أخبار العالمإقتصادفي الواجهة

ألمانيا في قلب أزمة عالمية كبرى

غازي أبو نحل

بدت المانيا طبيعية خلال الشهر الماضي، حين رحّب المستشار أولاف شولتز بقادة مجموعة
السبع وضيوفهم في سفوح جبال الألب البافارية، لكن تلك المظاهر التي عكستها وسائل
الاعلام، لم تخفِ المخاطر الاقتصادية الهائلة التي تواجهها المانيا للمرة الاولى منذ تأسيس
الجمهورية الفيدرالية في اعقاب الحرب العالمية الثانية.

لاعوام طويلة، كان الاقتصاد الالماني مدفوعاً بشكل اساسي بمحرك التصدير القوي. لكن
نموذج العمل هذا بات معرضاً للخطر في ظل دخول العالم، فيما يمكن تسميته “مرحلة
الازمات المستمرة”، وقد تم ارسال اول اشارة تحذيرية لهذا الخطر في شهر أیار/مايو
الماضي، عندما سجلت المانيا عجزاً تجارياً هو الأول منذ 14 عاماً.

لطالما افتخرت المانيا بفائضها التجاري المرتفع، لكن الفجوة بين الواردات والصادرات
تتضاءل. وبدأنا نلحظ في الاعوام الاخيرة انخفاضاً في الفائض التجاري عاماً بعد عام.

لا شك ان الوضع الجيوسياسي الحالي ليس متناغماً مع ماكينة الصناعة الألمانية، ففي السنوات
الأخيرة اعتمدت المعجزة الاقتصادية الألمانية على مزيج من البراعة الصناعية والطاقة
الرخيصة من روسيا، والوصول الى الاسواق العالمية. اليوم كل واحدة من هذه الركائز مهدّدة،
واصبح التمسك بهذا النموذج حملاً صعباً بشكل متزايد على كاهل رابع اقتصاد في العالم.
فإتقان المانيا لتكنولوجيا السيارات خلال قرن من الهندسة يواجه تحدياً من خلال التحول الى
السيارات الكهربائية، کما تواجه صناعة الكيماويات، التي قادت التكنولوجيا الالمانية العالم فيها
منذ القرن التاسع عشر، تحديات بيئية اضافية مع اشتداد المنافسة العالمية، كما تتفاقم التحديات
بسبب فقدان الغاز الطبيعي الروسي الرخيص والآمن. علماً أن الطاقة الخضراء، على الرغم

من الاستثمارات الالمانية الضخمة فيها، لن تكون قادرة على امداد الصناعة الالمانية بقوة
موثوقة ورخيصة لفترة طويلة .

أخطر ما يواجه العملاق الالماني، الواقع الجیوسياسي المستجدّ، والذي يتعارض مع مبدأ
العولمة ومندرجاتها; إذ يحذّر العديد من المحللين والسياسيين حالياً، بما فيهم المستشار الالماني
نفسه، من أن العالم قد ينقسم الي كتلتین “جیو- اقتصاديتین”، واحدة تتماشى مع الغرب وأخرى
تعمل بشكل وثيق مع روسيا والصین. کما حذر رئیس اتحاد الصناعات الالمانية في شهر
حزيران/ یونیو الفائت، من ان هناك خطأً واحداً يجب الّا ترتكبه المانیا، وهو تشجیع تشكيل
الكتل وتفكيك الاقتصاد العالمي من خلال تقسیمه الى معسكرات ايديولوجية.

كنا أشرنا في مقالات سابقة الى أهمية ازالة العوائق السياسية والاقتصادية لتسهيل اعمال
التجارة الحرة بين الدول، من اجل خلق مزيد من فرص العمل والنمو ومحاربة الفقر… نجدّد
اليوم دعوتنا هذه ونرکز علی ضرورة عدم تفکیك العالم الى “معسكرات اقتصادية” بما يتنافى
مع مبدأ التجارة الحرة والاقتصاد المنفتح، لا سيما وان هذا العالم امام تحديات متنوعة من
سیاسیة وعسكرية واقتصادية وحياتية‎ واجتماعية متعددة.

في مؤتمر لصندق النقد الدولي والبنك الوطني السويسري عقد في زيورخ بتاريخ 10 أيار/
مايو الماضي، تناولت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجیيغا ملاحظات
ختامية حول كيفية تأمين نظام نقدي دولي مستقر وفعّال وشامل ومناسب للعصر الرقمي، حيث
ذکرت ان النظام النقدي الراهن جاء نتیجة تطور نظام القواعد والآليات والمؤسسات الذي
يحكم الترتيبات النقدية وتدفقات رأس المال بین البلدان علی مدی عقود، ومواصلة تعزيز
الاستقرار المالي ضروري ويدعم التنمية الاقتصادية في کل مکان ويتطلب استمرار التطور
والتكيف في عالم سريع التغير.

من الواضح ان تداعيات الحرب الروسية-الاوكرانية وما يرافقها من تداعيات تشتمل على
امكان تجزئة النظام المالي وانحسار العولمة كنتيجة مباشرة للعقوبات المتبادلة بين اقتصادات
اميرکا ومنطقة اليورو من جهة، وروسيا من جهة ثانية. ومن تداعيات الحرب ايضاً، احداث
صدمة اقتصادية عالمية وزيادة حادة في خطر «حرب باردة جديدة»، و«تكتلات اقتصادية»
تخلق عقبات أمام تدفق رأس المال والسلع والخدمات والأفكار والتقنيات عبر الحدود. علماً بأن

هذه هي محركات التكامل التي عززت الإنتاجية ومستويات المعيشة، وزاد الناتج المحلي
الإجمالي العالمي الاسمي من نحو 34 تريليون (ألف مليار دولار أميركي في عام 2000،
إلى نحو 96.3 تريليون دولار أميركي في عام 2021، أي بنسبة زيادة بلغت نحو 183 في
المئة). وقد ساهم النمو الكبير في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في انتشال أكثر من 1.3
مليار شخص من الفقر المدقع على مدى العقود الثلاثة الماضية. إن محركات التكامل التي
عززت الإنتاجية ومستويات المعيشة التي تم ذكرها بحاجة لتطوير بنية تحتية عامة جديدة
لربط وتنظيم أنظمة الدفع المختلفة، لمواجهة تجزئة النظام النقدي الدولي. واقترحت مديرة
الصندوق النظر إلى ما وراء النظام النقدي الدولي، إلى أساساته، الذي اسمته نظام الدفع
الدولي. ويشتمل هذا النظام على روابط بين البنوك وشركات تحويل الأموال وشبكات بطاقات
الائتمان؛ وكذلك أسواق الصرف (Swift) المراسلة؛ والترتيبات بين البنوك المركزية. وتقول
مديرة الصندوق، من الواضح أن نظام الدفع الدولي هذا ليس مثالياً، أن «المدفوعات عبر
الحدود باهظة الثمن وبطيئة وغير شفافة وغير متاحة للعديد من الأشخاص الذين هم في أمس
الحاجة إليها»، والرسالة الرئيسة لمديرة الصندوق هي «تحتاج البلدان إلى العمل معاً لبناء
طرق وخطوط سكك حديدية وأنفاق جديدة، باستخدام المنصات الرقمية العامة لربط أنظمة
الدفع». و«هذا من شأنه أن يجعل المدفوعات الدولية أكثر كفاءة وأكثر أماناً وشمولية. بشكل
حاسم، من شأنه أن يقلل من خطر التفتت، وهذه مهمة صعبة، لكنها ليست مهمة مستعصية
على الحل.. تسلق هذا الجبل يستحق كل هذا العناء«.

يجتاز العالم مثل هذه التحديات في وقت تشتد فيه الازمات والصعوبات فترتد تراجعاً في ارقام
النمو وزيادة في معدلات البطالة والفقر .

كان لتقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدل والصادر عن صندوق النقد الدولي، تأثير
الصدمة على المحللين. فمن النادر أن تراجع المنظمة توقعاتها للنمو الاقتصادي بهذا الهبوط
الحاد بعد ربع واحد فقط من السنة الجديدة. ومع ذلك، خفّض الصندوق توقعاته لـ86% من
الدول الأعضاء البالغ عددها 190 دولة، مما أدى إلى انخفاض بنسبة نقطة مئوية واحدة تقريباً
في النمو العالمي لعام 2022 من 4.4% إلى 3.6%.
ترافقت هذه التوقعات مع زيادة كبيرة في أرقام التضخم، وطال الأجواء الكئيبة هذه، سواد
عميق من عدم اليقين وانحدار في ميزان المخاطر، ونبوءات متنامية بتفاقم عدم المساواة داخل
البلدان وفي ما بينها.

جذب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدل لصندوق النقد الدولي، قدراً كبيراً من اهتمام
الصحافة العالمية ووسائل الإعلام. وانصب التركيز بشكل مفهوم، على حجم التعديلات الكبير
نسبياً للعام الحالي، والتي يرتبط معظمها بالآثار الاقتصادية الضارة للأزمة الروسية
الأوكرانية، حيث عطلت الحرب إمدادات الذرة والغاز والمعادن والنفط والقمح، وأدت إلى
ارتفاع أسعار المدخلات المهمة مثل الأسمدة (المصنوعة من الغاز الطبيعي)، كما أرسلت
التطورات الأخيرة تحذيرات حقيقية بأزمة غذاء عالمية تلوح في الأفق، وزيادة حادة في
الجوع على مستوى العالم. وبالنظر إلى حجم الاضطرابات، لن أتفاجأ إذا أصدر صندوق النقد
الدولي مراجعة هبوطية أخرى لتوقعات النمو الخاصة به في وقت لاحق من هذا العام.

ولكن على الرغم من أهمية أحداث عام 2022، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتأثير في
الشرائح الضعيفة من السكان والبلدان الهشة، يجب علينا مراقبة قراءات صندوق النقد الدولي
لعام 2023؛ إذ تشير توقعات العام المقبل إلى مشكلة متوسطة المدى لا تقل أهمية عن
الحاصل اليوم، وهي فقدان الفاعلية لنماذج النمو في جميع أنحاء العالم.

كما لا تتوقع المؤسسة المالية العاملة على تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي
على مستوى العالم، أن يتم تعويض أرقامها المخفضة للنمو الاقتصادي العالمي لعام 2022
في عام 2023؛ بل على العكس، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للعام المقبل من 3.8%
إلى 3.6%، مع تطبيق تلك المراجعات على الاقتصادات المتقدمة والنامية.

ويشير المعنى الضمني هنا، إلى بدء تلاشي محركات النمو الاقتصادية في العالم، وهي مشكلة
مثيرة للقلق بشكل خاص في بيئة تشغيلية متقلبة كتلك التي نعيشها اليوم، لأنها تعني أن نماذج
النمو السائدة لا ترقى إلى مستوى مهمة جذب الاقتصادات من خلال الصدمات السلبية غير
المتوقعة. ومما زاد الطين بلة، أن النماذج ذاتها، فشلت أيضاً في الحفاظ على مستوى لائق من
النمو الشامل خلال فترات الإجهاد الأقل.

تستوجب التحديات الحالية والمستقبلية تذكيراً مهماً لصانعي السياسات بان عليهم الاهتمام اکثر
بتولید الابتكار وتحسين الانتاجية وتقوية المحركات لنمو اقتصادي قوي وشامل، کذلك محاربة
الفقر وتوفير فرص عمل خصوصاً في البلدان النامية والمهمشة، اضافة الى توفير المساعدات

المطلوبة لتجاوز الأزمة … والأهم الاستمرار في توفير الأُطر الملائمة لاستمرار النظام
الاقتصادي الحر وحرية التجارة وازالة القيود والفواصل بين البلدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى