رأي

وجه أخر لعالم جديد

 
عباس علي العلي
إن كانت الفلسفة منذ إن ولدت لا تقبل الافتراض لوحده دون برهان كما لا تقبل النتائج بدون مقدمات وأنتزعت لنفسها طريق الجدية والصرامة في البحث عن جوهر الحقيقية عبر سلسلة من الأسئلة والبراهين والأجوبة لتصل لتشخيص صورة ذهنية للأشياء تبدو في كل وقت أنها الأمثل في التفكير ,وهذا ديدنها لا أعتراض عليه ,ولكن من حق العقل أن ينتهج أسلوب أكثر تحررا من مفاهيم الفلسفة ومقولاتها عبر التحرر من أشتراطات الفرض والبرهان والتحقق ومن خلال منهج يضع لكل شيء فرض ويسير بهذه الفروض إلى نهايتها المعتادة من غير أن يمر بكلاسيكية المنهج الإثباتي .
في هذا الطرح سيقول البعض أن مجرد التفكير بهذه الطريقة ستخرج الفكرة من أطار الفلسفة أصلا لترميها في ما يسمى أدب التخيل أو التأمل الفلسفي ولا يمكن أن تكون هناك فلسفة تبنى على الافتراضات وتتميز به وإن كانت المسألة الفلسفية أساسا هي تعدد أفتراضات ,كذلك كيف يمكن لنا أن نسلم للنتائج التي تطرحها الفلسفة الإفتراضية المزعومة ونحن لم نكتشف قابليتها على أثبات منطقها ويعوزنا الدليل الحتمي لها ,وهناك تساؤل أهم كيف سنبني هيكلية هذه الفلسفة بعيدا عن منطق المعرفة بأعتبار أن الفلسفة أصلا هي المعرفة المتعالية بالمنطق المحكم.
قبل المباشرة بالإجابة لا بد لنا أن نعرف ما يعني الافتراض والافتراضية لو أضيفت إلى مبنى لفظي أخر ,فهناك سلسلة من المعارف يطلق عليها العلوم الافتراضية وهناك مقدمات فكرية كثيرة تتصف في مرحلة ما من وجودها بأنها افتراضية ,كما أن الافتراض بحد ذاته أسلوب تكويني لمباني فلسفية وفكرية تقود حتما للبرهان ونتائجه وهي بذلك تعد من منهاج الوصول للغايات الفكرية وليست مجرد رؤى تطرح كأنها مجردة تدور في عالم الفكر تنتظر التصديق.
الافتراضية طريقة تمهيد وإنشاء وتكوين وهي أحدى مهام التفكر والتدبر العقلي اللازمة للتقرير ,ولا يمكن تمر أي عملية إبداعية دون التطرق والتوصل بالسلسلة الافتراضية من المقدمة التأملية وحتى البناء التصوري الذهني الذي يجعل الفكرة في جهوزية كاملة للبرهان ,إذن ليس غريبا على الفلسفة اعتماد الافتراضية من ضمن وسائلها العملية.
علية يكون الفرض المتقدم بقبول فكرة إبتداع نتاج معرفي يلاقح بين الفلسفة المجردة الأصولية وبين التحرر من واقع السلفية الفكرية والتزمت بالمنطق والافتراضات المحكمة ليس بالأمر المستصعب لأن واقع المعرفة اليوم يتجه نحو الافتراضية التامة في كل شيء متناسقا مع مفهوم العلم المتوسع والمعرفة اللا متناهية ,كان الأمس الفكري والمعرفي محكوم بثوابت صلبة فضحها عالم النانوية الرقمية المتعدد الاتجاهات والمتشعب في التفاصيل إلى أدق الدقيق من الأمور بنتاج علمي وعملي لا يمكن لأحد أن يفترض حدا تقف عنده أفتراضات هذا العالم ’نحن اليوم نسير بعجلة لا تستثني شيء بافتراضاتها العملية ولا تستبعد حتى إثبات العدم طالما أن العقل خرج من سجن المنطق والثوابت المقيدة له.
من المعقول المعرفي أن نفتح بوابات العقل على مصراعيها لكل ما هو ممكن ومتخيل ومحتمل وحتى للمتوهم بمعنى دورانه بين الممكن والمستحيل ,العقل في حالة تحرر من حالة النسبية والمطلق يرفض كل شيء يوضع في خانة المطلق دون أن يثبت هذا المطلق كونيته بقاعدة مطلقة لا تقبل النقض وبما أن إثبات المطلق بمطلق أخر عملية مركبة تحتاج لدليل صحة المطلق الثاني فسوف ندور بتوالي الإثباتات دون أن نصل لنتيجة محددة .
هذا هو المحال المطلق بمعنى أننا عاجزون عن تصور المطلق وتحديد أوصافه خارج ما هو ذاتي له ,وتصبح بذلك الحقيقية مجرد افتراض مقبول على أنه محل شك دائم ,وسيغيب الحد الفاصل بين الثابت والمقترض طالما أن مساحة البعد بين الحقيقية وخلافها تتسع يوما بعد يوم مع تقلص حدوديات الأشياء لصالح القبول الأفتراضي بالواقع.
الفلسفة الافتراضية لا تحمل الوهم ولا تتحمل المحال إلا كونهما قابلان للتحقق الآن أو في الغد طالما أننا لا يمكن أن نجزم بحدودهما من الواقع أفتراضا على أن الواقع الذي بأيدينا ليس هو الواقع الحقيقي ,وسبق أن قلنا أن الحدود بين الوهم والواقع أيضا حدود وهمية ومصطنعة أخترعها عقل الإنسان وصدق بما لديه من منطق محكوم بالواقع المتخيل.
أننا نعرفه والحقيقة هو جزء صغير من واقع أكبر وأكثر تحررا من منطق منطقنا المحدود لذا فلا يفترض بالفلسفة الحقيقية الواقعية أن تقبل بمنطق جزئي على أنه هو الكامل الحقيقي ,في هذا التسليم تكون الفلسفة قد خانت نفسها ولائمت مع الجزئية العقلية القادرة على ملاحظة الأقرب وتنكر الأبعد لأنها لا تره وليس لأنه غير موجود ,الموجود والغير موجود أيضا نسبي للعقل ونسبي في الحكم ونسبي في التقرير وكل شيء نسبي قابل للافتراض بمطلق الحرية.
الفلسفة التقليدية فلسفة تؤمن بالحدود والمقيد والمطلق والنسبي والاحتمال واليقين والمؤكد وغيرها من الصفات والأوصاف التي تحبس الفعل العقلي في مداراتها دون أن تمنح العقل سوى التأمل المنطقي أي التأمل المحكوم بولادات واقعية بالنسبة لها وترفض ما دون ذلك وإن كان في بعض المحاولات القديمة والحديثة دفعت العقل لتجاوز المنطق لكن كانت هذه المحاولات فردية محصورة بقوة المتفلسف وليس بقوة الفلسفة ذاتها ,لذا عندما نرى أستشراقا وأستشرافا في محاولة أو أخرى لا نعزوها كمنهج تقره الفلسفة وتؤمن به بل هو محاولة تمرد عليها وكثيرا ما حاربت الفلسفة هذه المحاولات لتكتشف متأخرة أنها كانت آثمة بهذا الرفض.
وتتكرر الحكاية في كل مرة حتى مع الفلسفة الافتراضية الكثير ممن يهتم بالدراسات الفلسفية يرفض حتى الوقوف عند التسمية متهما من ينادي بها بالسفسطائية والخبل المعرفي ,الفلسفة الحرة الأستشرافية هي الفلسفة القادرة على رسم طريق المستقبل وتهيئ العقل للتوافق مع أستحقاقات الزمن منسوب للمكان وليس عليها أن تقدم حلول , الحلول تأتي دوما من خلال نظرة جدية لفهم الواقع وسيرورته وأكتشاف العوامل المحركة والدافعة عندها يصبح التفكير بالحل أشبه الجلوس تحت المطر لاكتشاف أن السماء بإمكانها أن تمطر أم لا.
سؤال يدور حول جدوى الأفتراض وجذور البناء الأفتراضي باعتباره اطار كلي للفلسفة بدل أن يكون وسيلة وآلية من وسائل وآليات العمل الفلسفي هذا من جهة ومن جهة أخرى هل هناك مخاطر من عدم ضياع الفلسفة في صورتها الأفتراضية والذي يعني التخلي عن صرامة المنهج وهجر الثوابت الفلسفية الطبيعية ؟, الجواب يتكرر في كل مرة ,أن تبني الشكل الأفتراضي لهذه المنهج الفلسفي له هدفان رئيسيان الأول تحرير العقل من الشكليات القيدية التي تؤطر فيما بعد المنتج العقلي وتحبسه على الأقل في الواقع وحدوده وبالتالي لا يمكن لنا خرق الواقع المحسوس للتعرف ولو أفتراضا على الواقع الحقيقي وهذه المهمة هي الأهم والأجدر في وجود الفلسفة من مهمة إيجاد الحلول للواقع طالما أننا توصلنا إلى حقيقة أن الواقع ما هو إلا جزء من الصورة الذهنية التي يرسمها كل عقل وبالتالي فالحقيقة التي تبحث عنها الفلسفة الطبيعية الواقعية هي البحث عن حدود للوهم وليس بحثا عن الحقيقة.
النقطة الثانية تحرير الفلسفة من قوقعتها في بوتقة الصرامة والجدية وتقيدها المزعج بالمنطق والقوانين الفلسفية التي كثيرا ما وقفت كمحارب في وجه الإبداع الفكري وتمثلت للكثير من الفلاسفة الأحرار بأنها شبيه السجان الذي يقف بوجهه العبوس يملي على عهدته من المساجين تفاصيل وجهه دون أن يسمح للآخرين أن ينعموا ببعض حرية وبالتالي أصبحت هذه القواعد والقوانين سجن مركب وعبودية مزدوجة أحاطت الفلسفة نفسها بدون أن تتعامل مع المتبدلات والتحولات التي تجري في الماحول البشري .
لقد كانت هذه الأطر والقوانين والقواعد والمناهج ضرورية في مراحل متعددة عندما كان العقل والفكر في صراع مع الوهم والخيال والشك والأسطورة وكان الفكر الإنساني بحاجة لقوة ضابطة توجه المسار الكلي للكون ,وطالما أن الوجود الكوني اليوم لم يعد هو ذاته الذي نشأ قبل عدة قرون بحيث أصبح العلم والمنطق العلمي هو السائد حتى في تنافسه مع الدين لا بد اذن من تحرير الفلسفة نحو عالم أخر عالم ما بعد علمنة الوجود وعلمية التعاطي الفردي والجماعي مع مشكلات وحاجات وقضايا العصر.
هل من المنطق العقلاني ومن سيرة المعرفة أن نخشى من فتح الشبابيك للتغيير وأشاعة النور ,الأفضل عقليا لمن حرمه الواقع من النور أن يفترش السماء والشمس حتى يتعود على النور ويتأقلم معه وبذلك يعيد الحياة لبصره وإلا ما فائدة العلم والمعرفة وهي تحافظ على أسر العقل وتحرص على عدم كسر زنازين الواقع ,الحرية للعقل شعار الفلسفة الأفتراضية بمنهجها المتحرر وبأهدافها الإنسانية لإعادة رسم طريق معرفي أكبر وأوسع وقادر على استيعاب كافة أنشطة العقل واستدلالاته سواء المتيقن منها نسبيا أو التي في طور الانتقال من المجهول المحتمل للمعلوم المحتمل.
الفلسفة الأفتراضية تمنح الوجود أتساع يتناسب مع ولادات فكرية ومعرفية قادمة ومتكررة ومتنوعة قد لا نتصور حتى شكلها الآن ,وما يعيق ولادتها هو ضيق الواقع الفكري وعدم قدرة العقل المأسور من رسم ملامح بحدود شبه مفهومه عنها ,إنها دعوة لطلاق الواقع والعيش بفضاء خالي من الحدود مليء بالاحتمالات بين الوهم وبين الحقيقة في وعلى مستوى واحد ومتطور من الافتراض بكونهما حقيقتين أو وهميين.
قد نكون أجبنا على السؤال الأول عن الجدوى والهدف والنتيجة التي تريد الافتراضية ان تصل لها بعيدا عن الرسم الخطوطي والمنهج التقليدي في عرض الفكرة وتأطيرها ويكون من حقنا أن نمضي في تأسيس هذا المشروع طالما نحن نؤمن أن العقل قادر على أن يتخطى واقعه وبتغلب على إشكالية التقييد بالموروث الفلسفي ليس رفضا له ولكن بناء على نتائج أصبحت الآن من ضروريات التوافق والانسجام مع عالم ينطلق بصورة مذهلة نحو الرقمية والنانوية مختزلا الكثير من الجهد والوقت والمال والمكان لينقل العالم إلى مدى افتراضي لكنه واقعي افتراضي في التصور واقعي في العمل نحو تجسيد كل افتراض حتى لو كان خارج المعقول وخارج ما هو واقعي الان بمقياس الان وفي ظرف ألان علينا الآن أن نغادر منطقة الآن والتحول نحو اللا حد واللا زمن واللا واقع.
بين الواقع واللا واقع هناك مشترك مسئول عن ولادة كل منهم وبنفس مستوى الإنشاء إنه فعل الوعي بهما ولولا هذا الفعل وتأثيراته وامتداده لا يكون هناك أصلا مسميات ,العقل وحده هو من يعي الواقع فيصنعه ثم يسوقه ثم يطرحه حقيقية ليتقيد به لاحقا ,كذلك عندما يتخلى بنفس الاسلوبية عن غيره فيصبح كل ما هو مخالف للقيد لا واقعي بل ولا جدوى من الاهتمام به ,هنا تتمحور مشكلة الحد الفاصل بينهما .
العقل يصنع معيار الوعي لينتصر لطرف دون أخر لينتصر للواقع ويحاول أن يسايره بقوانينه التي هو مخترعها لذا لا يمكنه الانفلات من القيد الواقعي ,هكذا عانت الفلسفة بل وعموم الفكر الإنساني عندما يرسم العقل الهويات ويلزم نفسه بها دون أن يدرك الخطيئة أن الصانع الذي يبني بناء محكم وهو في الداخل سيكون أسيرا للبناء عندما لا يفكر انه كلما أرتفع البناء صعبت مهمة الخروج بدون صعوبات حقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى