إقتصادفي الواجهة

أزمة مالية عالمية جديدة ..الاختلالات الادارية والرقابية للسلطات التنظيمية في الولايات المتحدة الاميركية

غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية

فى كتابه “السقوط المدوي… الاسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي” (FREE FALL-
Free Markets and the Sinking of the Global Economy) يكرّر
الاقتصادي الاميركي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، جوزف ستيجليتز، استخدام مفردة
“معيبة” (Flawed) لتوصيف الاختلالات الادارية والرقابية التي اعترت اداء وعمل
السلطات التنظيمية في الولايات المتحدة الاميركية، والتي طالت عمل القطاعين المالي
والمصرفي، وتسبّبت في اندلاع الازمة المالية في الولايات المتحدة صيف العام 2008،
وسرعان ما تحولت الى ازمة مالية واقتصادية عالمية.

اليوم، وبعد مرور خمسة عشر عاماً على تلك الازمة وثلاثة عشر عاماً على صدور كتاب
السقوط، تعيش الاسواق العالمية تكراراً – ولو اقل حدة – لسيناريو العام ٢٠٠٨، الذي كان قد
بدأ العام ۲۰۰۷ باحداث مشابهة لما نشهده حالياً. كان Bear Stearns Companies
Inc، أحد اكبر بنوك الاستثمار والمضاربة، على حافة الانهيار نتيجة خرقه قواعد المحاسبة
القانونية الاساسية بتجاوز خصومه ( liabilities ) اصوله (Assets) او حقوق ملكية
مساهمية، مما ادى الى بيعه كـ “خردة” لـ “جي. بي. مورغان” في شهر آذار/ مارس 2008،
بسعر ١٠ دولارات للسهم الواحد بعد ما كان سعر سهمه ١٣٣ دولاراً قبل نحو ستة اشهر من
انهیاره، بسبب تورطه في مضاربات الرهن العقاري، وتبعه ليمان براذرز مؤذناً بتساقط قطع
الدومينو من بعده الواحدة تلو الاخرى، لتعمّم الفوضى المالية في اسواق المال العالمية باسرها،
مما الزم الحكومات والسلطات المالية والنقدية للتدخل عبر توفير السيولة للمصارف
والمؤسسات المالية المتعثرة اولاً، والانصراف لاحقاً الى وضع ضوابط وتشريعات وقوانين
وانظمة جديدة.

الاسابيع الماضية وضع عدد كبير جداً من المسؤولين والمستثمرين والافراد حول العالم،
ايديهم على قلوبهم خوفاً وهلعاً واضطراباً، وهم يتابعون الاخبار المقلقة والتفاصيل المزعجة
حول انهيار بنك سيليكون فالي، وتدخل الادارة الاميركية والرئيس جو بايدن شخصياً للحد من

تداعيات المشهد المرعب بالتعهد بتأمين اموال المودعين وضمانها. ولكن هذا الموقف الرسمي
لم يكن كافياً لطمأنة المودعين على الوضع المصرفي، حيث ترنحت بنوك اخرى وبدأت تهتز
مهددةً بالمصير نفسه الذي اصاب مصرف سيليكون فالي من قبل، وذلك مع اقبال الناس باعداد
كبيرة للسحب من حساباتهم، مما جعل مصارف كبرى تتدخل لانقاذ فيرست ربابليك بنك
ومنعت سقوطه في اللحظات الاخيرة. هذا التوتر هو الذي دفع بعدد غير بسيط من المصارف
الاقليمية والاصغر حجماً في الولايات المتحدة ان تقنّن لفترة محدودة عمليات السحب من
الارصدة لعملاء البنوك، في خطوة اكدت حجم المخاطر التي كانت تواجهها.

ادت تداعيات هذا المشهد الى اهتزازات في الاسواق المالية العالمية، حيث هبطت البورصات
وتراجعت اسعار اسهم المصارف مع قلق المستثمرين وخوفهم، واهتزت الثقة مجدداً
بالمصارف، خصوصاً الصغيرة والمتوسطة الحجم، مما دفع بحكام المصارف المركزية
لارسال اكثر من رسالة اطمئنان الى الاسواق.
الأزمة التي تعرض لها القطاع المصرفي الأمريكي جدية، بدلالة الاجتماع الذي سارع إلى
عقده كبير مضاربي الأوراق المالية في البورصات الأمريكية والعالمية، الملياردير الأمريكي
المعروف وارن بافيت مع كبار مسؤولي إدارة الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض يوم السبت
18 آذار/ مارس 2023، بحسب ما نقلت وكالة أنباء رويترز، قبل فترة وجيزة من انهيار بنك
وادي السيليكون، كانت شبكة أبحاث العلوم الاجتماعية (Social Science Research
Network) وهي مجلة ومكتبة إلكترونية ومحرك بحث، قد نشرت دراسة أشارت فيها إلى
أن 186 بنكاً أمريكياً قد تنهار إذا قام نصف المودعين بسحب أموالهم فجأة. وبحسب السيناريو
الذي وضعه الباحثون في هذه الشبكة، بناء على تعريض كل بنك، افتراضياً، لصدمة سحوبات
فجائية، فقد خلصوا إلى أن الأموال التي بحوزة المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع سوف
تنفد.

الازمة التي انطلقت في الولايات المتحدة وحامت فوق القارة الأوروبية، حطت رحالها في
سويسرا.

بنت سويسرا دورها كمركز مصرفي للعالم الثري على سمعة حسن تقدير مؤسساتها للامور،
وحرية التصرف التي تتمتع بها، فضلاً عن موثوقيتها الى حد كبير، ونظرا لاهمية سويسرا
كمركز حيوي في النظام المصرفي العالمي واحتلالها اثنين من أهم بنوك العالم، فأن

الاضطرابات التي لحقت ببنك كريدي سويس مؤخرا وانعكست على الاسواق المالية اثارت
الكثير من المخاوف.

والآن، وبعد الاعلان عن صفقة استحواذ يو.بي.اس على منافسه كريدي سويس، ستفقد
سويسرا احد بنكين صنفا بين أهم ٣٠ بنكاً على مستوى العالم من الناحية النظامية، وفقا
لمجلس الاستقرار المالي ولجنة بازل للرقابة المالية.
صحيح ان الصفقة التي بلغت قيمتها نحو ٣،٣ مليارات دولار، جاءت بالمقام الأول للحفاظ
على استقرار النظام المالي، لكنها ايضا اثارت مخاوف من تداعيات اخرى، وربما ازمات
اخرى مستقبلية، قد تغير وجه النظام المتعارف عليه عالميا.

على الرغم من أن سيليكون فالي بنك لم يكن بتلك الأهمية بالنسبة للنظام المصرفي العام
للولايات المتحدة، إلا أن تعثره أجبر الاحتياطي الفيدرالي على التدخل لتجنب انتقال عدوى
الانهيار، وكشف عدم كفاية نظام تأمين الودائع الجزئي لمؤسسة التأمين الفيدرالية. ومن
الواضح أن إطار الاستقرار المالي الذي تم تبنيه بعد أزمة عام 2008 يحتاج إلى إعادة ضبط
من جديد .

ومن خلال تعريض العديد من الشركات البارزة عالية النمو في قطاع التكنولوجيا للخطر،
وضع فشل البنك بالتأكيد ضغوطاً سياسية كبيرة على مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وما التدخل
الطارئ للمجلس، عندما قدم ضمانات شاملة ومتساوية للودائع من سندات الخزانة وقروضاً
ممددة للبنوك الأخرى، إلا إشارة إلى قلقه البالغ حقاً من تعويم الأزمة، كما أجبرت أحداث بنك
“كريدي سويس” الأخيرة المنظمين في البنوك الأوروبية على التفكير ملياً في إجابة شافية
للسؤال عينه “هل كشف انهيار بنك وادي السيليكون هشاشة الاستقرار المالي الحالي، أم هو
مجرد فشل محلي في الإدارة”؟

من الواضح أن هناك فشلاً في الإدارة والإشراف فيما يخص تعثّر “إس في بي” الذي جاء
نتيجة تعرضه “المتوقع تماماً” لارتفاع أسعار الفائدة. فقد استخدم البنك ودائع العملاء لتمويل
استثماراته في محفظة من سندات الخزانة الأمريكية التي كانت على وشك الانخفاض في
القيمة عندما بدأ الفيدرالي بتشديد سياسته النقدية قبل عام. ولم تكن المشكلة في مخاطر الائتمان
أو مخاطر السيولة فحسب، بل كانت أيضاً شكلاً واضحاً من أشكال مخاطر السوق. وربما

تكون “اختبارات الإجهاد” المعتادة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي قد جنبت إدارات البنوك
الإحراج، باستثناء أن “إس في بي” تمّ إعفاؤه من هذا المطلب، بسبب التغيير التشريعي لعام
2018 الذي زاد من عتبة المشاركة من 50 مليار دولار في الأصول إلى 250 ملياراً، كان
لدى البنك المتعثر منها 209 مليارات عندما تهاوى.

تشير هذه الفجوة إلى أنه قد تكون هناك بالفعل مشكلة أعمق في إطار الاستقرار المالي. فمنذ
الأزمة المالية العالمية عام 2008، حاول المنظمون على جانبي المحيط الأطلسي تعزيز
تنظيم القطاع المالي والإشراف عليه ضمن حدود إطار عمل متسق على نطاق واسع. وتتمثل
السمتان الرئيسيتان لذلك في تعزيز دور السلطات والقدرات الإشرافية، مع التركيز بشكل
خاص على المؤسسات التي تم تحديدها على أنها “ذات أهمية للنظام المصرفي العام”، وخطط
تأمين الودائع الجزئية التي تم تصميمها لحماية الودائع حتى مبلغ معين لكل مودع .

ولأنه لم يتم اعتبار “إس في بي” مهماً من الناحية التنظيمية للسوق الأوسع، اضطر الاحتياطي
الفيدرالي عند وقوع الكارثة، ليس فقط لتدخل طارئ واستثنائي درعاً للمخاطر النظامية
الناجمة عن انهياره، بل الاعتراف أيضاً وبكل وضوح أن نظام تأمين الودائع الجزئي لمؤسسة
التأمين الفيدرالية إلى جانب القواعد الجديدة بشأن حل البنك غير مناسب لطمأنة المودعين.
فهل كنا سنتوصل لهذه الاستنتاجات المهمة المتكشفة أمامنا لو لم تحصل أزمة مفاجئة ؟
بطبيعة الحال، ربما كان منطق “الأهمية المنهجية” لنظام ما بعد عام 2008 يتعلق بصعوبة
تفكك مؤسسات ضخمة مثل “ليمان براذرز” أكثر من المخاوف بخصوص ميل هذه المؤسسات
الكبرى للتسبب في الأزمات. لكن بعد كل شيء، يمكن أن تبدأ الأزمات المالية بمؤسسات من
جميع الأحجام، ويجب وضع قواعد أكثر تفصيلاً وقوة لحل البنوك المتعثرة. لكن مشكلة “إس
في بي” تشير إلى أن إصلاحات ما بعد عام 2008 تتطلب تعزيز متطلبات كفاية رأس المال،
ووضع قواعد لتسوية البنوك مع عمليات إنقاذ لحاملي السندات وتأمين الودائع الشامل .

يبدو أن تدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي كان مدفوعاً بشكل أساسي بالقلق بشأن العدوى المالية،
وليس بالحاجة إلى حماية المودعين من الشركات في قطاع مهم استراتيجياً. ولكن في حالة
ذراع “إس في بي” في المملكة المتحدة، من الواضح أن العكس هو الصحيح. فعلى الرغم من
عدم إنفاق أموال دافعي الضرائب لإنقاذ المودعين وقرار الاستحواذ على البنك بجنيه إسترليني

واحد من قبل العملاق المصرفي “إتش إس بي سي”، يبقى السؤال مطروحاً، هل طريقة الحل
المتبعة هذه هي لحماية قطاع مهم، أم لتنفيذ سياسة صناعية ما؟

في الوقت الذي كانت فيه المصارف المركزية في بريطانيا وكندا والمركزي الأوروبي
والياباني والسويسري والاحتياطي الفيدرالي الاميركي تعزّز “خطوط المقايضة”، وهي آليات
تتيح للمصارف المركزية الاجنبية وصولاً اسهل إلى الدولار وزيادة وتيرة العمليات به، اعلنت
رئيسة البنك المركزي الاوروبي كريستين لاغارد، ان التوترات الاخيرة التي تحيط بالقطاع
المصرفي تطرح “مخاطر جديدة تهدد الاقتصاد” في وقت لا يزال امام البنوك المركزية
“طريق تقطعه لمكافحة التضخم المرتفع” .

هكذا تجد المصارف المركزية نفسها بين معضلتين: مكافحة التضخم عبر الاستمرار في رفع
اسعار الفائدة والتنبه إلى مخاطر هذه العملية على القطاع المصرفي، في وقت يمر فيه العالم
بحالة عدم يقين عالية.

في غضون ساعات من اعلان استحواذ مجموعة “يو. بي. اس” على بنك كريدي سويس تحت
اشراف السلطات السويسرية، طُرحت تذكارات تحمل اسم وشعار البنك المتعثر للبيع في
سويسرا، في مؤشر على نهاية حقبة من التاريخ المالي للبلاد.

وعُرضت العشرات من السبائك الذهبية الصادرة من كريدي سويس الذي تأسس قبل 167
عاماً، على موقعين الكترونيين، لاقت اقبالاً ورواجاً من المتسوقين الذين يتطلعون لاقتناص
جزء من التاريخ المالي لسويسرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى