مجتمع

هل الحيوانات واعية؟

هل الحيوانات الأخرى واعية؟

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

يجادل معظم الناس بأن الحيوانات لا تدرك بالقدر نفسه الذي ندرك به نحن البشر وجود ذواتنا والعالم من حولنا. لكننا لا نستطيع حتى اكتشاف وتعريف ماهية الوعي البشري بشكل قاطع جازم ينهي الجدال السرمدي بخصوصه، فكيف يمكننا التأكد من أن الحيوانات ليست واعية؟ حتى الصفات البشرية المعقدة المزعوم انفرادهم بها، مثل التعرف على الذات، يمكن ملاحظتها بدرجات وأشكال مختلفة في الحيوانات الأخرى، والوعي هو سلسلة متصلة، وأبسط تفسير لوجوده عند البشر هو أنه تطور بخطوات تطورية صغيرة وتراكمية عبر الاصطفاء الطبيعي، تماماً مثل باقي أعضاء وبنى أجسامنا، وإذا صح ذلك، فيمكننا أن نرى أسلافنا وأبناء عمومتنا في الحيوانات الراهنة والذين تطوروا بطريق مختلف يلائم نمط حياتهم الخاص. إذا كنا واعين بالشكل الذي نعتقد أن هو الوعي الحق، فمن المحتمل أن يكون العديد منهم كذلك، على الرغم من أن ذلك ربما يكون ليس بالطريقة نفسها تماماً.

العنف

يقسم عالم الرئيسيات وعالم الأعصاب روبرت سابولسكي السمات والسلوكيات البشرية إلى 3 فئات: السلوكيات التي dشترك بها البشر مع الأنواع الحيوانية الأخرى، والسلوكيات التي نمتلك لها نحن البشر نفس الأدوات مثل الأنواع الأخرى، ولكننا نستخدمها بطريقة جديدة، والسلوكيات التي لم يتم العثور عليها بعد في مخلوقات أخرى. تعتبر الفئة الأخيرة هي الأصعب من نواحٍ كثيرة في التأكد منها لأنه في كثير من الأحيان يتم اكتشاف ما يبدو أنه فريد بالنسبة للإنسان، من خلال التجارب الدقيقة، بأنه موجود في الحيوانات الأخرى و إن كان بأشكال و مظاهر قد تكوت مختلفة عما هي عليه عند البشر. لكن هذا هو جمال العلم: عندما نطرح الأسئلة الصحيحة، نتعلم أكثر مما شرعنا في القيام به.
خذ على سبيل المثال قضية السلوك العنيف. يمكن أن تكون الطبيعة قاسية بلا رحمة. لكن العلم ساعد في إلقاء الضوء على الاستمرارية بين بعض الجوانب الأقل قبولاً لسلوك الإنسان والحيوان.
يمكن للبشر أن يكونوا قساة بشكل لا يصدق تجاه بعضهم البعض، ناهيك عن المخلوقات الأخرى التي نتشارك معها الأرض. لكن هناك أنواعاً أخرى تمارس الإبادة الجماعية، ووأد الأطفال، وقتل الأشقاء، وأشكال أخرى من القتل العمد. الذكر القائد من جنس غوريلا الجبال يقتل أطفاله وأطفال الآخرين من الذكور خوفاً من أن يتحولوا إلى منافسين في المستقبل. والنسر يرمي الماعز الجبلي من المنحدرات لقتله. و يبدأ العديد من الحيوانات المفترسة الكبيرة في أكل فرائسها وهي تنازع.
قد تجادل بأن هذه الحوادث تشمل قتل الحيوانات الأخرى من أجل الغذاء، وتلك ليست قسوة فعلية لا معنى لها، وعنفاً تجاه الآخر فقط للتسبب في ألمه ومعاناته. لكن الأسود تقتل أشبال الفهود أو غيرها من الحيوانات المفترسة المنافسة التي لا علاقة لها بها ولن تأكلها بعد ذلك. وهناك أنواع أخرى تسبب المعاناة لأفراد جنسها، مثل النمل الذي يقتل مستعمرة أخرى.
تم شرح معظم، إن لم يكن كل، أمثلة العنف في عالم الحيوان من مدخل الصراع على الموارد الشحيحة. ويبدو أن قتل الأطفال، على سبيل المثال، يتعلق بالوصول إلى الإناث، اللواتي من المرجح أن يتزاوجن ويتكاثرن مع المنتصر.
يمكن لمعظم الناس تقبل العنف بين أعضاء الأنواع الأخرى، حتى الرئيسيات، لأننا نتخيل أن الحيوانات لا يمكنها التعاطف مع أعدائها ولا تتفهم أن كائناً آخر قد يعاني. وقد نقول إنهم لا يمتلكون شعور التعاطف.

التعاطف والرحمة

هل صحيح أن التعاطف صفة إنسانية فريدة؟ هل المعاناة النفسية خاصة بنا أيضاً؟ بمعنى آخر، هل تشعر الحيوانات الأخرى بألم اجتماعي كما نشعر به عندما نرى صديقاً محبوباً أو أحد أفراد الأسرة يعاني ويموت؟
ما هو نوع الوعي اللازم للشعور بالألم الاجتماعي؟ أولاً، يجب على المرء أن يطور الإحساس بالذات، وهو نوع من الهوية المتماسكة التي يمكن فصلها عن الآخرين.
عند الأطفال الرضع، يبدو أن هذا الإحساس يتطور في وقت ما في السنة الثانية من العمر، عندما يبدأ الأطفال الصغار في فهم أن ما يجري داخل رؤوسهم ليس واضحاً لمن حولهم. حتى يكتسبوا هذا الفهم، نعتقد أنهم يعملون بداية بالاعتقاد بأن الوعي جماعي، وأننا جميعاً نتشارك عقلاً واحداً.
استخدم علماء النفس الإنمائي عدداً من الطرق الذكية لتقييم ظهور الهوية الذاتية. لاحظوا أن الأطفال الصغار يبدؤون في استخدام الضمائر «أنا» و «أنت» في هذا الوقت تقريباً. ثم يبدؤون في التعرف على أنفسهم في المرايا.
في الواقع، اختبار المرآة، الذي يتضمن ما إذا كان الحيوان يستطيع معرفة أن صورته تنعكس على المرآة أو ما إذا كان يعامل الحيوان الموجود في المرآة كحيوان آخر، هو الاختبار الكلاسيكي للتعرف على الذات في الأنواع الأخرى.
يُنسب إلى جوردون جالوب أنه ابتكر نسخة من اختبار المرآة التي أصبحت مشهورة الآن. أعطى صغار الشمبانزي مرآة للعب بها ولاحظ أنهم بدأوا في استخدامها كأداة للتحديق في أجزاء من أجسادهم لا يمكنهم رؤيتها بطريقة أخرى، مثل داخل أفواههم.
لكنه لم يكن متأكداً من أن الحيوانات يمكنها معرفة أن الشمبانزي الموجود في المرآة هو نفس الشمبانزي الذي يقف أمام المرآة، لذلك قام بتخديرهم ثم رسم علامات حمراء على وجوههم. عندما استيقظوا، حاولوا على الفور إزالة العلامات من وجوههم، وليس من الصورة في المرآة، مما يدل على أنهم يفهمون أن المرآة كانت انعكاساً لأنفسهم.
منذ ذلك الحين، تم استخدام هذا الاختبار لتقييم التعرف على الذات في العديد من الأنواع الأخرى، بما في ذلك الأطفال الصغار من بني البشر، الذين يفشلون عموماً في هذا الاختبار حتى حوالي 18 شهر. ينجح معظم أجناس الرئيسيات من السعالي والبونوبو والشمبانزي وغوريلا الجبال في الاختبار. ومن اللافت اجتياز بعض الأفيال والدلافين والحيتان القاتلة، وربما حتى طيور العقعق، لاختبار المرآة.
على الرغم من أن الكلاب والقطط تفشل في الاختبار، فمن المحتمل أنها فشلت ليس لأنهم لا يملكون إحساساً بالذات، ولكن لأنهم لا يستخدمون حواسهم بالطريقة التي نستخدمها. فالكلاب، على سبيل المثال، لا تستطيع الرؤية جيداً، لذا ربما يتعرفون على أنفسهم بالرائحة، بدلاً من البصر.
بينما لا يمكننا استخدام اختبار المرآة بشكل قاطع لتأكيد أو رفض وجود قدرة التعرف على الذات في بعض الأنواع، لكن هناك أدلة مقنعة كافية لاستنتاج أننا لسنا الجنس الحيواني الوحيد الذي لديه إحساس بالذات، على الرغم من أن بعض علماء الأعصاب يرفضون هذا الدليل ويدعون بأن الوعي الذاتي يظل فريداً لدى البشر.
الخطوة التالية في تطوير التعاطف هي إدراك أن أفكارك ومشاعرك ومعتقداتك قد تختلف عمن حولك. يسمي علماء الأعصاب امتلاك هذه القدرة بنظرية العقل، والتي جوهرها: تطوير فهم بأن الآخرين لديهم أيضاً إحساس بالذات مع آمال ومخاوف ورغبات قد تكون مختلفة عن تلك الموجودة في ذات الناظر إليهم.
الخداع هو إحدى الطرق التي يمكن لعلماء الأعصاب من خلالها تقييم تطور نظرية العقل لدى كل من الأطفال والأنواع الأخرى. يمكن للعديد من الحشرات إخفاء نفسها أو تطوير أنماط من العلامات لخداع فرائسها. يمكن أن تتظاهر الحشرات الأخرى بالإصابة أو حتى الموت لتشتيت انتباه مفترسها. لكن هذه الأمثلة مكتوبة في الحمض النووي الخاص بهم ويتم التعبير عنها دون نية الحيوان في الخداع.
ستمتنع القرود عن الإعلان عن اكتشافها لمصدر غذائي إذا كان الطعام لذيذاً بشكل خاص. وسوف تنتظر تلك القرود حتى يتم تشتيت انتباه أقرانهم قبل الانخراط في نوع من السلوك الذي لا يُرغب بإعلانه، مع العلم أنه إذا تمت ملاحظتهم فقد تكون هناك عواقب اجتماعية.
هناك العديد من الدراسات التي توضح الفشل المتكرر للعديد من الأنواع الحيوانية لإثبات نظرية العقل. عندما نختبر الحيوانات من خلال عدساتنا البشرية، بافتراض أنها ترى العالم مثلما نراه نحن، نصبح مقتنعين بسهولة أن تلك الحيوانات أبسط منا معرفياً.
تفشل العديد من التصميمات التجريبية في فهم حقيقة أننا قد لا نكون قادرين على النظر داخل عقول الحيوانات الأخرى بشكل فعال مثل أفراد نفس نوعهم الحيواني.
وفي الحقيقة يعد تقييم التعاطف حتى في جنسنا البشري تحدياً كبيراً، إذ لا يبدو أن الاختبار السلوكي للتعاطف الذي لا يعتمد على التقرير الذاتي من قبل الذي يتم الاختبار عليه اختبارا متاحاً حتى الآن لتطبيقه على الحيوانات. بالإضافة إلى ذلك، فإن إظهار التعاطف أي القدرة على وضع نفسك مكان شخص آخر، والشعور بما يشعر به، قد لا يكون كافياً لفهم إحدى أعظم فضائل البشرية، وأعني هنا الرحمة والتراحم.
يعرّف علماء وظائف الدماغ البشري التعاطف بأنه القدرة على فهم أو الشعور بما يمر به شخص آخر، من خلال أخذ منظور الشخص الآخر، ويتقدم التراحم عن التعاطف خطوة إلى الأمام، من خلال إيقاظ الرغبة في تقليل المعاناة لدى الشخص الذي يتم أخذ وجهة نظره.
بالتعاطف، ولكن بدون التراحم، يمكن أن نكون متعاطفين وسلبيين إلى درجة اللامبالاة في بعض الأحايين، وربما تمثل الرحمة نوعاً من الوعي الفريد حقاً بالنسبة لجنسنا البشري.
الرحمة لا تتطلب فقط القدرة على فهم ما يمر به الشخص الآخر والمعاناة مع ذلك الشخص، لإعادة تكوين تجربته الذاتية في أذهاننا بشكل أساسي، ولكن أيضاً الشعور بالدافع والحاجة إلى تقليل معاناته.
هل توجد أمثلة أخرى في الأنواع الحيوانية الأخرى غير البشر تظهر سلوكيات تتماشى مع الرحمة؟ في إحدى الدراسات، اختار الشمبانزي تقديم الهدايا لأقرانه، حتى لو لم يبد أن فعله السخي يجلب له أي فائدة. تظهر هذه الدراسة أنه، على الأقل عندما لا يكلف الشمبانزي ذلك كثيراً، فيمكنه حينئذ التفكير في مشاعر ورغبات أقرانه من القردة الآخرين.

سلوكيات معقدة

لأننا نتشارك الكثير من شيفرة الحمض الريبي النووي، وبالتالي السلوكيات المرتبطة والنابعة منه، مع الرئيسيات الأخرى، فليس من المستغرب أن العناصر البدائية لأفكارنا ومشاعرنا المعقدة يمكن ملاحظتها في هذه الأنواع.
ولكن يمكننا أن نرى سلوكيات شبيهة بالبشر معقدة حتى في الحيوانات التي يكون أنظمتها العصبية مختلفة جداً لدرجة أنها تكاد تتحدى المقارنة. خذ الأخطبوط على سبيل المثال. أكثر من نصف الخلايا العصبية للأخطبوط ليست في دماغ مركزي؛ إنها في أذرعها. ويبدو أن لكل ذراع عقلاً خاصاً بها: إذا فصلتها عن باقي جسد الحيوان، فلن تزحف بعيداً فحسب، بل إذا واجهت بعض الطعام، فستأخذ الطعام وتحاول وضعه في المكان الذي كان يجب أن يكون الفم فيه، كما لو أن الذراع لا يزال متصلاً.
ولقد تبين أن الأخطبوطات في الأسر تلعب بالزجاجات مثل الألعاب. و يعتبر اللعب سلوكاً يتفق معظم الناس على أنه مخصص للحيوانات الذكية إلى حد ما. و في الحقيقة سيخبرك صاحب المَرْبَى المائي حتى أن هذه الحيوانات يجب أن يكون لديها فرص لتلعب للبقاء بصحة جيدة.
تشبه أعين الأخطبوط إلى حد كبير أعيننا، مع القرنيات الشفافة، والقزحية التي تنظم كمية الضوء التي تدخل العين، وحلقة من العضلات التي تركز على العدسة، ولكن مع وجود أدمغة مختلفة هيكلياً ووظيفياً، فإن تجربتهم في العالم تختلف اختلافاً كبيراً بالتأكيد عن تجربتنا.
ومع ذلك، فإن عيون كلا النوعين عبارة عن أعضاء معقدة بشكل رائع، وهي معقدة للغاية لدرجة أن العديد من الناس يجدون صعوبة في تخيل كيف يمكن للعين أن تتطور بخطوات صغيرة على مدى ملايين السنين. ومع ذلك، فبالنظر إلى الوقت الكافي والعديد من الخطوات الإضافية، يمكن أن تصل الطبيعة إلى بعض المنتجات النهائية المذهلة من قبيل أعين بني البشر وعقولهم.
نفس التحليل السالف يمكن سحبه على مسألة الوعي. غالباً ما نفكر في الدماغ الواعي على أنه مختلف نوعياً عن الدماغ الذي يفتقر إلى الوعي. ولكن إذا نظرنا إليه من منظور تطوري، أي إذا فكرنا في خطوات تدريجية على مدى ملايين السنين، فلا ينبغي أن نتوقع رؤية خط فاصل صارخ بين الدماغ الواعي والدماغ اللاواعي. لا توجد قفزة مفاجئة من حالة إلى أخرى، ولكن بدلاً من ذلك، عندما نفكر من منظور تطوري، نبدأ في تقدير كيف تكون الأدمغة الحيوانية سلسلة متصلة، وأن الوعي البشري هو نتيجة عمليات تطورية أفضت إلى شكله الراهن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى