مجتمع

فلسفة الانتحار .. لحظةٌ فاصلةٌ بين المواجهة وتجربة الموت!

ياسر قطيشات
باحث وخبير سياسة وفلسفة

قصصٌ كثيرة، لا تحصى ولا تعدّ، لحالات الانتحار التي تشهدها الدول العربية، ومنها الأردن، خلال العقدين الماضيين، بعض الأرقام صادمة بالنسبة لحكومات الدول العربية، وأصبحت الظاهرة في تزايد مستمر بشكل يبعث على القلق والاستنكار والصمت، قلق المجتمع من صمت الحكومات وجهات الاختصاص عن دراسة الظاهرة بشكل جاد ومعمّق، واستنكار الجهات الرقابية والبرلمانية عن تضخيم بعض المراكز والتقارير الدولية للمسألة بوصفها لا تدعو للقلق الرسمي، بحجة أن معدلات الانتحار في الوطن العربي أقل من المعدلات العالمية !!
وكأن من يبعث بهذه الرسالة “التطمينية” لحكومته ونظامه ومجتمعه، يدعوهم لتجاهل المسألة لحين وصول المجتمعات العربية الى منافسة الأرقام “المرعبة” لحالات “الانتحار” في المجتمعات الغربية !! رغم ما تحمله هذه الظاهرة من تداعيات خطيرة على الأمن والسلم المجتمعي، الوطني والقومي، وعلى النسيج والتركيبة السكانية العربية في المستقبل.
من حيث المبدأ، تختلف معدلات الانتحار في الدول العربية ولكنها تعتبر أقل من المعدل العالمي، وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2020، كان المعدل العالمي للانتحار هو (9) أشخاص لكل (100) ألف نسمة، في حين تبلغ في متوسطها العام العربي (4) أشخاص لكل ( 100) ألف نسمة.
ولا يوجد ترتيب رسمي للدول العربية من حيث معدلات الانتحار، ولكن تشير الإحصائيات (خلال الفترة 107-2022) إلى أن الدول العربية التي تعاني من أعلى معدلات الانتحار هي مصر والمغرب والعراق والجزائر والسودان واليمن والسعودية والصومال وسوريا وتونس والامارات ولبنان .
وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2016، فإن جرى الإبلاغ عن (26) ألف حالة انتحار بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بمعدل (4.8) حالة انتحار لكل (100) ألف حالة وفاة !
أما في الأردن، فقد أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات العامة، ارتفاع أعداد حالات الانتحار في البلاد في عام 2021 إلى (186) حالة بنسبة زيادة (10%) عن عام 2020م، حيث بلغت (169) حالة، فيما سجلت حالات الانتحار في عام 2022 ما مجموعه (145) حالة.
دعونا نسأل لنفهم فلسفة الانتحار :
هل الانتحار فلسفة لا يفهمها إلا من يقدم عليه؟ وهل يمثل قمة العقل أم قمة الجنون؟ هل هو هروب من تقبّل ضغوط الحياة أم وضع حدٍ فاصل للمعاناة؟ هو هو الحد الزمني الفاصل بين لحظة المواجهة والتحدّي ولحظة تجربة “الموت”؟
وهل الظاهرة في الوطن العربي لم تصل بعد الى مستويات خطيرة تدفع المسؤولين لمعالجتها اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا؟ رغم أن معدلات الانتحار في البلاد العربية تزداد بشكل ملحوظ منذ سنوات وعقود؟
لقد اهتم العالم الاجتماعي المعروف “اميل دوركايم” (1858-1917) في فكرة الفاصل الزمني القصير بين السعادة والشقاء والحياة والفناء، وأخذ يدرس اللحظة الفاصلة بين الجنون والانتحار، ودرس مسألة الاندماج الاجتماعي وعلاقته بالانتحار في مجتمع يتحوّل بسرعة من نمط زراعي بسيط الى انفتاح نحو الصناعة، وتهمين عليه الكنيسة، فرأى أن مكونات المجتمع لم تستطع التخلّص من ترسبات الموروثات الاجتماعية القديمة بسهولة، ووقفت عاجزة أمام استيعاب التحولات السريعة، اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا- وهذا ما يجري عربياً- وانعكاساتها المدّمرة على الفرد وآلية اندماجه في المجتمع الحديث.
حاول دوركايم ان يطور منهجه العلمي في دراسة قضية الانتحار في مجتمعه، والتي وصلت ارقاماً مذهلة آنذاك، فركّز على قضية وحدة المجتمع في لحظة اعادة “تهذيب الاخلاق” والتربية بوصفهما مدخلاً هاماً لإعادة تنظيم المجتمع، واعتمد على منهج التحليل في قراءة الظواهر؛ انطلاقاً من دراسة العوامل والدوافع، فألّف في عام 1897م كتاباً عظيماً يعتبر لليوم مرجعاً في علم الاجتماع، وهو كتاب “الانتحار”، وقدم فيه دراسة علمية جريئة لم يسبقه أحدا في هذا المجال.
وانتقد في كتابه كل التوصيفات والمبررات التي كانت تسوقها الحكومات آنذاك بشأن الانتحار، فرفض فكرة أن الانتحار مرتبط بالجنون او الهلوسة أو الادمان أو الافلاس الأخلاقي أو الإيمان بالله أو الالحاد ! واعتبر الظاهرة مسألة اجتماعية بحته، ودرسها في اطار علمي فلسفي مفاده “لا يمكن اثبات رابطة علم بمعلول بين ظاهرتين استنادا الى وقائع معزولة ومثيرة للفضول..” بل برأيه ان دراسة ظاهرة الانتحار تتم “وفق توافقات وتوازنات وتغيرات متزامنة بالعلاقات المتبادلة..”.
لذلك قدم “دوركايم” نظريته الاجتماعية للانتحار وفق قاعدتي: الدمج (التكيّف) والضبط، أي دمج المجتمع أو تكيفه في كتلة واحدة متماسكة تزيل الفوارق بين فئات المجتمع، وضبط رغبات الافراد في اطار المجتمع الواحد من خلال تلبيتها كهدف من اهداف المجتمع الصالح او المواطنة ان جاز التعبير اليوم، وهنا مكمن العلة في الدول العربية، تحديداً.
يقول “دوركايم” أن أكثر من (70%) من الذين انتحروا، كانت لديهم علامات انذار مبكر للمجتمع ولمن حولهم، لكن أحدا لم يلتفت إليهم أو يشعر بمعاناتهم.
في الماضي تعلمنا أن الانتحار ثقافة سائدة في الغرب، والمبرر “المؤدلج” الجاهز هو غياب الوازع الديني والفراغ الروحي الذي تعيشه تلك المجتمعات!! لكننا اليوم نقرأ ارقاماً مفزعة عن الانتحار في الوطن العربي، رغم انها مجتمعات متدينة بالفطرة، وتدرك أن الانتحار حرام شرعاً، لكن فلسفة الانتحار لدى من يقدم عليه ليست مرتبطة بالدين والقيم بقدر ارتباطها بلحظة حاسمة يقرر فيها الانسان أن يضع حداً لحياته غير عابئٍ بانتظار أجلهِ المكتوب!! اذاً هي فلسفة الاقتراب من الموت في لحظة ألم وحزن، أو فلسفة التخلّص من الشقاء في غياب بوادر الحياة السعادة!!
ويقول الدكتور محمد الأفندي، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في اليمن: “إن الشخص الفقير يزداد عنده الإحساس يومياً بالغبن والظلم، فتتولد لديه حالات العداء للآخرين، ويقدم على الانتحار بعد أن يشعر بالعجز الكامل”، كما أن الانتحار، بنظره، لا يرتبط بالفقر فقط، فبعض ممن انتحروا في الغرب والعرب، كانوا من المشاهير أو من طبقة راقية أو ذات رفاهية حياتيه، لكن في البلاد العربية يرتبط الانتحار، اجمالاً، بطبقة اجتماعية متوسطة.
الباحث في فلسفة الانتحار يتذكر مباشرة (فلسفة اللاجدوى) وأُسطورة “سيزيف” المعروفة، حيث كان “سيزيف” يرمي صخرته في كل مرة يواجه فيها مشكلة ويفشل، حتى قرر أن يرمي نفسه بدلاً من الصخرة ليضع حدا لآلامه ومشاكله، فكم من شخص على امتداد الوطن العربي، قررّ في لحظة اللاجدوى أن يرمي نفسه بدلاً من رمي الصخور أو الهموم والضغوط!
ربما نستفيد من فلسفة “سيزيف” أن نقطة الوصول الى الانتحار هي النقطة التي يفقد فيها الإنسان العاقل الطبيعي “إدراك العقل”، حتى لو فكر ملياً بالمنطق وآلية الانتحار، وهي النقطة أو اللحظة التي يعتقد فيها المنتحر أنه امتلك أخيراً القدرة على اتخاذ القرار، وللأسف قدرة وحرية قرار الانسان العربي، تختزل، في ظل غياب الحريّة والرفاهية والمشاركة، في لحظة الانتقام من الحياة ورسم النهاية بيديه، بعيداً عن القيم الدينية والإنسانية.
لو وضعنا مقياساً معيناً، نفسياً أو اجتماعياً، للشخص المنتحر، أو الذي حاول الانتحار، لتفسير الحالة، سنجد أن كل الأسباب تختصر في تبريرات محددّة هي: الظلم والاضطهاد الاجتماعي، وغياب العدالة والرفاهية، والعجز عن الرد أو التأثير، وسلطة القهر واستبداد السلطة.
لا نبررّ للمُنتحِرِ فعله، لكن كما علينا أن نتقبّل قصص نجاح من أنصاف فرص الحياة لأشخاص طبيعيين، نهضوا بعزيمة وإرادة وصنعوا المستحيل، رغم قساوة الظروف والتحديات، فعلينا أن نتقبّل، أيضاً، أن هناك أشخاصٌ لم تسنح لهم تركيبة المجتمع ومرارة الدنيا وضغوطها، ولو “أشباه” فرص الولوج الى فسحة الأمل وتحقيق الذات، فتحطّمت آمالهم وتحولت الى آلام، وعكست بمرارة أزمة المجتمع وتراكماته السلطوية.
وبالتالي فان هذه الظاهرة، هي انعكاس طبيعي لواقع المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فيدين له بالفضل لأنه حطّم أركان جدرانه الهشه، ودفعه دفعاً للانتحار، واضعاً حداً لعذابه الذي بلغ مستوى النقطة الصفرية، ومعها تنتهي كل حسابات العقل والمنطق!!
إن كان الانتحار جنوناً، كما يراه البعض، فان جنون المفكر الألماني “نيتشه” لم يدفعه للانتحار رغم اليأس، وإنما استعاض عنه بفكرة التركيز على قوته الذاتية لتحدي الأوجاع والحزن، وخلال الفاصل الزمني القصير بين السعادة والشقاء والحياة والفناء، أعطى “نيتشه” لنفسه مساحة لنمو مشاعر الخوف من الانتحار، والذي كان سائداً في مجتمعه في القرن التاسع عشر، فوظّف جنون عقله في فلسفة خدمة البشرية، بدلاً من الهروب، فيا ترى كم من عقل كعقل “نيتشه” خسرناه، حينما قررّ صاحبه الهروب بدل المواجهة ، فانتحر في لحظة جنون فاصلة!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى