الصحافة الجديدةدراسات و تحقيقات

من يملك وسائل الإعلام !

 
عبد الحسين العطواني
من مجريات الامورفي نقل وتداول المعلومات ، ان وسائل الاعلام هي النافذة الاكثر اعتمادا التي ينظر المواطنون من خلالها الى مؤسساتهم الاجتماعية والى العالم ، وبالتالي تكسب هذه الوسائل صفة البنية القومية التي تؤثر في وعي الافراد لجهة تصورهم لاوليات الاحداث السياسية والثقافية ، فوسائل الاعلام تحدد اجندة المواضيع التي يتداولها الناس ، كما انها تقدم تصورها لعواقب هذه المواضيع وطرق معالجتها ، وبالتالي فهي تؤثر في تفكير جماهيرها وحتى في تصرفاتها ، اذ ان ماتعرضه من مضمون يصبح موضوع ثقافي بين جماهيرها ، اي ان هذا المضمون يتغلل ايضا عن طريق الاتصال الشخصي الذي يستفزه ماتعرضه وسائل الاعلام .
لذلك يفترض ان تخضع مدخلات الاعلام لعملية تقييم ممنهجة دقيقة وسريعة مبنية على قيم المجتمع وثوابته وثقافته وخصوصياته ، وفصل المدخلات الى مدخلات قابلة للتطبيق ، ومدخلات مستوعبة ومحفوظة لاستخدامها في بناء المواقف وفي الاغراض الادراكية والمعرفية والبحثية ، وقد يتطلب الامر السيطرة على كمية تلك المدخلات في البيئة الاجتماعية ، كما تفعل جميع المجتمعات المتقدمة التي تمارس نوعا من التعتيم الاعلامي والانتقائية الفكرية على تلاقحها الحضاري ، ولكن ليس بأسلوب اغلاق الاجواء امام المدخلات القادمة من البيئات الاخرى ، بل بضخ زخم انتاجي ثقافي واعلامي وفكري لايدع مساحة زمنية، اومعرفية كافية للمدخلات القادمة من خارجها لتمارس تأثيرها النفسي والفكري والثقافي المباشر والكامل ، وهذا كله يحتاج في حد ذاته الى ارضية من الاصالة والمعرفة ومن الثقافة العميقة ومن المهارات البشرية المخلصة والمتمكنة .
ولكن بسبب المصالح السياسية ، وبسبب التدخل المالي والسلطوي ، اصبح الاعلام في كثير من الاحيان وفي معظمها لاينقل الحقيقة ، انما يحجب الحقيقة ، ولايدافع عن الحقيقة انما يزور الحقيقة ، وبالتالي هذا يؤثر كثيرا على عملية مواجهة الانحراف ، ويكون التأثير سلبيا في كثير من الاحيان ، نحن يجب ان نعمل ماهو علينا ، والمؤسسات تعمل ماتراه ، في واقع الامر كل المؤسسات مثل بعضها البعض ، ولايوجد أسوأ من مؤسسات الاعلام الحكومية الا مؤسسات الاعلام الخاصة ، وليس هناك أسوأ من مؤسسات الاعلام الخاصة الا مؤسسات الاعلام الحكومية ، بل على العكس ، ففي بعض الاحيان ان المؤسسات الاعلامية الحكومية افضل لاننا نعرف انها حكومية ، لانه واضح انها تعبروتدافع عن صوت الحكومة ، فالذي لانعرفه هو المحطات الاخرى ، الصحف الاخرى ، القنوات الاخرى التي تدعي انها مستقلة وفي واقع الامر تعبر عن مصالح ووجهات نظر مختلفلة .
وفضلا عما تقدم والذي اصبح امرا واقعا ، بل وخطيرا في نفس الوقت ، فأن الملاحظ اليوم اغلب وسائل الاعلام تعمل على هدفين رئيسين الاول : تشويهي يتمثل في تدمير القيم والمبادئ والمفاهيم العامة الثابتة للمجتمع واعادة صياغتها وفق قوالبه الخاصة ، معتمدا في ذلك على اضفاء اللمسات التجميلية والخصوصية الثقافية على الرذيلة والانحلال والتفاهة ، واستبدال العمق الثقافي الفكري والادبي والفني بالسطحية وعدم التيقن والتبلد الفكري ، وهذه كلها اساليب تؤدي الى ثقب ذاكرة المجتمع من المضامين والتصورات لمعاني الوجود، والحياة ، والوقت، والانسان، والعلم، والمال ،والعمل ،والخير، والحرية، والحب ، والجمال، والدين ، واما الثاني : فهو تخريبي في اقتلاع الاجيال الجديدة من بيئتها وهويتها وثقافاتها وجذورها ، ليعيد برمجتها وتعبئتها وفق القيم والمبادئ والمفاهيم التي تخدم اجندة العولمة ، وبهذا يهدف الاعلام الى تربية اجيال جديدة عدائية السلوك ، ذات نفسية منحرفة لكي تعمل كوحوش او كألات فتاكة مهيأة للانقضاض على القيم السلوكية والاخلاقية لمجتمعها وتحطيمها ، او تربية اجيال ذات فكر منحرف لكي تتناقض مع كل المبادئ الفكرية .
ولعل فقدان التوازن بين المصلحة العامة ومصلحة القوى السياسية والمالية ، ادى الى عدم مقدرة المسؤولين على وضع خطط سياسات اعلامية مبنية على المصلحة العامة ، والى تحول وسائل الاعلام الى وسائل متنافرة الهوية والقيم ، وإلى وسائل انقسام سياسي واجتماعي، كما انها تعاني اختلال كفاءة القائمين عليها ، وتخمة في المواد الترفيهية الرخيصة .
فلو قمنا بأستعراض بسيط لمراحل العمل الاعلامي المتلفز الفقير فنيا والمفلس فكريا والمتخلف تقنيا ، نجد ان المسلسلات العربية المليئة بالغث والفساد والهابط والمدمر للاخلاق وللمؤسسة الاسرية قد اخذت دورها المؤثرفي المجتمع ، وجاءت سلسلة المسلسلات الاوربية لتقدم للمجتمع العربي المسلم والمحافظ كل الوان الرذيلة والفاحشة والعلاقات الاسرية المنحرفة والشاذة بالالوان الطبيعية ، ففعلت فعائلها في تفسيخ البقية الباقية من القيم والتقاليد والاخلاقيات الموروثة ، ثم جاء دور المسلسلات التركية لتدشن عهدا نكرا من الترويج للانحلال وللخيانة وللجريمة ، وايضا للعلاقات الاسرية المنتنة ولكن بأسم وتوقيع مجتمع مسلم ، اي ان رذيلته وانحرافيته وجريمته قدمت هذه المرة بنكهة اسلامية ، حتى تكون اوقع على النفس واكثر توافقا مع العاطفة الدينية ، وعلى هذا الايقاع المخادع والماكر نفسه ، كانت مزامير بقية الجوقة الاعلامية من سينما وصحافة ومطبوعات تنعق بلحن تشييع الاخلاق والفضيلة والشرف الى مثواها الاخير.
هكذا غدت الضوابط والقيود الاسرية والاجتماعية في مجتمعاتنا شيئا في خرافة الماضي الغابر ، واصبح بيت الاسره فندقا يأوي اليه افراد متناثرون ولا رباط بينهم عدا سجل الهويه، وتفتت الاسره الكبيره الى اشباح ترتبط وتتواصل وتجتمع ولكن بالعناصر التي تألفها في الاسواق وفي اماكن العمل واللهو ، اكثر مما تتواصل وتجتمع بأعضائها الذين ترتبط بهم بعلاقة الدم والرحم والقربى .
فقد ادت العولمة الى تهميش الهوية الوطنية وتدمير وتحطيم الثقافة الوطنية، وإلى سلوك ساهم في تعميم قيم لاتقوم صلة بينها وبين الانظمة الاجتماعية في الدولة، وبالتالي الى تغريب المواطنيين ، والى افشال قيام رأي عام واع ، هيمنة الثقافة الاجنبية على وسائلنا الاعلامية ومحتواها ادى الى جعل مضمون وسائل الاعلام يساهم بصورة عامة في تغريب المواطن عن مجتمعه بدلا من تسهيل مشاركته في امور هذا المجتمع ، ويتم هذا التغريب عن طريق تقديم مضمون اعلامي يشعر المواطن بأن لاصلة له او روابط ، مع مايراه على صفحات صحفه ، او قنوات تلفزيونه من مضمون ، وان ماتعطيه اياه هذه الوسائل من مضمون غير واقعي ولا صلة له بواقعه ، وفي حالة قبوله بما تعطيه اياه هذه الوسائل يرى نفسه بعيدا عن قيمه وطرق معيشته ، فيصبح غريبا عن مجتمعه وحتى عن نفسه .
هكذا تبدو حقيقة الاعلام اكثر تجريدا سواء اكان اعلاميا عربيا ، ام اوربيا ، ام تركيا ،ام هنديا ، انها بلا استثناء ليست اعلامات او منظومات اعلامية ، بل هي مجرد اذيال ، او اذرعة اخطبوطية تتصل بالاخطبوط الاعلامي العالمي الذي تسيطر عليه وتوجهه الصهيونية العالمية ، ولذلك فان هذه الاعلاميات تتلقى اوامرها واشاراتها العصبية من مراكز التفكير والتخطيط نفسها ، وهذا مايفسر الادوار المزدوجة التي يمارسها الاعلام في المجتمعات .
والاعلام العراقي باعتباره منظومة اعلامية تابعة ، او غير مستقلة ، او غير ابداعية ، لايملك على الواقع لا على الحرية ولا القدرة على المبادرة والتميز اللذين يتيحان له التحكم في رسالته ، وفي روحه الاعلامية ، الا بالقدر الذي يخدم مجاملة الانظمة السياسية ، واجندة الجهة الممولة للمؤسسة الاعلامية ، واقل القليل من الحضور شبه الغيابي لثقافة المجتمع وتقاليده ومعتقداته وطموحاته ، وهو بالقدر الذي لايكفي الا لاستدراج ضحاياه الى افخاخه ومصائده تمهيدا للالتفاف على تلك الثقافة وطعنها في ظهرها ، اما المنظومة الاعلامية ، او التقنية الاعلامية التي تدخل في انتاج العمل الاعلامي ، او عرضه فان هذا الاعلام ، بحكم الافلاس المعرفي والفني والمهني ، وايضا بحكم التبعية الاعلامية لا يملك منها الا اليسير من المكونات والمنتجات المحلية المتدنية المستوى ، ولكي لاتبقى مسافة الزمن الاعلامي الفارغة كبيرة جدا ، فانه يجري حشوها بذلك الغث والردئ والمتعفن والهابط من الاعمال الفنية المستوردة او المعاد تدويرها ، او استنساخها بمواصفات محلية ، ولكن عن عمد وسبق اصرار وترصد .
فمحاولة الرجوع الى نقطة البداية وتجربة العودة من جديد ، لم تكن سهلة ، بعد ما امتلأت بالاشكاليات والمآزق والصعوبات والتحديات ، وبعدما اصبح طريق المستقبل اكثر غموضا وانحدارا ، وبعدما تفتت ذاكرة المجتمع بالثقوب التي لم يستبق شيئا من خبراته ودراياته بحركة التاريخ ، وبعدما فقد حسه الحضاري في انتماءه لتراثه ولخصوصيته ولهويته ، وبعدما اصيب وعيه بالشيخوخة التي جعلته غائبا عن واقعه المتفجر ، وعاجزا عن تصحيح الكثير من المفاهيم والافكار التي اهتزت وارتبكت وتداخلت الوانها .
ولان الخيار المتاح للمجتمعات المتخلفة ومنها مجتمعنا العراقي امام هذه الاشكالية هو المعايشة المشروطة لهذا الواقع بالتأثر والتأثير، فان الخروج من هذه المغامرة ، بأقل الخسائر الممكنة ، وبأكبر المكاسب الممكنة ، لايأتي الا بذكاء حضاري يتسم بالرغبة الحقيقية في المساهمة الحضارية ، مع التحلي بالقدرة على التميز الرشيد والانتقائية الحكيمة ، من خلال تفعيل الجهاز المناعي لافراد المجتمع ليعمل بأعلى طاقته وكفاءته التشغيلية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى