هل يستيقظ “التنويريون” بعد غزة ؟
التنوير مصطلح أطلق في الغرب على مجموعة من المفاهيم التي ظهرت في القرن الثامن عشر على أيدي الفلاسفة والمفکرين ، ثم امتد أثره إلى العالمين العربي والإسلامي بألفاظه وأفكاره وعباراته فهيمن على الثقافة بمصطلحاته التي تنتصر للعقل والعلم والمعرفة في ظل سيطرة المنظومة الغربية على أنظمة ما بعد الاستقلال، يرى أصحابه أنه لا يحمل إلا الأفكار الصحيحة السامية التي لا يلامسها باطل ولا حتى خطأ، ويدعون بالتالي إلى تبني النموذج الغربي بحلوه ومره وخيره وشره ما يُحمد منه وما يُعاب ، على حد تعبير د.طه حسين، بحيث لا مجال لأي إصلاح او تقدم في بلادنا إلا باعتماد المرجعية الغربية التي تمثل نهاية التاريخ.
في هذا السياق نجد أن هذه الألفاظ تكاد تكون مترادفات تحمل نفس المعنى: تنويري، حداثي، عقلاني، عصراني، علماني…فكلها تحيل على تبني المفاهيم الغربية التي تستبعد الدين من الحياة الاجتماعية بخلاف ما يدعو إليه أصحاب المرجعية الإسلامية…وقد هيمن “التنويريون” على الحياة الثقافية في البلاد العربية والإسلامية وازدادوا زهوا باستنادهم إلى الرقي الدنيوي الذي حققه الغرب، فبشروا ألا مستقبلَ زاهرا إلا بإخضاع الفكر الإسلامي للفهم الغربي أي “علمنة” الإسلام، لذلك ضخموا “إيجابيات” الغرب وقزموا حاضر المسلمين وماضيهم الفكري والحضاري، وألغوا إمكانية ازدهار مستقبلهم إلا بالانضواء تحت راية الحضارة الغربية التي تمثل الخير والحق والجمال، وبعيدا عن السجالات النظرية جاء طوفان الأقصى ليطرح الأسئلة المفصلية الواقعية الحرجة على العلمانيين “المسلمين”: ما تفسيرهم للهمجية التي تبناها الغرب كله في مواجهة سكان غزة؟ ما قولهم في إجماع الغرب على تأييد الكيان الصهيوني في جرائمه – الموثقة قانونيا – وتبريرها سياسيا وتهوينها إعلاميا؟ ألا يرون أن الغرب قد فقد القيمة الأخلاقية وظهر على حقيقته المتوحشة التي تذكّرنا بإبادة سكان أمريكا الأصليين واستعباد الأفارقة وحرب فييتنام والجزائر؟ ألا يرون انهم يمنعون حتى وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة في حين أقاموا جسورا جوية لإمداد الكيان الصهيوني بالمعدات العسكرية وكل أسباب القوة والمجهود الحربي؟ لقد تبنى “التنويريون” طول الوقت موقف الغرب مما يسميه “الإرهاب”، فمن هو الإرهابي الآن؟ هل بقي شك في تصنيف الضحية والجلاد؟ ألم يروا أن الغرب يكذب وينكر الحقائق الملموسة الموثقة؟ هل سيتركون عنهم تأليه الغرب واتخاذه مرجعا وقدوة ونموذجا بعد ما رأوا زيف القيم التي ينادي بها؟ أين حقوق الانسان وهذا الغرب يساهم مباشرة في إبادة الأطفال والنساء والشيوخ والحيوانات في غزة؟ أين التنظير عن حقوق الحيوان وحماية البيئة وهم يشاركون في إبادة جميع أشكال الحياة في غزة؟ أين الرحمة بالحيوان المسكين والدعوة إلى عدم أكل لحمه وهم لا يكترثون بالتقتيل اليومي البشع لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ؟ أين تقديسهم للمرضى وهم يستهدفون حتى سيارات الإسعاف وينسفون المستشفيات؟ أين تقديسهم للعلم ولم يبق بغزة مدرسة واحدة؟ أين احترامهم لأماكن العبادة وقد هدموا جميع مساجد القطاع؟ أين احترام رأي الشعوب وجميع الشعوب تتظاهر منذ أكثر من أربعة أشهر مطالبة بإنهاء العدوان لكنهم صموا آذانهم عن سماع صوتها؟ أين قدسية الحوار والنقاش والحق في التعبير وهم يمنعون الأصوات السياسية والإعلامية الحرة من التعبير عن مواقفها كما هو شأن الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون مثلا؟ وصل الأمر بالكيان الصهيوني إلى ان منع ممثلة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من دخول فلسطين المحتلة ولم تحتج الحكومات الغربية على ذلك…ها قد رأى العلمانيون بأعينهم توحش هذا الغرب وتنكره لجميع المبادئ التي يروجها، هل يتوبون أم يصرون على تقديسه واتباع منهجه مهما ظهر فساده؟ لا شك أنهم رأوا ما رآه العالم كله، وأغلبهم اليوم تواروا عن المشهد الثقافي والإعلامي حتى لا يواجهوا الرأي العام العربي والإسلامي الذي سيحرجهم بالمشاهد الواقعية الميدانية في غزة وفي البلاد العربية التي تتبنى المرجعية الغربية، فكيف سيظهرون مرة أخرى؟
هل يستفيق “التنويريون” في البلاد العربية والإسلامية أم يتمادون في اعتبار الغرب النموذج الأفضل؟ هل سيغلب الواقع التنظير أم أن المسألة أقرب إلى العاطفة عند من يرفعون لواء العقلانية؟
عبد العزيز كحيل