على ورق التوت بعد ان تكبر الدودة تدخل مرحلة الشرنقة فُتنقل الى اغصان أرز زرعت داخل البيت وكل دودة تبني شرنقتها لتحيط نفسها بخيوط من الحرير وبالنهاية تُثقب الدودة الشرنقة وتخرج منها الى الهواء الطلق فراشة كما يخرج الصوص من البيضة بعد ان يثقبها بمنقاره , يقوم الفلاح عند اكتمال الشرنقة بسلقها ليقتل الدودات قبل ان تتحول الى فراشات وتثقب الشرانق وتنزع الخيوط الحريرية, يأتي التاجر ليأخذ تلك الشرانق لاستخراج الحرير منها عبر معامل بدائية متخصصة لذلك. من الطرائف في القرية ان شيخا تمّرد على تجار جبلة بعد ان اهتدى الى العملية واصبح حلالا لتلك الشرانق في بيته ليصفه التاجر بالقول في بيت عتابا ينتهي كما يلي . من بعد المشيخة صرت حلّال أسافة عالعبادة والصلا .
    ذكر لنا الكتاب حادثة هي التالية :
    ابن زقاق الأندلسي كان شاعرا يسهر الليلي بطولها لنظم قصائده على ضوء سراج الزيت وكان ابوه فقيرا جدا فقال له يوما : ياولدي نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه . لماذا لا تنظم قصائدك في النهار؟ لكنه عندما مدح احد الأمراء وصرف له تسعين دينارا أسرع الى ابيه قائلا : خذ هذه الدنانير واشتر لنا زيتا .بإمكاني ان اذكر الكثير من الحوادث المشابهة التي وقعت في بشراغي بسبب الفقر.
    يقول الكتاب ص 218 ما يلي ( من الأنوار الى الردهات المظلمة ومن الظلمات الى الاستنارة , واضح ان الأمر يتعلق بمسارين حضاريين معكوسي الاتجاه قد بوشر المسار فيهما انطلاقا من هذه النقطة التاريخية …) ويقصد بالحضارة الأولى الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الثانية الحضارة الأوروبية ويطرح سؤالا في نهاية الكتاب لا يجيب عليه . ترى هل الاسلام سبب تخلفنا ؟
    لكن السؤال أثارني فأجبت عليه على الشكل التالي :
    اعتقد ان تخلفنا سببه الاستبداد وليس الاسلام , على العكس إن المحاولة الوحيدة في الشرق للخروج من شرنقة الاستبداد قدّمها لنا الاسلام كثورة دينية , الاسلام هو القائل ولا تزر وازرة وزر اخرى , الاسلام هو الذي اعتبر مبرر ظهوره تلك العادة المرزولة عند الروم والفرس , عادة توريث السلالات للحكم واقترح البديل وهو حكم الشورى, لكن الاستبداد هضم الاسلام فيما بعد وحوّله الى حكم الملك العضوض وأجهض تطلعاته التنويرية تماما كما جرى للثورة الفرنسية والروسية حيث أكلت الثورات الثلاث ابناءها فيما بعد ,
    ليس الاسلام سبب ركودنا وتخلفنا ابدا كما يحاول ان يوحي الغرب لنا , ان سبب تخلفنا برأيي المتواضع هو بنية راكدة في الشرق حيث ابتدأت حضارته حول الأنهار مما استدعى مركزا منظما تجلّى في الدولة التي أنيط بها شق القنوات والترع وتوزيع المياه والتي تطورت الى شكل استبدادي مقيت يجلس على راسها فرد واحد أحد يجمع بيده كل السلطات .
    على الضد من حضارتنا عرفت اوروبا بنية مفتوحة تحللت فيها مشاعاته القديمة بشكل مختلف انتقلت فيه من الرق الى الاقطاع ومن ثم الرأسمالية.
    بكل الأحوال دفعنا التطور الصاروخي الى قرية كونية واحدة كما هو الحال الآن وما يدعو للتفاؤل أصوات مثل صوت كوفي عنان الذي دعا الى انسانية مشتركة بين تجمعات ودول العالم الحالية من خلال منبر الجمعية العامة وهو ما يعني ان تقوم الدول الغنية لمساعدة الدول المتخلفة تجاوز تخلفها. بناء على هذا كسوري تفاءلت أثناء صدور بيان جنيف عن هيئة الأمم الذي ينص على ان سوريا تحتاج الى مرحلة انتقالية لتنهي استبدادها وهو ما يعني مساندة طلب الجماهير السورية المنتفضة للحصول على كرامتهم وحريتهم كما تردد في شعاراتهم لكنني عند كتابة هذه السطور لم اعد متفائلا كما في السابق بعد مرور حوالي تسعة اشهر على صدوره وخلافات مجلس الأمن على تفسير القرار .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى