ثقافة

بدايات الحداثة الأوروبية

حكاية الحداثة الأوروبية وفلسفتها قاسم المحبشي كاتب

مع القرن السابع عشر آخذت تترسخ الحداثة الأوروبية وذلك باتساع سلطة العلم التي أقربها معظم فلاسفة الحقبة الحديثة، وهي شي مختلف غاية الاختلاف عن سلطة الكنيسة، من حيث كونها سلطة عقلية وليست سلطة حكومية او “متعالية” فليس ثمة عقوبات تقع على من ينبذونها، كما أن نفوذ العلم التطبيقي قد تغلغل عند الفلاسفة على نحو متزايد، وافضى التحرر من سلطة الكنيسة الى النزعة الفردية حتى بلوغ حد الفوضوية, وذلك ما يسمى بعصر الثورة المنهجية، وما الثورة المنهجية التي رافقت العلم الطبيعي الا ثورة شرعية للتخلص من المنطق عامة والمنطق الارسطى خاصة والقياس على وجه الخصوص.
ويلخص ارنولد توينبي تلك الثورة النقدية المنهجية الحاسمة بقوله: ” ان المدنية الغربية مر بها بين (1563-1736م) ثورة عقلية وروحية أكبر من أي ثورة مر بها المجتمع الأوروبي منذ ان ظهر بين انقاض الامبراطورية الرومانية، ان المفكرين الغربيين الان أحجموا على قبول ارث الاجداد على أنه أمر موثوق به لقد قرروا أنهم من الان وصاعداً، يضعون عقائدهم الموروثة على المحك، وذلك عن طريق فحص الظاهر فحصاً مستقلاً، وانهم سيتبعون تفكيرهم الخاص، وايضاً تواضعوا على العيش بسلام مع الاقليات اصحاب البدع. ولم يعودوا يشعرون بانهم ملزمون ان يفرضوا عقيدة الاكثرية او طقوسها بالقوة”
ان ذلك القرن يعد انتصاراً حاسماً للحداثة والانسان الحديث، ويمكن النظر اليه بمثابة قطيعة ابستمولوجية مع القرون الماضية، فمفكرو اوروبا الكبار حيئذ قرروا ان يمسحوا اللوحة ويبدأوا بالكتابة عليها من جديد، وهذا ما فعله فرانسيس بيكون (1561-1626م) في “الارجانون الجديد” عام 1620 بنقده الاوهام الاربعة واعادة المعرفة والعلم والثقافة الى حيث ينبغي ان تكون، الى الطبيعة الى التجربة الحسية، ان اهمية بيكون تكمن في كونه اكد اهمية المعرفة في تحسين حياة المجتمع، واوضح الأدوات المنهجية للحصول على المعرفة العلمية النافعة وفي هذا السياق ياتي رينيه ديكارت( 01596-1650م) الذي عد الانسان وعقله معيار كل معرفة ممكنة، (أنا افكر اذن انا موجود) لقد كان مطمح ديكارت كما كان مطمح العصر المنهجي كله هو البحث عن المعرفة اليقينية، الواضحة الثابتة المتميزة وكان منهج الشك هو الطريق الى اليقين، اليقين الرياضي الطبيعي الفطري، الذي بحث عنه ابو حامد الغزالي (450-505هـ)، في المنقذ في الضلال.
واذا كانت الحركة الثقافية التي طبعت التفكير في القرن السابع عشر قد ركزت جهودها حول مشكلات التاريخ الطبيعي ولم تعر أهمية خاصة لمشكلات التاريخ الانساني، فبيكون مثلا لم يكن يرى في التاريخ الا مارآه ارسطو استذكاراً وتسجيلاً الماضي تسجيلاً يصور الاحداث بحقيقتها وواقعيتها.
وديكارت، وان كان يعترف بان للتاريخ قيمة تعليمية وتربوية، لكنه عاجز عن البحث في الحقيقة لان الاحداث كما ترد لم تقع في واقع الامر بالطريقة التي نجدها عليها في سجلات التاريخ.
وربما كانت أهمية كل من بيكون وديكارت على صعيد تطور فلسفة التاريخ والمعرفة التاريخية عامةً تكمن في كونهما قدما الاسس المنهجية الجديدة للبحث في الظاهرة التاريخية، ويمكن تلخيص النتائج البعيدة للثورة النقدية المنهجية التي قاما بها من نقد الاوهام ونقد التراث والتقاليد والخرافات وتاكيد قيمة الحاس والمحسوس والعقل واحلال الاستقراء والتجربة محل الاستدلال والقياس والتفريق بين مناهج العلم واللاهوت والفلسفة والاخلاق. وتمهيد الارض الفكرية من كل شوائب المنطق والانطلاق من جديد بعد مسح اللوح الانطلاق من الواقع الحسي ” يولد الانسان وعقله صفحة بيضاء” حسب جون لوك والانطلاق من الذات الفطرية عند ديكارت “انا افكر اذن انا موجود” ذلك هو أساس الوضوح والتمييز وهو نفسه الذي ينزل الى الجذور الاعمق نحو الميتافيزيقا الشمولية ويصعد الى مختلف فروع المعرفة الانسانية.
وكما أن المبدا القائل: أن الهدف الحقيقي للمعرفة هو تحسين الحياة الانسانية وزيادة سعادة الانسان وتخفيف معاناته هو النجم الذي اهتدى به بيكون في عمله, كذلك فعل ديكارت حينما اعلن، تفوق العقل، وثبات القوانين الطبيعية، منتهجاً، طريق الشك الايجابي الصارم في التحليل والتركيب، والنقض والابرام ومن اعطاف هذين الفيلسوفين انطلقت مسيرة الفكر الاوربي الحديث، ومن فكرهما تشكلت فكرة التقدم التاريخي واخذ الفلاسفة يبحثون في الانسان والتاريخ والحق امثال: توماس هوبس (1588-1679م) الذي يعد احد اهم فلاسفة التاريخ الحديث, ولما كان يعيش في ظلال الحروب الدينية وتاثره بالمنهج التجريبي توصل الى ان غرائز البشر الطبيعية تؤدي الى “حرب الكل ضد الكل”
وقد كانت فلسفة ديفيد هيوم (1711-1776م) في المحصلة النهائية ثورة منهجية في فلسفة التاريخ كما تدل عنوانات مؤلفاته:مقالة في الطبيعية البشرية, بحث حول الفهم الانساني, ومحاورات حول الدين الطبيعي, وكتاب تاريخ انكلتر.
واذا كان النمط الحديث لتصميم وتشكيل المجتمع الناهض قد وجد من يعبر عنه وعن قواه الراسمالية الصاعدة والنظر الى قيمها وكانها هدف التاريخ والنظر الى قوانينها وكانها قوانين الطبيعة الابدية، ومن ثم فأن الخضوع له ليس أسمى الاوامر الاخلاقية فحسب بل هو ضمان السعادة على وجه الارض، وهذا ما فعله معظم فلاسفة المدرستين التجريبية والعقلية, منهم (جون لوك 1632-1704م) هو رسول الثورة الانجليزية 1688م وفيلسوف الليبرالية الجديدة، في كتاباته “مبحث في الفهم الانساني 1687 ورسالة في التسامح، وكتابه عن التربية، وكتاباته عن الحكومة والعقل الاجتماعي.
نقول اذا كان هذا الاتجاه قد وجـد أن هذا العـالم هو أحسـن العـوالم، حســب ليبنتز (1646-1716م) فان هذه العملية من التطور التاريخي في سياق الممارسة الحية لحركة المجتمع، لم تكن تسير بهذه الصورة الخلابة التي يرويها لنا التاريخ، فمن المعروف انه ما ان تكون الاحداث تاريخية حتى تختفي الصلة الحتمية بينها وبين الافكار التي افرزتها، ويصعب معرفة حقيقة فكرة من الافكار من غير العودة الى السياق التاريخي التي ولدت فيه وعبرت عن حاجة من حاجاته، وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى ان التاريخ هو في الحقيقة تاريخ صراع وحرب وتدافع على الخيرات، فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب، هذا التاريخ الذي يدور حول (محور التجارة “الحرب الاحتكار”) هو التاريخ الذي سارت فيه النهضة الاوروبية، التي تحملت فيه الطبقات البائسة “المصاريف الاضافية” كما يقول ماكس هوركهايمر وبهذا المعنى، قال المفكر الفرنسي (مونتين) “ليس باستطاعة احد ان يربح الا ما يخسر الاخر”
ان الصراع على الثروات والذهب والربح ونمو التجارة والمدن دفع بعشرات الالاف من الناس الى قاع المجتمع حيث البؤس والتشرد والجوع والجهل والخوف وكل الالام، كانت تلك الحشود البائسة الملقاة على رصيف الرأسمالية الجديدة تمثل الشكل الاول لظهور البروليتاريا الحديثة. وكان وضعهم واحلامهم هو اساس اكبر اليوتوبيات في الازمنة الحديثة، بل قل ان التغييرات المتسارعة والواسعة في جميع قوى التاريخ المدنية والثقافة والحضارة التي شهدها المجتمع الحديث قد خلق مناخاً روحياً شديد التفاؤل بالمستقبل وبيئة خصبة لتفتق الخيال والحلم والامل باستشراف المجتمع المثالي السعيد القادم، هذا ما عبر عنه بيكون في كتابه “اطلانطة الجديدة” وتوماس مور (1478-1535م), في (اليوتوبيا) وكامبانبلا في “مدينة الشمس” واذا كان حلم بيكون البارد بمجتمع منظم تنظيماً علمياً تجريبياً افلاطونياً صارماً، فان حلم توماس مور وكامبانيلا، كان حلم من لا يريد هذا التاريخ ويتمنى زواله ولا يحلم الا بحركته من جميع الحركات الى جميع الجهات حول محور العمل للانتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والجمال للجميع، انه حلم ناجم عن رؤية البؤس والفقر والالام، وتحول الناجين من الرق وجماهير المدن الكبرى الجائعين والحطام البشري المتبقى من النظام الافل الى عمال مأجورين تحت رحمة الاله المينفكتورية الجديدة التي تسحقهم بلا رحمة، هذا الوضع البائس قد خلق لديهم الرغبة والحلم، الرغبة في الهرب من تاريخ محكوم بالصراع والظلم والقبح والشر، وحلم البحث عن تاريخ العمل واللعب والابتهاج، ان رد فعل الانا الخلاقة كانت حلماً خافق الجناح نحو البحار القصية صوب المدن الدافئة والمرابع الندية، حيث الخير والحب والمأوى والعمل والفراغ والسعادة، لقد كان هذا الحلم والتمني والرجاء والمثال، الذي حرك خيال هؤلاء الفلاسفة، هو النجاح الذي حققه العلم في تغيير المجتمع، وكان عصر المعرفة الجديد يوشك ان يبدأ وقد وقف بيكون ومور وكامبانيلا على ضفاف الشاطئ الجديد.
على مشارف المرحلة الحديثة اذن، كانت هناك اساليب عدة يتحدث بها الاوروبيون عن التغير والزمن والتاريخ غير ان الحكم العام الذي يمكن اصداره على هذه المرحلة هو أن كل ميدان من ميادين المعرفة والبحث كان يمر في نمو وتوسع سريعين، وكان هناك اتفاق عام بين جميع المفكرين والعلماء من كل الاطياف والتخصصات، هو ان العالم، مهما يكن من باقي صفاته، ليس شيئاً ثابتاً ولا ناجزاً، بل هو في كليته وفي كل جزء من اجزائه، في تبدل ونمو وتغير وتطور وصيرورة ويرى “هرمان راندال” في هذا الحس العميق بأهمية الزمن، وبأهمية التبدل التاريخي، الذي يشمل كل شي، (من النجوم والذرات الى المجتمع والعقائد والمثل العليا)، لهو المزاج المشترك في الازمنة الحديثة.أما الى اين يتجه نمو عالمنا الفلكي البشري؟ وهل يصح تسمية هذا النمو تقدماً “او دوراناً او تدهوراً” فمسألتان يختلف فيهما الناس جميعاً.
وعلى الرغم من أن القرن السابع عشر، قد شغل اكثر ما شغل بتأسيس مناهج وطرائق المعرفة السليمة بل يمكن القول انه قرن التاريخ الطبيعي، وشيوع طريقة العلم النيوتوني، نسبة الى نيوتن، لكن حقل الدراسات التاريخية والتفكير الفلسفي في التاريخ وقواه، قد اتسع واكتسب ابعاداً منهجية ومعرفية جديدة، وهذا ما يمكن ان نراه عند عدد من فلاسفة التاريخ في بداية القرن الثامن عشر، أمثال الايطالي فيكو (1668-1774م) الذي تمكن الى حد بعيد من الافادة الواعية من التقدم الذي طرا على مناهج البحث والتحليل النقدي في العلوم, والمعلومات المتراكمة من الاستشراق والدراسات الانتربولوجية، وتوظيف كل ذلك في كتاب (العلم الجديد والطبيعة المشتركة للأمم) الذي تصور فيه تاريخاً عالماً واحداً يتحرك في ثلاث دورات كبرى تحت رعاية العناية الالهية.
وتعود اهمية فيكو في كونه اول من تصور ان التاريخ يشتمل على كل الخبرة البشرية في الحضارة والثقافة والمدنية، وهو عظيم الأهمية على صعيد التأسيس المنهجي لفلسفة التاريخ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى